أشتات

نكسة الوجدان العربي: من العجز الرمزي إلى العجز السياسي إلى طوفان المقاومة

في غمرة أزمة تشرين الثاني سنة ١٩٤٣م، إبّان النزاع السياسيّ بين فرنسا ولبنان، دُعي هشام شرابي إلى مكتب تحقيقٍ يترأسه ضابطٌ فرنسيٌّ مُستعمِر، بتُهمةٍ واهيةٍ من تُهم التجسّس. وقد سطّر شرابي في نفيس سيرتِه [الجمر والرماد] تلك الواقعة في مقطعٍ نادرٍ الصراحة والمرارة، لا يُثقِل فيه الذاكرة الشخصية لراويهِ بسرد المظالم في ماضيه، وإنما يفتح بها جراحًا عصيّةً على الاندمال على قارئه في حاضره، إذ قصّ عن صرخة المستعمِر الفرنسيّ في وجهه، وامتهانه لكرامته لفظًا وسبًّا، من غير أن يحيرَ ردًّا، لا بالقول ولا بالفعل، ثم ختم المشهد بمكلوم قوله:

«خرجت منكّس الرأس، تكاد الدمعة تطفر من عينيّ، خجِلاً مغضِبًا. لقد أهانني ذلك الفرنسي، ولم أردّ عليه بكلمةٍ واحدة! ما الفائدة من الثقافة والعلم إذا كان الفرد يُحقَّر في وطنه ولا يستطيع الردّ حتى ولو بكلمة؟» (1)

ليستمر في سرد مواقف مُشابهة تتكسّرُ فيها الذات العارفة أمام قوة الذات المُستعمِرَة، وهذا المشهد، وإن بدا من ظاهره حالةً وجدانيةً شخصيّةً، إلا أنه يُنبئ عن مأساةٍ أعمق من كونها صفعةً تاريخيّة، بل يُومئ إلى علّةٍ نفسيةٍ مُستحكِمة، استحالت في الوجدان العربيّ بُنيةً لا حادثة شخصية، ومسارًا ممتدًّا لا شذوذًا عابرًا. هي صفعةٌ لم يُصَب بها جسدُ شرابي وحده، بل انهزمت فيها رمزيةُ المثقّف، وذُلّت فيها حرمةُ الإنسان في بلاده، فانكفأ هشامُ فيها مُثقّفًا لا يملك آلةَ دفاع، ومواطنًا لا دولة له تحميه، وعربيًّا تتقاذفه مشاريع الاستعمار فلا يجد مأمنًا حتى من اللغة.

ومن هذه الحادثة، تخرج دلالةٌ جارحةٌ تُنذر بما هو أخطر من الذلّ العابر، وتُبينُ عن قضيّةٍ أخلاقيّةٍ وفلسفيةٍ عميقة: ما معنى أن تُربّى الأجيال على أناشيد الوطنية والعزّة وقصائد المقاومة والكرامة، فإذا جدّ الجدّ لم تجد من يُدافع عنها؟ وما قيمة الثقافة والعلم إن لم يُفضيا إلى حماية الوجود، وصيانة المعنى، وردّ الصَفعة؟ بل ما مصير النخبة حين تنفصل عن السُلطة، والمثقف حين يُسلَب القدرة ويُحرَم من تقرير المآل؟

لقد كان هشام شرابي يمتلك اللسان العربيّ المبين، ويحمل ذخيرةَ الفكر، وقسطًا من الوعي التاريخيّ، وسيرة أكاديمية جيدة، ولكنه خرج من ذلك التحقيق منكّس الرأس، لا ضعفًا في شخصه، ولكن لأنه لم يكن شيئًا أمام آلةٍ استعماريةٍ تحكمُ وتبطش وتُملي إرادتها على المكان والإنسان في بلاده. فبان بذلك أن العجزَ ليس عجزَ اللسان، بل عجزُ الوجدان حين لا تسنده السُلطة، ولا تُعينه القوة، ولا يقوم خلفه جهازٌ يحمي عرضه من الامتهان. بعينه هذا هو وجهُ المأساة العربيّة في أطوارها الحديثة: وجدانٌ ممتلئٌ بالعاطفة، مُضمحِلٌّ في الفعل. إذ لم تكن النكسة نكسةَ جيوشٍ فحسب، بل كانت، وما زالت، نكسةَ شعور، ونكسةَ رموزٍ، ونكسةَ قدرةٍ على تحويل المعنى إلى فعلٍ يُهاب، والمبدأ إلى سياسةٍ تُصان.

وإذا كانت هذه الواقعة قد وقعت في أربعينيّات القرن العشرين، فإنّ صداها ما زال يتردّد في قاعات جامعاتنا، ومؤتمراتنا، وخُطب منابرنا، وعلى صفحات نُخبنا الثقافية والسياسية، دون أن يُحرّك في الجغرافيا شيئًا. فالنكسة لم تَزُلْ، ولكنها تبدّلت وتحوّلت، فانتقلت من طور العجز الرمزي إلى طور العجز البنيويّ، ومن حالةِ الخذلانِ الفرديّ إلى صورةِ التكيّفِ الجماعيّ مع الخذلان. حتى غدا الانكسارُ لا يُنكَر، بل يُتعايشُ معه، ويُجمَّل بخطاب الواقعية، وتُعاد صياغته بلغةٍ تُقنِع النُخبَ أن الخضوعَ قد يبدو حكمة، وأن القهرَ ترتيبٌ دوليّ لا يُردّ!

يُقلقُني أنه في حاضرنا، يغدو ارتباك الألسنةِ جزءًا من تاريخيّة المسرح، وتُغدو كثرة الخطاباتِ وتنوّع الشعارات غطاءً للفراغ البنيويّ، حيث لا دولة تحمي المثقف، ولا مثقّف يحمي المعنى، ولا مشروعًا يُبنى فيه الفعل على قاعدة. وحينئذٍ، تتجدّد الحاجة إلى النظر في أصل الجرح: كيف انهزمت ذواتُنا في موطن الشعور، قبل أن تنهزم جيوشنا في ميادين القتال؟ وتشتدُّ الحاجةُ أكثر إلى إدامة النظر في جراحنا الرمزية، لا لنتباكى على أطلالٍ ولا لنتفيّأ ظلّ خيباتٍ ماضية، بل لمراجعة ذواتنا ومُكاشفة ثغور تاريخنا المعاصر؛ إذ كيف تربّت أجيالٌ كاملةٌ على الحسّ الوطني وأناشيد المقاومة وأغاني النِّضال، ثم لم تُنبت منه بنيةً تحميه، ولا سلطةً تصونه، ولا جهازًا يُمكّنها من الاستمرار؟

كان شرابي يُسائلُ وجدانه يومذاك، في ظل امتهانه في بلاده العربية، عن جدوى الكلمة إن لم تكن لها قوّة، وعن جدوى الشعور إن لم يكن له سلاح، وصُدمَ من عدم قُدرته إلى الردّ سبيلًا، ولا إلى الدفاع عن كرامته منفذًا، فانكفأ مطأطئ الرأس، يُساءل وجدانه العربي وضميره المُثقف المقاوم، هذا المقطع من سيرة شرابي، وإن بدا شخصيًّا وجدانيًّا، إلا أنّه صورةٌ بانورامية لوجدانٍ عربيٍّ لا تعتوره معضلة الشعور من عدمه، ولكن عجزه عن الفعل، إذ يعيش انفصامًا عميقًا بين امتلاء الروح وخراب الوسائل. وإذا كان هذا الحدث قد وقع في أربعينيّات القرن الماضي، فإنّ صورته لم تُنسخ، بل كأنّها طُبعت على زمننا، نحنُ جيل الرِّهانات القسرية الخاسرة. تلك المساءلة لم تزل قائمةً، إذِ النكسة لم ما انجلَت بقدر تحوّلها من العجز الوجداني إلى العجز السياسي، ومن الانكسار الفردي إلى التكيّف الجماعي مع الانكسار. لقد كان الجرح في القلب لا في الجسد، وكان العجز لا عن الحبّ بل عن حمايته، لا عن الحماسة بل عن تحصينها، لذا ما زالتِ المساءلة تلك قائمة، وهي اليوم أَولى بأن تُستعاد؛ فالمعضلة ذاتها باقية تضربُ بجذورها في عمق البُنية، وتزدادُ خطرًا كلّما ازداد تبريرها، وتُعاد إنتاجها تحت أسماء الحداثة والتوازن والديبلوماسية وما ماثل…

00 1 نكسة الوجدان العربي: من العجز الرمزي إلى العجز السياسي إلى طوفان المقاومة

في تعريف الوجدان المهزوم:

ليس الوجدان المهزوم هو ما خلا من الشعور، بل هو ما امتلأ به حتى فاض، ثم تُرك عاريًا من الآلات، مُجرّدًا من جهاز تقرير الغايات، منفيًّا عن السياسة، لا ذابٌّ عنه نظام بيّن الملمح، ولا قائمٌ بأمره سُلطان، ولا جماعةٌ صريحة الوجود تُجَسّد شعاراته في فعلٍ نافذٍ أو بناءٍ متين يذودُ عنه. فالوجدُ الصافي، إذا خُلّي بينه وبين نفسه، صار خذلانًا لا نبلًا، وضعفًا لا استنارة، وجرحًا لا جهادًا. والحبُّ الوطني، إذا عُري عن القدرة، كان كمن يعشق الجمال في صميم المعركة وهو أعزل؛ وإنّ الوطنية، مهما اعتزّ بها صاحبُها وتغنّى، إن لم تلتثمُ بآلات القوة وتُعضّدها مؤسّساتٌ تحميها، انقلبت إلى ذُلٍّ لا تُبرّره النوايا، بل تفضحه الوقائعُ، وإنّ الإخلاص، إذا خلا من حماية، تلاشى رملاً نشأةَ الرِّيح، كأنّه لم يكن.

ليستِ القيم الكبرى شيئًا من الحِليةِ العاطفية التي يُتغنّى بها على المنابر وفي الساحات، ولا هي ترانيم وجدانية تُشبع النفس وتترك الأرض خاوية؛ بل هي عقائدٌ لها مقتضيات، وتستلزمُ أجهزة، وتطلب سلطةً تُفعّلها، وتُحوّلها من كونها شعورًا رفيعًا إلى فِعلٍ تاريخيٍّ مؤثّر. فإذا تجرّدت من ذلك، استحالت إلى نشيدٍ يُغنّى ولا يُسمع، وموقفٍ يُعلَن ولا يُطبّق، وحرارةٍ تنطفئ عند أول احتكاكٍ بعالم القوة. كان هشام شرابي يحمل من الحسّ الوطنيّ زادًا وافرًا، ومن الثقافة الحداثيّة عُدّةً، ومن الوعي النقديّ نظرًا نافذًا، ولكنّه لم يكن يحمل ما يصون كرامته ساعة الإهانة، ولا الجماعة التي تنهضُ لنصرته حين يُصفع، ولا الدولة التي تمنحُ لصوته وزنًا، ولغضبه اعتبارًا. فخرج من مكتب التحقيق مكسورًا، لا عن ضعفٍ في ذاته، بل لأن المستعمِر الذي أهانه كان ناطقًا باسم جهازٍ يُدير الأرض والسلاح، ويحكم الواقع والخِطاب، بينما كان شرابي يمثّل وجودًا رمزيًّا لا يسنده نظام، ولا يعضّده سلطان، ولا تحميه سياسة. هنا يظهر لنا الوجهُ الصريح للوجدان العربيّ في أطواره الحديثة: امتلاءٌ بالحسّ، يقابله فراغٌ في الفعل؛ فائضٌ في الشعور، يعادله نقصٌ في الأدوات. فليستِ العلّة في الإحساس، ولا في صدق النوايا، بل في انعدام الوسائط القادرة على تحويل هذا الحسّ إلى بنية، وهذا الإخلاص إلى نظام، وهذا الوعي إلى قدرة.

لقد كانت بيروت في القرن المنصرم منارةً فكريةً عالية، ومأوىً للنخب، ومنبرًا للصحافة والجامعة، وصوتًا يجلجلُ بالمقاومة والقومية والتحرّر، غير أن تلك الحيوية الوجدانية لم تُنتج قدرةً سياسية، ولم تُفلح في ردّ صفعةٍ واحدة وُجّهت إلى أحد رموز مُثقّفيها في قلب عاصمتها. ولم تكن بيروت استثناءً، بل هي نموذجٌ لمفارقةٍ تتكرّر في عواصمنا العربية، حيث يكثرُ التنظير ويغيبُ التنظيم، وتضجّ الساحاتُ بالخُطبِ والخطاطيف، وتعلو المنابر بالشعاراتِ والبَيانات، بينما الأرض عاريةٌ خاليةٌ من المشروع السياسي الذي يأخذُ بالفكرة من دفاتر التنظير إلى خارطة الواقع. ذاك لأن الحسّ القوميّ، على نُبله، لم يكن بُنية، بل بقي مجرّد عاطفةٍ حادّة، ووجدانٍ شريف، لم يُثمر دولةً، ولا جبهةً، ولا تحالفًا استراتيجيًّا يردع المعتدي، أو يُقيم توازنًا في القوة. فلم ينتهِ إلى جهازٍ سياسيٍّ يُدرِك الواقع، ويُخضعه، بل إلى شعورٍ غاضبٍ عاجز، تُعبّر عنه القصائد لا الكتائب، وتُخلَّده المذكرات لا الوقائع. فظلّ معلّقًا بين السماء والأرض، يسمو في الخطابة، ويتلاشى عند الاصطدام.

وهكذا تتجلّى حقيقةٌ تجرحُني: المهزوم فينا ليس مَن فاته الشعور، بل مَن سُلب منه الفعل. وإنّ المأساة لم تكن في نقص الوجدان، بل في عجزه البنيويّ عن الترجمة، حين لا تَنتظم القيم في جهاز، ولا يتجسّد المعنى في سياسة. فالصفعةُ الرمزية، وإن كانت مادّتها اللسان، فإنّ ردّها لا يكون بالشِّعر، بل بالسيف؛ ولا يُقام لها ميزانٌ في حماس المقال، بل في قدرةِ الفِعال.

في انقلاب الهزيمة التاريخية إلى هوية الوجدان المعاصر:

لم يعُدِ العجز في راهننا العربيّ وجعًا عابرًا في وجدانٍ يُكابد، ولا طارئًا على نفسٍ تئنّ تحت القهر، بل استحال بُنيةً راسخةً في صلب العقل السياسيّ، تُديرُ الألسنة كما تُقيّدُ الأيدي، وتُزيّن الخذلان كما تُدين الغضب، وتلبسُ لباس الحكمة وهي من الحكمة براء. فإنْ كانت صفعة شرابي صفعةً جسديّةً حارقة، ألقتها يدُ مستعمِرٍ في زمن الاحتلال الصريح، فإنّ صفعة الجيل اليوميّة، سيما مع معاينتنا إبادة غزة علنًا، رمزيةٌ لا تقلّ عنها إيلامًا، بل هي أدهى وأمرّ، لأنها مُمأسَسة، متكرّرة، مشروعة في العُرف السياسي، محميّةٌ بخطاباتٍ سياسية، وموصولةٌ بشبكات الهيمنة الجديدة.

يُصفع هذا الجيل حين يُهان تاريخه على موائد التسوية، ويُقدّم مجده القرآنيّ قربانًا على مذابح الواقعية، ويُصفع حين تُكمّم أفواهُ مثقّفيه تحت راية [الاعتدال والديبلوماسية]، وتُخنق الكلمة تحت أنقاض [التنمية]، وتُسلَب إرادةُ التحرّر باسم [السيادة] المُمنتَجة في مختبرات الخارج. ويُصفع حين يرى عواصمه تُحتلّ لا بالدبابات وحدها، بل بما هو أخطر وأدقّ: باحتلال المعنى والذاكرة، وتذويب الهوية، واستلاب المفاهيم، وشراء النُّخب، وتدجين الخطاب السياسيّ في قوالب الاستعمار اللغوي الناعم، أوِ العسكري القاهر.

لقد انتقلنا، من حيث لا ندري، من العجز عن الردّ إلى التزيين للعجز في أحايين كثيرة، ومن استنكار الصفعة إلى تأويلها سياسةً حكيمة، ومن الرفض المبدئيّ إلى الترويج التطبيعيّ لها، فغدا التخاذل حنكةً، والانبطاح تسامحًا، وبيعُ القضية واقعيةً سياسية، وموالاتُ الظالمين حكمةَ أولي الأمر. وهذا هو التحوّل الأخطر، إذ لا نتحدّث هنا عن سَقطات الأفراد، بل عن انزلاق العقل الجمعيّ، لا عن لحظات انكسارٍ ظرفيّ، بل عن تَحوُّلٍ منهجيّ، تُعلَّم فيه الهزيمة وتُدرّس، ويُقنّن فيها الانهزام ويُعقلَن.

فكيف نحاور جيلًا نشأ تحت القصف، وشبَّ على الركام، وصاغ وجدانه من مشاهد الإبادة، وتشكّل وعيه في حجور المجازر، لا في ومن كتب القانون الدولي؟ جيلٌ لم يرَ من السياسة غير الخيانة، ولا من الدولة إلا الجلّاد، ولا من الخطاب الرسميّ سوى العجز المصفَّح بمصطلحات غربية لا تُغني عن دمٍ، ولا تردُّ احتلالًا. وهل يُعقل أن نُخاطب هذا الجيل بلغة البراغماتية التي سُحقت تحتها ذاكرته؟ أو ندعوه إلى التوازن والاعتدال، فيما يُغتالُ أهله كلّ يوم باسم [التوازنات وتحقيق مصالح الأُمّة]؟ أو نُقنِعه بالحوار مع منظومةٍ طحنته، وصادرت هويته، وأحرقته بنار التحالفات الأجنبية؟

كلا، إنّ هذا الجيل، وإن لم يملك الجهاز السياسي، قد ملك البصيرة، وإن كان لمّا يخرج بعدُ من هزيمة وجدانه القسرية، هذا الجيل وفي ظل نكباته، وأعظمها غزة، لا يُعاديكم، ولكنه لا يُصدّقكم، لأنه أدرك أنّ أعذب كلماتكم لا تبلّ ريقه، ولا تقيه شتاء الذلّ، ولا تحميه من خناجر الحلفاء. جيلٌ يرى في التحليل ترفًا، وفي الاعتدال خيانةً مقنّعة، وفي الوسطيّة شركًا يُخدّرُ الإرادة باسم [العقلانية]. وحين لم يجد في لغة الدولة تعبيرًا عن جرحه، بدّل اللغة ذاتها، وقلب معاجم الخطاب، وتكفّل، بنفسه، بإعادة تعريف الفعل السياسي من الجذور في أفعالٍ فردية تُسطّرُ ملاحمها الشخصية في وجه العدو في ساح الوغى الذي غابت عنه الجماعات الكبرى. فكما أنذرت حنة آرنت، وميشيل فوكو، وفرانز فانون، إذا انسدّ الفضاء السياسيّ، انفجر الجسد، وإذا سُدَّت أبواب الفعل النظامي، انقلب الجسدُ نفسه إلى بيانٍ دامٍ، وصرخةٍ خارج اللغة، ورفضٍ يتجاوز السياسة إلى ما بعدها. فإنّ المهانة إذا تراكمت، تصنعُ بشرًا يرفضون المهادنة لا كخيار، بل كفطرة، ويثورون لا بدافع الكُره، بل بدافع الثأر للكرامة.

تخوم الحقيقة والاشتباك. كيف يخون الدّعاة والمثقّفون والمفكّرون رسالاتهم؟ نكسة الوجدان العربي: من العجز الرمزي إلى العجز السياسي إلى طوفان المقاومة

ما العمل؟

من وجدان شرابي إلى وجدان الجيل الراهن، تغيّرتِ الأسماء، ولكن بقي الجرح ذاته. جيل شرابي رأى الصفعة، فسكت. وجيلنا يرى الصفعات، فيُحلّلها، ثم يُبرّرها، ثم يُدجّنها، حتى تُصبح واقعًا يُدافع عنه. ولئن كنا نقرأ فانون وإدوارد سعيد، لكن لا نملك سلاحًا ولا حماية. ولئن كنا نُقيم مراكز بحث، لكن بلا مشروع سياسي. وهكذا، نُنظّر للمقاومة، لكن نعيش تحت منظومات تُجرّم حتى الذكرى، ونحمل الميكروفون، ثم نُسحب منه، فنكتب منشورًا، ثم نُقنِع أنفسنا أنّنا أجبنا الصفعة. وهذا هو الفصام العميق: بين إدراك الهوان، والتسليم له؛ بين كثافة التحليل، وعجز الفعل؛ بين الوعي الفلسفي، والخواء السياسي.

من سؤال الصفعة إلى سؤال البناء ما زال يُقلقني: لماذا تلقّى شرابي الصفعة؟ بل: لماذا لم يَبنِ أحدٌ بعده جهازًا يمنع الصفعة؟ ولماذا لا يزال المثقف العربي، بعد مئة عام من النكبات، عاجزًا عن تحصين كلمته من الإذلال؟ أقول ذلك لأننا لم نَبنِ الوجدان على أُسس القوة، ولا الثقافة على بنية الحماية، ولا الفكرة على جهازها التنفيذي.

إنّا لا نحتاج إلى مزيدٍ من المناحات، ولا إلى تفنّنٍ في شرح النكسة، فقد شُرحت حتى ملّت، وحُلّلت حتى بليت. نحنُ أحوج ما نكون إلى إعادة تعريف [المثقّف] في هذه المرحلة: لا بوصفه راوٍ للوجدان، ولا شاعرًا للهزيمة، بل مهندسًا للبُنى، وصانعًا لجهازٍ يردّ الصفعة ولا يكتفي بروايتها. أن يصير المثقفّ حاملًا للمعنى لا بالرمز فقط، بل بالأداة، أن يبني لا يندب، وأن يُقيم سلطةً تحمي الصوت، لا صوتًا يستجدي الحماية، بل كما نَهجَ الشهيد المثقف الفلسطيني باسل الأعرج في تعريفه للمُثقف: «بدك تصير مثقف؟ بدّك تشتبك».

ولا يكون هذا إلا بالخروج من عبادة الرموز إلى هندسة النظام، ومن التغنّي بالوطن إلى بناء أدواتٍ تحفظه، ومؤسساتٍ تقيه التلاشي، وأنظمةٍ تُخلّد معناه، وتُثبّت وجوده في خرائط الأرض لا فقط في وجدان الخُطباء. فالكرامة لا تُستعاد بالأشعار، بل تُنتزع كما تُبنى الدول: على ركام الهزيمة، بالصبر الطويل، والتنظيم الصارم، والعقل البصير. عندها نردّ الصفعة، لا بحُزنٍ نبيل وموّال ندب. فأيّ وجدانٍ ذاك الذي يصون الإنسان؟ وأيّ ثقافةٍ تلك التي تُنبت الحرية؟ وأيّ مشروعٍ ذاك الذي يُبقي الكرامة ويحوّل المقاومة الفلسطينية الفردية إلى حالةٍ عربية إسلامية حركية جامعة؟ ذاك هو سؤال المقال… وسؤال الجيل، بين جمرٍ ورماد.

الهوامش:

  1. الجمر والرماد، شرابي: ٢٣

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى