Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أشتات

نظرية التمييز بين الدعوي والسياسي.. منطلقات التأصيل وإشكاليات التفعيل (2)

إشكاليات التفعيل

إن نظرية التمييز بين الدعوي والسياسي لا زالت تكتنفها عدد من الإشكاليات المعيقة لتفعيلها في واقع الأحزاب الإسلامية في عدد من الأقطار، وأهمها في نظرنا ثلاث إشكاليات: إشكالية الخلط بين التمييز والفصل التام، وإشكالية واحدية القيم وشمولها، وإشكالية التقاطع مع الحجاج العلماني.

أولاً:إشكالية الخلط بين التمييز والفصل التام:

إن مقولة: “فصل الدين عن السياسة” قد يراد بها فصلاً نسبياً غايته عدم اعتبار الممارسة السياسية ذات قداسة دينية، وإنما ممارسة بشرية اجتهادية خاضعة لمنطق الصواب والخطأ، وهذا الاستعمال لمصطلح “الفصل” يقترب كثيراً من مفهوم “التمييز” بين السياسي والديني.

وهنالك من يجنح إلى القول بفصل السياسي عن الديني فصلاً تاماً، و “نظريات الفصل” قد تستهوي البعض كاستهواء “نظريات النهايات” ولكن تبقى الحياة أعقد بكثير من أن يخط فيها البعض بقلمه “فاصلا” هنا، أو يرسم “نهاية” هناك!

نستطيع أن نقرر في أذهاننا أو في أوهامنا حدوداً فاصلة وحاسمة بين الأشياء، ولكن في الواقع ليس ثمة حدود ولا فواصل، ولكن تواصل وتشابك بين مختلف المجالات!

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن نداء الذاكرة يرجع بنا هنا إلى فترة عانت فيها الشعوب الغربية كثيراً من الاستبداد والظلم الناتج عن اجتماع سلطة التشريع والتنفيذ لشخص واحد، ومن تلك المعاناة تولدت نظرية “الفصل بين السلطات” ، وأول محاولة  لذلك كانت في بريطانيا سنة 1653م، حين دعا القائد السياسي والعسكري الانجليزي الشهير “كرومويل” (1599 ــــ 1658م) إلى ضرورة التمييز بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، تمهيداً للفصل بينهما.

ثم جاء المفكر والفيلسوف الانجليزي “جون لوك” (1632 ــــ 1704م)  وتبنى الفكرة وعمل على إحيائها من جديد، ثم جاء من بعده المنظر والفيلسوف السياسي الفرنسي “مونتسكيو” (1689 ــــ 1755م) فاهتم كثيراً بالتنظير لمبدأ الفصل بين السلطات، وأصبحت هذه النظرية من أكثر نظرياته شهرة، حتى إنها اقترنت باسمه.

ومع أن  ما دعا إليه “مونتسكيو” كان فصلاً نسبياً وليس فصلاً تاماً،  فهنالك من جنح وتطرف في تفسير النظرية لاسيما رجال الثورة الفرنسية والأمريكية فقد كانوا شديدي الاعجاب بنظرية “مونتسكيو” في الفصل بين السلطات، وانتهوا في تفسيرها إلى القول بالفصل المطلق بين السلطات، وهو ما يعني انتهاء كل علاقة أو تداخل بين الهيئات القائمة على مباشرة سلطات الدولة! لكن ذلك الفهم المتطرف لنظرية الفصل اصطدم بالواقع، وأصبح مسألة نظرية يصعب أو يستحيل تطبيقها حرفياً حتى في ظل الأنظمة الديمقراطية؛ ففي الدول الديمقراطية التي تأخذ بالنظام البرلماني ((يوجد تداخل كبير بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بطريقة قد يصبح الفصل بينهما صعباً، فرئيس الوزراء وكذلك أعضاء الحكومة ينتمون إلى الحزب أو مجموعة الأحزاب التي تشكل الأغلبية في البرلمان؛ وبالتالي يمكن أن يتصور نظرياً على الأقل أن المعارضة في النظام البرلماني هي دائماً أقلية، وهذا قد يضعف كثيراً الدور الرقابي للبرلمان على سلوك وتصرفات الحكومة. ويزداد هذا الأمر وضوحاً عندما يتمكن حزب واحد من الحصول على أغلبية كبيرة ومريحة في البرلمان، ويكون هناك انضباط تصويتي واضح؛ ففي هذه الحال يسهل على الحكومة تمرير كل ما تراه من تشريعات وإقرار كل ما تمارسه من سياسات داخل البرلمان، كما تصبح احتمالات إسقاط الحكومة عن طريق سحب الثقة منها محدودة، وربما غير ممكنة)) [1].

وحتى في الأنظمة الديمقراطية التي تأخذ بالنظام الرئاسي، والتي عادةً ما توصف بأنها أكثر تحقيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات، نجد أنواعاً من التداخل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والقضائية، ففي الولايات المتحدة الأميركية، وهي تعتبر النموذج الأبرز لنُظم الحكم الديمقراطي الرئاسية نجد ((للرئيس دوراً في العملية التشريعية يتمثل في حقه في الاعتراض على القوانين التي يقرها الكونجرس خلال عشرة أيام، وفي هذه الحالة يتعين على الكونجرس إعادة النظر فيها، فإذا ما أقرها مرةً ثانية بأغلبية الثلثين اعتبرت نافذة. وفي المقابل نجد أن للكونجرس دوراً في مباشرة بعض اختصاصات السلطة التنفيذية يتمثل في اشتراط موافقة مجلس الشيوخ على موظفي الدولة بصفة عامة. كما يمكن أن تمارس السلطة التشريعية أو التنفيذية بعض الصلاحيات التي تعتبر في الأصل من اختصاصات السلطة القضائية، فللرئيس حق تعيين القضاة في مستويات معينة، كما أن للكونجرس حق تشكيل لجان تحقيق في موضوعات أو قضايا معينة)) [2].

ولذلك أصبح المبدأ السائد اليوم في النظم السياسية المعاصرة هو تنظيم عمل السلطات الثلاث وليس الفصل بينها.

فهل يمكننا البناء على هذه الخبرة التاريخية والقول إن الدعوة إلى الفصل بين الديني والسياسي هي دعوة تتجاوز الواقع، وأنه بدلاً من الدعوة إلى “الفصل” بين المجالين نستطيع أن نطلق دعوة أكثر واقعية وهي الدعوة إلى التمييز بين المجالين ومن ثم تنظيم العلاقة بينهما؟

إن دعاوى الفصل بين خيوط الحياة المتشابكة قد تريح الباحثين عن الحلول السهلة والحاسمة، وإن كان ذلك الحسم يمكن تحقيقه في الأذهان لا في الأعيان! فأكثر الدول عراقة في العلمانية والديمقراطية لم تستطع أن تفصل فصلاً تاماً بين الديني والسياسي، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، ففي فرنسا أم العلمانية ــ كما يقول البعض  ــــ تم تنصيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الفاتيكان كاهناً لكاتدرائية القديس يوحنا اللاتراني، وحمل ماكرون لقباً يدل على ذلك وهو “canonicus “.

وفي بريطانيا حيث الدولة الأعرق في الديمقراطية في العصر الحديث؛ نجد أن الملكة إليزابيث هي رئيس الكنيسة، وصاحبة لقب “حامية الإيمان” و “حامية العقيدة” وقد زارت البابا في الفاتيكان أكثر من مرة بصفتها رئيسة كنيسة إنجلترا.

ويمكن للمرء أن يذكر المزيد من الشواهد على أنه لا يوجد فصل تام بين الديني والسياسي كما يتوهم ويتخيل البعض، ولكن هنالك تنظيم للعلاقة بين الديني والسياسي، وقد نجح هذا التنظيم في الحد من نفوذ الكنيسة الغربية في الشأن السياسي العام، مع الإبقاء على وجودها المعنوي والروحي.

وفي عبارة موجزة يلخص الدكتور سعد الدين العثماني العلاقة بين الديني والسياسي ــ في ظل دعوته للتمييز بين الديني والسياسي ــ فيقول: ((الدين حاضر في السياسة  كمبادئ موجهة، وروح دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية)) [3].

وفي اجتماعه الاستثنائي المنعقد في يوليو2006 نجد الرؤية واضحة لدى حزب العدالة والتنمية المغربي حيث أقر المجتمعون الورقة المذهبية، وقد جاء فيها: ((وهكذا فإن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليست هي الفصل المطلق بين المجالين (…) ولكن في المقابل ليست العلاقة هي التماهي المطلق على اعتبار أن الممارسة السياسية هي بطبيعتها ممارسة بشرية)) [4].

وإذن فنظرية التمييز بين الدعوي والسياسي بحسب تعبير أستاذ التنظير السياسي الكبير الدكتور سيف الدين عبدالفتاح ((آلية مهمة فيها فصل ووصل، وللفصل مساحاته وللوصل مساحاته)) [5].

ولا يخفى أن مساحات الفصل والوصل تحتاج إلى فضاء ديمقراطي لا يفرض حالات الفصل ولا يضيق ذرعاً بحالات الوصل، وحين يضيق فضاء الديمقراطية وتتطرف النزعة العلمانية تظهر دعاوى الفصل التام بين  الديني والسياسي لتعبر عن ديمقراطية هشة ونزعة علمانية غير عقلانية.

إن الفعل السياسي في أي مجتمع ينطلق من ثقافة وهوية المجتمع، وحتى لا يصبح الفعل السياسي معزولاً عن المجتمع وبالتالي فاقداً لفاعليته الحضارية؛ لابد له من مد جسور الصلة مع ثقافة المجتمع واحترام معتقداته وتقاليده.

يتبع..

الهوامش:

  1. د. حسن نافعة: مبادئ علم السياسة. ط3، مكتبة الشروق، القاهرة 1428 هـ ــــ 2007م، ص 267 ـ 268.
  2. المرجع السابق، ص 270.
  3. د. سعد الدين العثماني: الدين والسياسة تمييز لا فصل ــ مرجع سابق ــ ص101.
  4. المرجع السابق، ص134.
  5. الجزيرة نت: التمييز بين السياسي والدعوي… قناعة أم استجابة لضغوط: {هنا}

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى