أشتات

هل الحكَّام “عقاب الله”؟!

في ظلِّ ما تعانيه الأمَّة الإسلامية اليوم مِن عدوان همجي بربري إجرامي، يمارسه الكيان الصهيوني المحتل، ضدَّ إخواننا المسلمين في غزَّة وفلسطين عمومًا، يظهر بعض الدعاة ممَّن لا فقه لهم بالواقع، ولا وعي لهم بالسنن، ولا فهم لهم بالنصوص على مراد الله وقصده، ليلقوا بشبهاتهم وأباطيلهم التي تحاول تبرير خذلان الحكَّام وخيانتهم للأمَّة، وقعودهم عن واجباتهم ومهامِّهم ومسئوليَّاتهم، موجِّهين أسهمهم للجماعات الإسلامية تارة، وللشعوب تارة أخرى، حدَّ أن يقول بعضهم: إنَّ ما يجري في غزَّة ليس إلا نتيجة ذنوب الشعوب! مبرِّرًا تقاعس الحكَّام وقعودهم عن نصرة إخوانهم في غزَّة وفلسطين.

وكلَّما أراد المصلحون تنبيه الناس إلى دور الحكَّام فيما يصيب الأمَّة مِن أزمات وكوارث وعدوان وبغي، يظهر هؤلاء ليدفعوا بالقول: إنَّ الحكَّام مسلَّطون على الشعوب بذنوبها، وأنَّه إذا أرادت الشعوب أن يرفع الله عنها بلاء هؤلاء الحكَّام فعليها أن تتوب إلى الله! وهذا الكلام قد يكون في ظاهره كلامًا سليمًا، إذ أنَّ بعض البلايا هي نتاج الذنوب، ولكن طرح هذا الاعتراض لا يخدم الإصلاح في الأرض بل يُعين على بقاء هؤلاء الحكَّام واستمرار ظلمهم وجبروتهم وفسادهم.

ويردُّ على هؤلاء بما يلي:

أوَّلًا: اعتبار أنَّ الحكَّام الظلمة الجبابرة تسليط ربَّاني لذنوب العباد لم يرد لا في كتاب الله تعالى، ولا في سنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم، والأحاديث المروية في ذلك إمَّا أنَّها ضعيفة وإمَّا أنَّها تختصُّ بذنب معيِّن لا بإطلاق. ففي الحديث: (وما بخَس قومٌ المِكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذوا بالسِّنين وشِدَّةِ المُؤنةِ وجوْرِ السُّلطانِ عليهم)(1)، برغم أنَّ الحديث ذاته يقول: (ولا حكم أمراؤُهم بغيرِ ما أنزل اللهُ إلَّا سلَّط اللهُ عليهم عدوَّهم واستفقدوا بعضَ ما في أيديهم)، فدلَّ على أن تسليط الأعداء لانحراف الحكَّام لا لذنوب الشعوب.

ثانيًا: أنَّ هذا الكلام كلام عام إنشائي، يصحُّ أن يقال عن أيِّ أمر دون بيِّنة، علمًا بأنَّ ليس كلَّ بلاء عقوبة ولا كل مصيبة بذنب، فمِن البلايا والمصائب ما يقع على المؤمن ابتداء رفعة لدرجته واختبارًا لإيمانه وتعظيمًا لأجره. فجعل كلِّ تسلُّط مِن الظلمة والمتجبِّرين هو مِن قبيل العقوبة على الذنوب تصرُّف مِن غير دليل، ولا بيِّنة.

ثالثًا: إذا كانت البلايا نتاج الذنوب فإنَّ تسليط الحكَّام الظلمة الفسدة على الشعوب يُعزِّز الذنوب ويزيدها، ويفتح على الناس باب شرٍّ أعظم، ومقصود العقوبة الإلهية الردع لا زيادة الداء وتعظيم العصيان. وإذا كانت الشريعة تمنع إيقاع العقوبة إذا أدَّت إلى فساد أعظم(2) فكيف بقدر الله تعالى وعقوباته وهو أحكم الحاكمين؟! فإنَّه أحكم وأعدل مِن أن يعاقب عبادة المؤمنين بعقوبة تزيد في ذنوبهم، وقد جاء في الحديث عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال لبعض أصحابه -رضوان الله عليهم- وهم يوقعون العقوبة على مذنب: (لا تعينوا الشيطان عليه)(3).

رابعًا: إذا كانت البلايا نتاج الذنوب، فالحكَّام يستوون في ذلك مع الشعوب، فإنَّ ما يقع عليهم مِن خروج ومنازعة، بالقول والفعل، هو مِن قبيل ذنوبهم، فليسوا بمعصومين، وليس لهم استثناء عن تسليط الله تعالى عليهم غيرهم لذنوبهم. فما الذي يجعل تسليط الحكَّام على الشعوب عقوبة ولا يجعل تسليط الشعوب على الحكَّام عقوبة. 

خامسًا: أنَّ الشرع جاء بمدافعة ظلم الحكَّام وفسادهم وجبروتهم، وعندما بعث الله تعالى موسى -عليه السلام- بعثه إلى فرعون وهامان وقومه، ولم يأت في نصوص القرآن الكريم توجيه واحد له بأن يطالب بني إسرائيل بالتوبة ليرتفع عنهم البلاء، فضلًا أن يجعل تسلُّط فرعون عليهم مِن باب العقوبة الإلهية التي تستوجب التوبة أوَّلًا. وهذه قصَّة موسى تتكرَّر في القرآن الكريم مرارًا فمَن وجد نصًّا واضحًا بيِّنًا في الأمر فليزوِّدنا به. فالواجب هو إنكار منكرهم، ومدافعة ظلمهم، وردُّ فسادهم، حتَّى مع افتراض ذنوب الناس، فإنَّ هذا شيء وذاك شيء، فلا يقرُّ ذنب لذنب آخر، ولم يعرف عن أئمَّة السلف المعتبرين أنَّهم برَّروا ظلم الحكَّام وفسادهم بذنوب الناس، بل أنكروا عليهم، ودعوا للإنكار. 

سادسًا: أنَّ الشعوب لا تخلوا مِن ذنوب، وهذه الذنوب تختلف، فمِنها المستور الذي هو بين العبد وربِّه، وهذه قال فيها رسول الله: (كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المـُجاهِرِينَ)(4) ، فلا يمكن أن يعفي عنهم ويسلِّط عليهم. ومِنها اللَّمم التي لا بدَّ لأيِّ إنسان مِنها، يقول تعالى: ((الَّذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثمِ والفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفِرَةِ))(5)، فهي ممَّا يغتفر ولا يؤاخذون عليه لسعة مغفرته ورحمته. ومِنها ذنوب خاصَّة يعذر فيها الناس، إمَّا بالجهل، أو بالخطأ، أو بعدم القصد، أو بالحالة النفسية، وفي الحديث أنَّ الله تعالى لمـَّا أنزل: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إلَّا وُسعَها لها ما كَسَبَت وعليها ما اكتَسَبَت رَبَّنا لا تُؤاخِذنَا إن نَسِينا أَو أَخطَأنَا))(6)، (قال: قد فَعَلتُ)(7). ومِنها ما تكفِّره الصلوات والصيام والحجُّ والصدقات والوضوء والحسنات والاستغفار: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ))(8)، والآيات والأحاديث في هذا أكثر مِن أن تحصى. ومِنها ما يكفِّرها البلاء الخاص دون العام، وفي الحديث: (ما يُصيب المسلم مِن نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ، ولا حَزَنٍ، ولا أذى، ولا غَمٍّ، حتَّى الشوكة يُشاكها، إلَّا كفَّر الله بها مِن خطاياه)، وفي رواية مسلم: (مِن سيِّئاته)(9).

الوجدان العربي من العجز الرمزي إلى العجز السياسي إلى طوفان المقاومة 01 هل الحكَّام "عقاب الله"؟!

سابعًا: أنَّ الغالب في أحوال الشعوب والمجتمعات هو تغلُّب الحكَّام الظلمة المفسدين، حتَّى في التاريخ الإسلامي، فهي ظاهرة عامَّة، ومنشأها تقصير الشعوب والمجتمعات بمسئوليَّاتهم في الشأن العام، فلو قُصِد بالذنوب هو انشغالهم بمعيشتهم وشهواتهم وشئونهم الخاصَّة دون العامَّة لكان هذا أصدق، لأنَّهم إذا لم يؤدُّوا الأمانات إلى أهلها ارتدَّ عليهم ذلك بتغلُّب الظالمين والفاسدين، وفي الحديث: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانتَظِرِ السَّاعَةَ)(10) قالوا: كيف إضاعَتُها يا رسول اللَّه؟ قال: (إذا أُسنِدَ الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانتَظِرِ السَّاعَةَ) . فالواجب تذكير الشعوب بأن تتوب مِن هذه الذنوب التي تؤدِّي إلى تسلُّط الظالمين والفاسدين، فهذا هو الذنب الذي يدفع بهم إلى البلايا والمصائب وتسليط أعدائهم عليهم، أمَّا الذنوب الأخرى فإنَّ الله تعالى جعل لهم عليها سبيلًا، وقال عنها: ((وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ))(11). فينبغي التنصيص على هذه الذنوب التي يغفل عنها علماء السلطان، وهي غفلة الأمَّة عن واجباتها ومسئوليَّاتها كأمَّة مسلمة شاهدة ذات رسالة ووظيفة، وأمانة ومسئولية. أمَّا التلويح على الشعوب عن القعود ضدَّ الحكَّام بدعوى أنَّها مذنبة وكأنَّ الحكَّام ملائكة معصومين، أو أنَّه لا يمكن أن يتحقَّق لهم حاكم راشد عادل إلَّا أن يكونوا هم ملائكة معصومون، فهو الإرجاء الذي يخدم الطغاة ويزيدهم طغيانًا، وقد كان جنكيزخان يقول للمسلمين: أنا عقاب الله!

ثامنًا: أنَّ الشعوب الكافرة تحقِّق قدرًا مِن العدل والرشد في أنظمتها لأنَّها تقوم على السنن التي تحقِّق هذا الأمر، رغم كونها مذنبة، ولهذا قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عن الروم، مستحسنًا نهجهم مع الحكَّام: (وأمنعهم مِن ظلم الملوك)(12)، وجاء في ثناء النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- للنجاشي، وقد ملك شأن الحبشة، رغم فساد أهلها: (إنَّ بأرضِ الحَبَشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عندَه)(13).

تاسعًا: ينبغي أن يُقابل الحكَّام بمظالمهم وفسادهم وطغيانهم وذنوبهم، كما يُقابل الحكَّام، إذ هم أولى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ فسادهم وظلمهم فساد لرعيَّتهم وضرر بخلق كثير. وروي أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد وَضَعَ رِجلَه في الغَرزِ: أيُّ الجِهادِ أَفضَل؟ قال: (كَلِمةُ حَقٍّ عندَ سُلْطانٍ جائِرٍ)(14). ولا يمكن أن يوجب الشارع إنكار المنكر على الفرد الذي يرتكب ذنبًا خاصًّا، ضرره خاصٌّ، ويدعو للسكوت عن مَن ذنبه عامٌّ، وضرره عامٌّ، ولا أن يرتِّب عقوبة على الأوَّل ويدع الثاني يفلت دون عقوبة تلحقه.

عاشرًا: إنَّ حمل سياط اللوم على الشعوب التي كبَّلها الحكَّام، وأفشلوها وخذلوها، وتمالؤوا على ظلمها وخيانتها، بكلام لا يمتُّ إلى التحقيق والتدقيق والوعي والفقه، وإنَّما على سبيل الوعظ البارد، غير المكلف، جور لا ينبغي للعلماء والدعاة أن يمارسوه، فإنَّهم ورثة الأنبياء، وإنَّما بُعث الأنبياء لمواجهة الملأ والطغاة والجبابرة، وتحرير الشعوب مِن ظلمهم وجبروتهم وفسادهم، لا لإسكاتهم وخذلانهم.

ختامًا..

إنَّ ما يتعرَّض له أهلنا في غزَّة وفلسطين بلاء يجب دفعه أيًّا كانت أسبابه، وبما شرع لنا أن ندفعه مِن جهاد ونصرة، خصوصًا وأنَّ فلسطين قد استنصرونا في الدين، لقوله تعالى: ((وَإِنِ استَنصَرُوكُم فِي الدِّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصرُ)) ، حتَّى على افتراض أنَّ ما أصابهم كان لذنوبهم، فهذا شيء وأن نقوم بالواجب الذي أوجبه الله تعالى علينا شيء آخر. وأيُّ حديث لتبرير العدوان عليهم، وخذلان الحكَّام لهم، وإقعاد الأمَّة عن نصرتهم، هو مِن كبائر الإثم ومِن أخلاق المنافقين، لأنَّ النصوص واضحة في وجوب النصرة بقدر الإمكان، وموالاتهم ونجدتهم، وإزالة كلِّ العوائق التي تعيق الأمَّة عن التصدِّي للعدوان عليها.

الهوامش:

  1. عن عبدالله بن عمر، وهو في سنن ابن ماجة، رقم: 4019، وهو ضعيف؛ وفي مستدرك الحاكم، رقم: 8623، وهو ضعيف أيضًا. وقال الشيخ خالد الحايك: والخلاصة أنَّ هذا الحديث ضعيف بكلِّ طرقه، ولا يتقَّوى بالمتابعات والشواهد، لأنَّها واهية، تفرَّد بها بعض الضعفاء والمتروكين، ومَن هم ليسوا بأهل للتفرُّد ممَّن يكتب حديثهم ولا يحتجُّ به. انظر: عِللُ حديث: «خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ»، خالد بن محمود الحائك، دار الحديث الضيائية، في: 10/5/1434هـ، على الرابط التالي: https://www.addyaiya.com/content.php?page-id=389&v=01f7743c 
  2. ذهب بعض أهل العلم إلى عدم إيقاع الحدود في مواطن الثغور خشية الفتنة على المجاهدين، رغم استحقاق المذنب للعقوبة. 
  3. صحيح البخاري، رقم: 6777. 
  4. صحيح البخاري، رقم: 6069. 
  5. النجم: 32. 
  6. البقرة: 286. 
  7. صحيح مسلم، رقم: 126. 
  8. هود: 114. 
  9. صحيح البخاري، رقم: 5641، وصحيح مسلم، رقم: 2573، واللفظ للبخاري. 
  10. صحيح البخاري، رقم: 6496. 
  11. فاطر: 18. 
  12. صحيح مسلم، رقم: 2898. 
  13. قال شعيب الأرناؤوط، في تخريج (سير أعلام النبلاء) للذهبي، سنده صحيح: ج1/208. 
  14. سنن النسائي، رقم: 4220، وانظر: الصحيح المسند للوادعي، رقم: 518، والسلسلة الصحيحة للألباني: ج1/887. الأنفال: 72.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى