سوف نتجولُ بكم في رحلةٍ داخل مفهوم الحرية وحقوق الإنسان في الفكر الغربي لنرى بوضوح كيف أنَّ الفكر الغربي يخفي وجهًا قبيحًا يتعلق بتطبيق هذه المبادئ, بل ويعطي دروسًا لغيره مع أنه في أشدِّ الحاجة إليها.
أولًا: الأخلاق والحرية :-
في الآونةِ الأخيرة أصبحنا ندركُ وبكل وضوح التهديدات التي تتعرضُ لها حقوق الضمير في مختلف المجالات خاصة تلك الحقوق المتعلقة بحرمةِ الحياة البشرية, والأخلاق الجنسية, والزواج, والأسرة, هذه التهديدات تعكسُ المواقف والأيديولوجيات التي باتت متجذِّرة بعمق في الفكر الغربي, دفع هذا الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما والكثير من المسؤولين الاتحاديين, ومسؤولي الدولة إلى تبني سياسات تسحق حقوق الضَّمير مثل الأمر الرَّسمي الصَّادر بالسَّماح لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية سيئة السمعة ( HHS) بعقاقير منع الحمل والإجهاض وذلك لأنهم تشربوا بعمق عقائد جيل “الأنا” والتي لا تقيم وزنًا لفكرةِ حقوق الضَّمير.
من ناحيةٍ أخرى وبصفتها الأمين الأول للصحة والخدمات الإنسانية للرئيس بارك أوباما أصرت دكتور كاثلين سيبيليوس جنبًا إلى جنبٍ مع الإتحاد الأمريكي لتنظيم الأسرة, وغيرهم من المتعاونين الوثيقين على أنَّ أي معارضة لأمر وزارة الصحة والخدمات الإنسانية إنما هي معارضة لصحةِ المرأة والعلم نفسه, لكن للأسف يشوبُ كلامها تناقضٌ صارخ حيث أنه لا وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية ولا البيت الأبيض استجابا بشكلٍ جدي لطوفان الأدلة الذي قدَّمه الخبراء موضحين من خلالها عدم وجود دعم علمي للادعاءات الطبية والديموغرافية والاقتصادية المرتبطة بأمر وزارة الصحة بالإضافة لتناقض ذلك مع أخلاقيات علم القانون, فهذه الممارسة التي تقوم على رفض التعامل مع الأدلة ذات الصلة تحت ستار عباءة العلم لإسكات المعارضين إنما هي أمر يشترك فيه أعداء الضمير.
هذا الأمر ليس جديدًا على إدارة الرئيس أوباما أو الإدارة الأمريكية بشكلٍ عام لصالح فكرة الحرية, فمثال مهم لهذه التكتيكات ظهر عام 2008 عندما أصدرت الكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد (ACOG) تقريرًا أوصى بإنكار حماية الضمير ذات المعنى للمهنيين الطبيين على أساس تفضيل غير قانوني وموجه بشكلٍ أيديولوجي لإتاحة الإجهاض على نطاقٍ أوسع.
ثانيًا: العلم أم الآراء الشخصية :-
في 11 من سبتمبر من العام ( 2008) استمع مجلس الرئيس المعني بأخلاقيات البيولوجيا لشهادة السيدة آنا لييرلي الطبيبة و رئيسة لجنة الأخلاقيات في (ACOG) ظهرت الدكتورة لييرلي فيما يتعلق بمراجعة المجلس لرأي لجنتها (رقم 385) بعنوان: “حدود الرفض الضميري في الطب التناسلي”, اقترح هذا الرأي أن يتطلب من الأطباء في مجالِ صحة المرأة بصفتها مسألة واجب أخلاقي إحالة المرضى إلى الإجهاض وفي بعض الأحيان أن يجهضن أنفسهن.
في الحقيقة كان رأي لجنة الأخلاقيات صادم ومخيف. أحد أهم مشكلات هذا الرأي هو عدم احترامه حقًا للمطالبات النَّابعة من ضمير الأطباء المؤمنين الذين يرفعون قيمة الحياة البشرية وكذلك من الأطباء غير المؤمنين المؤيدين للحياة, لقد تمَّ التعامل مع قتل الجنين كما لو كان مسألة من مسائل الرعاية الصحية, ويبدو لنا أنَّ الغاية من ذلك ليست طبية بالمعنى الطبي وإنما هي مجرد تحقيق لرغبات منحرفة ليس لها غطاء طبي حقيقي تحت مسمى الحرية.
ولنضرب مثلًا بأنَّ امرأة حملت بطفلها ولكنها لم تكن سعيدة بذلك، هل هي مريضة؟ هل تحتاج إلى إجهاض من أجلِ صحتها؟ لا يوجد أي عاقل أو فهم معقول أو تعريف للصحة يقول بهذا, فالحمل ليس مرضًا, الحمل عملية طبيعية بيولوجية لاستمرار الجنس البشري, وحتى في الغالبية العظمى من الحالات لا يشكل الحمل تهديدًا لصحة المرأة, لكن لنجعل الأمر أكثر وضوحًا دعونا نتصور أن هذه المرأة التي كانت غير سعيدة في البداية بأنها حامل بعد تأمل وتفكير أصبحت راضية وسعيدة أنها سترزق بطفل في قابل الأيام, هل هذا يعني أنها تحولت الآن فجأة إلى مريضة وتحتاج للعلاج في شكل إجهاض لتستعيد العافية؟ بالطبع لا, وعلى هذا فالأمر يجيبُ عن نفسه وهو أنَّ الحمل أمرٌ طبيعيٌ وأن محاولة الإجهاض للحفاظ على صحةِ المرأة بدون سببٍ طبيٍّ يبنى عليه الأمر إنما هو محاولة لقتل ملايين الأجنة دون سند تحت ذريعةِ الحرية.
من ناحيةٍ أخرى, فإنَّ الطبيب الذي يرفضُ إجراء عملية الإجهاض, وكذلك الصيدلي الذي يرفض منح عقاقير للإجهاض دون سبب علمي قوي لا يجبر أحدًا, ولكنه ببساطة يرفض المشاركة في تدمير الحياة الإنسانية, فمثل هذا الطبيب أو الصيدلي لا يفرض أي شيء على أي أحد, لكن عمل المسؤولين عن التقرير مثل الدكتورة لييرلي على إكراه الأطباء والصيدليين على مثل هذه الأمور ليخالفوا وجهة نظرهم العلمية والأخلاقية والفلسفية, بل وذهب الأمر أبعد من ذلك حرصت هذه اللجنة على إيقاف أي طبيب أو صيدلي عن العمل في حالة مخالفة ما يود القائمين على (ACOG) شرعنته.
إذا ما اتبعنا نصيحة اللجنة فإنَّ المجال الطبي سيفقد الأطباء المؤيدين للحياة الذين لديهم قناعات أخلاقية وفلسفية بخطورة عملية الإجهاض, وبالتالي إقصاء الكثير من الأطباء المسلمين والمسيحيين واليهود, وهكذا سيفقد مجال طب النساء والتوليد أطباء كثر على درجة عالية من العلم لمجرد أنَّ لهم قناعات تخالف اللجان التي يسيطر عليها العلمانيين, و سيكون الميدان بأكمله مكون من أشخاص يتفقون فكريًا مع آراءِ اللجنة.
ثالثًا: الإجهاض و الضَّمير:-
دعمت إدارة أوباما بشكلٍ مباشر وغير مباشر عملية الإجهاض, وقد امتدت تلك الأفكار إلى الحياة السياسية بشكلٍ واسع, وعلى حدِّ علمي لم تدعم تلك الإدارة أي تقييد لمسألة الإجهاض وعلى النقيض من ذلك كانت تعمل بشكل كبير على توسيع دائرته, إذ قال الرئيس أوباما كلمته الشهيرة (إذا حدث وارتكبت أحد بناتي خطأ فلا أريد أن تُعاقَب بطفل), وفي ذات السياق حرصت الإدارة الأمريكية آنذاك على معارضة التشريع القانوني الذي يمنع الإجهاض الجزئي للولادة (والإجهاض الجزئي هو إجراء يقتل فيه الرضيع بعد أن يكون قد ولد وصار خارج جسد المرأة), وقد عملت الإدارة الأمريكية آنذاك على مكافحة قوانين تعمل على حماية الأطفال الذين يولدون أحياء بعد محاولة إجهاض فاشلة, وفي الوقت ذاته كذلك ألغت الإدارة الأميركية آنذاك ما يُعرف بسياسة “مكسيكو سيتي” والتي كانت تحظر الحكومة الأمريكية من تمويل مؤسسات تجري عمليات الإجهاض في الخارج أو تعززها, وهكذا فقد حاولت الحكومة الأمريكية شرعنة الإجهاض من النَّاحية القانونية, تحت ذريعة الحرية, الأمر الذي يدمِّر كل قيمة للإنسان وكأنه وهو في رحم الأم لا شيء.
رابعًا: إلغاء الزواج كما نعرفه وتدمير الحياة الطبيعية :-
يحاول أنصار العلمانية كذلك القضاء على مفهوم الزَّواج كما نعرفه من خلال إضفاء الشرعية على العلاقات خارج الزواج والترويج لما يعرف بالمثلية الجنسية, ولعلنا نذكر ما تمَّ نشره في صحيفة “نيويورك تايمز” بواسطة الكاتب العلماني دان سافاج والذي حاول أن يدعو للجنس خارج نطاق الزواج, إنَّ مثل هذه العلاقات وبدون أدنى شك سوف تعمل على تدمير الأسرة بشكلٍ كامل, وبناء مسخ بدلًا منها تحت ما يسمى “الحرية”. من ناحية أخرى دعم عدد من الليبراليين الأمريكان والأوروبيين فكرة الجنس خارج نطاق الزواج وكذلك ما يُعرف بالمثلية, لكن أمثال هؤلاء العلمانيين لم يدركوا ولو للحظة أنَّ مثل هذه الأفكار سوف تدمر الجنس البشري من جذوره وسوف يؤدي الأمر بنا إلى التسامح مع العلاقات بين القاصرين, والتي باتت بفعل أفكارهم الشنيعة محط شرعنه قانونية في أوروبا, ولعلَّ خير شاهد على ذلك ما طرحه مايكل سينيوريل مدافعًا عمَّا يعرف بإعادة تعريف الزواج, حيث عمل على تشجيع ما يسمى بالمثلية, فيقول: “المطالبة بالحق في الزواج ليس للالتزام بالمعايير الأخلاقية للمجتمع بل لكشف أسطورة وإحداث تغيير جذري لمؤسسة بالية”, إنَّ أي شخص لديه حظٌّ من العلوم القانونية يدرك تمامًا خطر منح هؤلاء إعادة تعريف الزواج؛ لأنَّ أعظم عمل تخريبي يفعله هؤلاء هو تغيير مفهوم الأسرة وشكل الزواج, لذلك يجب على كل مختص في العلوم القانونية لديه قيم أخلاقية, التصدي لمثل هؤلاء الجناة.
قائمة المراجع في سلسلة البحث :-
- كتاب اليوتوبيا الأخيرة (تاريخ حقوق الإنسان): عالم القانون والسياسة والتاريخ: بروفيسور صمويل موين.
- كتاب ركائز في فلسفة السياسة: العالمة و فيلسوفة العلوم: بروفيسورة يمنى طريف الخولي.
- كتاب الضمير و أعداؤه (نقد عقائد العلمانية الليبرالية):عالم القانون والسياسة: بروفيسور روبرت جورج.