كانَ أقرانُنا مِنْ طُلَّابِ الثانويَّةِ العامَّةِ يَدرُسُونَ في مادَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ رائعةَ الأديبِ الحَضرميِّ الكبيرِ/ عليّ أحمد باكثير: (وا إسلاماه)، قبلَ أنْ تَحُلَّ مَحلَّها مُؤَخَّرًا أشتاتٌ مُجتمعاتٌ من مَوْضُوعاتٍ، أدنى قِيمةً وفِكرًا وأُسلوبًا، وأبعدَ عنْ رُؤيتِها الرَّاشدةِ في تَرْسيخِ ثَقافةِ الجِهادِ والمُقاومةِ، وقد كُنَّا -نحنُ الأزهريِّينَ- مَحرومِينَ من دراسةِ مثلِ هذه النُّصوصِ الإبداعيَّةِ الرَّائقةِ، وفي تقديري أنَّ دِراسَتَها أجدى على ذائقةِ المُتعلِّمِينَ مِنَ الانغماسِ في خِلافاتِ البَصريِّينَ والكُوفيِّينَ، ومن الضَّلالِ في مَتاهاتِ الإعلالِ والإبدالِ. وآنذاكَ استعرْتُها مِنْ أحدِ الأقرانِ، وقرأتُها غيرَ مرَّةِ، قبل أنْ أقتَنِيَ منها نُسخةً، معَ كثيرٍ من أعمالِ كاتبِها الفذِّ، ومِنْ ثمَّ شرعْتُ في التنزُّهِ في رِياضِها الفَيْنَانةِ في المرحلةِ الجامعيَّةِ.
وقد خَطرَ بِبالي مُؤخَّرًا ذلكَ المَشهَدُ الحِواريُّ الذي اسْتُفْتِحتْ به الرِّوايةُ، والذي دارَ بينَ السُّلطانِ جلالِ الدِّين بن خوارزمِ شَاه، وابنِ عمِّه وزوجِ أختِهِ الأميرِ مَمدودٍ، حولَ ما جَرى للأسرةِ من نكباتٍ فاجعةٍ؛ بسببِ هُجومِ التتارِ عليهمْ، واسْتِلابِ مُعظمِ أملاكِهمْ، ناهيكَ عن قتلِ أبيهِ السُّلطانِ خوارزم شاه، وسَبْي كثيرٍ من نساءِ الأسرةِ، ولا شكَّ أنَّ الحُروبَ سِجالٌ:
وَمَنْ ظَنَّ مِمَّنْ يُلَاقِي الحُرُوبَ
بِأَنْ لَا يُصَابَ، فَقَدْ ظَنَّ عَجْزَا
ولكنَّ أمْضَّ وآلَمَ ما كانَ يَحِزُّ في نفسِ السُّلطانِ جلالِ الدينِ أنَّهمُ استنصَروا كثيرًا من أمراءِ المُسلمينَ في الدُّولِ المُجاورةِ، فَخَذلُوهم أيَّما خِذلانٍ، وأسْلَمُوهمْ لِعدوٍّ لا يَرحَمُ، وَهُنا تمنَّى السُّلطانُ جلالُ الدِّينِ أنْ لو فَعلَ التَّتارُ ببلادِ أولئكِ المُلوكِ المتخاذلينَ ما فَعلوا ببلادِهِ، قائلًا: “إنَّ خليفةَ المُسلمينَ ومُلوكَهم وأُمَراءَهم في بغدادَ ومِصرَ والشَّامَ يَعلمونَ ما حصلَ ببلادِنا من نكبةِ التَّتارِ، وقدِ استنجَدَ بهِمْ أبي مِرارًا، فَلَمْ يُنْجِدوهُ، ولَمْ يُصْغِوا لِندائِه، فَدَعْهُمْ يَذوقُوا من وَبالِهم ما ذُقْنا، ويكفِي أنْ أدفعَ شرَّهمْ عن البلادِ التي مَلَّكَنِي عليها أبي، فلا أدَعُهُمْ يَخلُصونَ إليها”.
فقال له الأميرُ مَمدودٌ: “إنَّ مُلوكَ المُسلمينَ وأمراءَهم في مِصرَ والشَّامِ مَشغولونَ بِرَدِّ غَاراتِ الصَّلِيبيِّينَ، الذينَ لا يقلُّونَ عَنِ التَّتارِ خَطَرًا على بلادِ الإسلامِ، فلهمْ وَحْشِيَّةُ التَّتارِ وهَمَجِيَّتُهمْ، ويَزيدونَ عليهم بِتعصُّبِهم الدِّينيِّ الذَّميمِ، وهمْ لا يَغْزُونَ أطرافَ بلادِ الإسلامِ، ولكنَّهمْ يَغزُونَها في صَمِيمِها”.
فقالَ له جلالُ الدِّينِ: “لَقدْ كانَ هذا الذي تذكُرُهُ في عهدِ صَلاحِ الدِّينِ الأيوبيِّ، وأُستاذِهِ نُورِ الدِّينِ، قَدَّسَ اللهُ رُوحَيْهِما، أمَّا مَنْ بَعدَهُما من ملوكِ مصرَ والشَّامِ، فإنَّهمْ مَشغولونَ بقتلِ بعضِهم بَعضًا، وكَيْدِ بعضِهم لِبَعْضٍ، ولا يَجِدُونَ حَرجًا في أنْ يَسْتَنْجِدَ أحدُهُم الصَّليبيِّينَ على مُنافِسِهِ من مُلوكِ المسلمينِ، واللهِ، لولا التَّتارُ على الأبوابِ، لَدَلَفْتُ إلى أولئكَ المُلوكِ الخائنينَ، فضربْتُ أعناقَهم، واسْتَصْفَيْتُ بِلادَهُم، وانتقمْتُ منهمْ لأبِي؛ إذِ استَنْجَدَهُمْ؛ فلمْ يُنْجِدُوهُ”.
وعِندما اقترحَ عليه الأميرُ ممدودٌ أنْ يُعِدَّ العُدَّةَ لِمُناجَزَةِ التَّتارِ قبلَ وُصولِهمْ، قالَ له السُّلطانُ جلالُ الدِّينِ: “إنِّي سَأُحَصِّنُ حُدودَ بِلادِي، وأمْنَعُها مِنْهُم، وسأضْطرَّهمْ بذلكَ إلى تَركِها، والتوجُّهِ إلى الغربِ، حيثُ مُلوكُ الإسلامِ المُتقاعِدُونَ!”، فأجابَهُ الأميرُ مَمدودٌ: “إنَّكَ لنْ تَستطيعَ حِمايةَ بِلادكَ منهم إذا غَزَوْكَ في عُقْرِها، ما لم تَمْشِ إليهِمْ، فَتَلْقَهُمْ دُونَها بِمئاتِ الفَراسِخِ، فإنْ أظْهَرَكَ اللهُ عليهمْ فَذَاكَ، وإنْ تَكُنِ الأُخْرَى كانَ لكَ مِنْ بِلادِكَ ظَهْرٌ تستنِدُ إليهِ، وتَسْتَعِدُّ فِيهِ، وبعدُ، فإنَّ (جنكيز خان) لَنْ يتوجَّهَ إلى الغربِ، حتَّى يفرغَ من الشَّرقِ، ولنْ يَمسَّ العراقَ والشَّامَ، حتَّى يَقضِيَ على مَمالِكِ خوارزم شاه أجمَعِها”.
وتمضِي القصَّةُ بأحداثِها المُثيرةِ، حتَّى يُستشهدَ الأميرُ مَمدودٌ، ويفقدَ جلالُ الدِّينِ مُعظمَ أملاكِهِ، بل يُختَطَفَ الصَّبِيَّانِ: مَحمودُ بنُ مَمدودٍ، وجهادُ بنتُ جلال الدِّينِ، ويُباعانِ إلى تُجَّارِ الرَّقيقِ، فوقعَ الخَبرُ على جلالِ الدِّينِ موقعَ الصَّاعقةِ، وسَقَطَ مَيِّتًا، وبعدَ سَنواتٍ من التَّرحالِ والمُعاناةِ يَصِلُ الأمرُ بذلك الغُلامِ محمودِ بنِ ممدودٍ إلى أنْ يتولَّى حُكْمَ مِصْرَ، وأنْ يَكونَ هو الأميرَ سيفَ الدِّينِ قُطُز، الذي دَحَرَ التتارَ في موقعةِ عين جالوتٍ (658هـ/ 1260م)، مُنتقمًا لِدماءِ آبائِهِ وأجدادِهِ ومَلايينِ المُسلمينَ، الذينَ حُصِدتْ أرواحُهم في الهجمةِ الهمجيَّةِ للتَّتارِ، والتي اجتاحتْ مشرقَ العالمِ الإسلاميِّ بأسْرِهِ، وبعدَ تلكَ المعركةِ الفاصلةِ القاصِلةِ لمْ تقمْ لهمْ قائمةٌ، وكانتْ صرخةُ: (وا إسلاماه) -التي صَرختْ بها زوجُهُ الرَّؤومُ جُلَّنارُ (جهاد سابقًا)، وهي في أتونِ المعركةِ، قبل أنْ تلقَى ربَّها شَهيدةً- خيرَ ختامٍ لهذهِ القصَّةِ المَلأى بالأحداثِ المُثيرةِ، والعبرِ التَّاريخيَّةِ، ناهيكَ عن صياغتها الرَّائقةِ الآسِرَةِ.
والذي يهمُّنا في هذه الخاطرةِ أنْ نَستنبِطَ جُملةً من العِبَرِ من ذلك المشهدِ الذي ذكرتُهُ، والذي جاءَ في مُفتَتَحِ الرِّوايةِ، أهمُّها:
أولًا: أنَّ أعداءَ الإسلامِ -سواءً من الصَّليبيِّينَ أو التتارِ أو اليهودِ المُعاصرينَ وأحلافِهمْ- لنْ يَكتفُوا بِما اسْتَلَبُوهُ من الأرضِ، وما هَتَكوهُ من العِرضِ، وما سَفَكُوهُ من الدَّمِ، بل سيُواصلونَ الحربَ بكلِّ أدواتِها لِتحقيقِ المَزيدِ من الاستلابِ ماديًّا ومعنويًّا. فَواهِمٌ كلَّ الوهمِ مَنْ يُصدِّقُ دَعاوى الصَّهاينةِ والمُتصَهْينينَ من جُفاةِ الأعرابِ أنَّ اليهودَ يُريدونَ القضاءَ على (حماس)؛ لِيعيشُوا بسلامٍ مع جيرانِهم، فما هِيَ إلَّا ذَريعةٌ للإبادةِ الشَّاملةِ، والتي لنْ يكتفيَ فيها العدوُّ بدماءِ الفلسطينيِّينَ، بل إنَّ نفسَهُ المُتعطِّشةَ للدِّماءِ لَتتحلَّبُ شَوقًا إلى المزيدِ، ولنْ يكتفيَ بأرضِ غزَّةَ العزَّةِ، لو أتيحتْ له – لا قَدَّرَ اللهُ- السَّيطرةُ التامَّةُ عليها، فعيونُهمْ مُصوَّبَةٌ نحوَ دُولِ الجِوارِ، ولا غروَ، فقدْ كَتبوا على بابِ (الكنيست) عبارةَ: (أرضُكَ يا إسرائيل من الفراتِ إلى النِّيل)، وقد طالبُ بعضُ العَربِ من أعضاءِ الكنيستِ بإزالةِ هذا الشِّعارِ، فكانتِ الإجابةُ أنَّ هذا من الثوابتِ في قناعاتِ الصُّهيونيَّةِ، وتلكَ الحدودُ المُمتدَّةُ شَرقًا إلى العراقِ، وغربًا إلى مصرَ، وجَنوبًا إلى المدينةِ المُنوَّرةِ، وشَمالًا إلى لُبنانَ مَرسومةٌ على (الشِّيكل)، والخَطَّانِ الأزرَقانِ على عَلَمِ الكِيانِ الصُّهيونيِّ يُشيرانِ إلى المياهِ الزَّرقاءِ في الفراتِ والنِّيلِ، وواهمٌ كلَّ الوهمِ كذلكَ مَنْ يظنُّ أنَّهم سيتخلَّوْنَ عن هذهِ الأفكارِ يومًا، فهو كيانٌ مؤسَّسٌ على أساطيرَ تَلموديَّةٍ، يُؤمنونَ بها أكثرَ من إيمانِهم باللهِ، ويَستميتونَ في الدِّفاعِ عنها حتَّى تحقيقِها الموهومِ، بل حتَّى هَلاكِهم في أجلٍ معلومٍ.
ثانيًا: أنَّ الدِّفاعَ عن غزَّةَ ليسَ دِفاعًا عن أرضٍ إسلاميَّةٍ مُغْتَصبةٍ، ولا عنْ شعبٍ مُسلمٍ مُجاهدٍ، ولا عَنْ قضيَّةٍ إنسانيَّةٍ عادلةٍ، وإنَّما هو في المقامِ الأوَّلِ دِفاعٌ عن أنفسِنا ضِدَّ هذا الأخطبوطِ المتوحِّشِ، وكلُّ مَنْ له مُسكةٌ من عقلٍ، أو أثارةٌ من فهمٍ في السِّياسةِ لا بُدَّ أنْ يُسارعَ إلى دَعْمِ أهلِها، للصُّمودِ في وجهِ هذا العَدوِّ اللَّدودِ، والذي سيتوجَّهُ يقينًا إلى قَضْمِ قطعةٍ أُخرى، وعندَها سَيُردِّدُ الخَاذلونَ المُغَّفلونَ: “أُكِلْتَ يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الأَبْيَضُ”!
ثالثًا: أنَّ المَخذولَ قد تَحْمِلُهُ مَرارةُ الخِذلانِ على أنْ يَرجوَ الهَلاكَ لِمَنْ خَذَلَهُ، وأنْ يتجرَّعُ السُّمَّ من الكأسِ التي ذاقَها، بأنْ يتمكَّنَ منهُ العدُّوُ نفسُه، أو أنْ يَنتقِمَ هو منهُ؛ لِيشفيَ منه غليلَه، وهو انحرافٌ عن سَواءِ الفِكرِ في مُعادلَةِ العَلاقةِ معَ إخوانِهِ في الدِّينِ، ولكنَّه مَعذورٌ في ذلكَ بعد أنْ تجرَّعَ غُصَصَ الخِذلانِ، قَائلًا لِنَفْسِه: إِذا مِتُّ ظَمْآنًا فَلَا نَزَلَ القطُرُ، أو كَمَا يقولُ العَامَّةُ: عَلَيَّ، وعَلَى أعدائِي!
رابعًا: أنَّ ثقافةَ مُلوكِ الطَّوائفِ كانتْ ولا تزالُ هي السَّببَ في نَكَباتِ الأُمَّةِ قَديمًا وحَديثًا، فَبِسبَبِها ضاعتِ الأندلسُ بالكليَّةِ، وضاعَ مُعظمُ بِلادِ الشَّامِ زَمنَ الحروبِ الصليبيَّةِ، ومُعظمُ مَشرقِ العالمِ الإسلاميِّ زَمَنَ التَّتارِ، وجلُّ دُولِ آسيا الوُسْطَى في الحقبةِ الشُّيوعيَّةِ، وأخيرًا وليس آخرًا ضاعتْ فلسطينُ حاليًا، وصَدَقَ أحمدُ شوقي (ت1932م) إذ يقولُ في مسرحيَّةِ (كليوباترا):
وَإِذَا فَرَّقَ الرُّعَاةَ اخْتِلَافٌ
عَلَّمُوا هَارِبَ الذِّئَابِ التَّجَرِّي
خامسًا: أنَّ الحَلَّ الوحيدَ أمامَ هذه العِصاباتِ المُجرمةِ أنْ تكونَ الأمَّةُ على قلبِ رجلٍ واحدٍ، ولا أُريدُ الخَوْضَ في حُلْمِ خِلافةٍ راشدةٍ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، وإنَّما أضعفُ الإيمانِ أنْ تكونَ لها رُؤيةٌ إستراتيجيَّةٌ صائبةٌ، تَرى عَدُوَّها الذي يتربَّصُ بها الدَّوائِرَ، وترى الغربَ كلَّهُ يَرمِيها عن قوسٍ واحدةٍ، فليسَ من العقلِ في شيءٍ أنْ تستسلمَ لهمُ الأمَّةُ هذا الاستسلامَ المُهينَ، وأنْ تجتمعَ مرارًا في مؤسَّساتٍ مُتعدِّدةِ المُسمَّياتِ، مُتَوحِّدةِ القراراتِ، التي أقصاها إصدارُ بَياناتِ شجبٍ مُهْترئةٍ سَخيفةٍ، لا تُساوِي الحبرَ الذي سُوِّدَتْ بِهِ صَفْحتُها، ولا الوقتَ الذي استغرقَتْهُ كِتابَتُها!
سادسًا: أنَّ التاريخَ كانَ ولا يَزالُ يؤكِّدُ أنَّ الأمَّةَ لَمْ تُحقِّقْ نَصرًا حاسمًا على عدوِّها الصَّائلِ عليْها، أوِ المُتَربِّصِ بها إلَّا بتلكَ الوحدةِ، التي أثمرتْ نصرًا عزيزًا في معاركَ حاسمةٍ منها: الزلَّاقةُ (479هـ)، وحِطِّينُ (583هـ)، وعينُ جالوتَ (658هـ)، والعاشرُ من رمضانَ (1393هـ/ 1973م) … وغيرُها، والتاريخُ يُعيدُ نفسَه، ولنْ يكونَ المُستقبلُ بِدْعًا من تلكَ السُّننِ الرَّبانيَّةِ الماضيةِ.
سابعًا: أنَّ النَّوْكَى الذينَ يَسعوْنَ إلى إلغاءِ مادَّةِ التَّاريخِ والجُغرافيا ونحوِهما من العلومِ الإنسانيَّةِ، بِحُجَجٍ أوهنَ من بيتِ العنكبوتِ، إنَّما يُريدونَ سلخَ الأمَّةِ من تاريخِها المجيدِ، وإعماءَ الأجيالِ القادمةِ عنِ الوَعْيِ بِخصائصِ مَوقِعِها الفريدِ، وغَنِيٌّ عن البيانِ أنَّ كلَّ أمَّةٍ تتركُ وراءَها ظِهريًّا دِينَها ولُغتَها وتاريخَها هي أبعدُ الأمَمِ عن الوعيِ الرَّشيدِ، وأقربُها إلى انهيارٍ واقعٍ، ليسَ له دَافِعٌ!
وختامًا، فما أكثرَ ما شَهِدَ التَّاريخُ من صُنَّاعٍ للنَّصْرِ، وصُنَّاعٍ للهزيمةِ، فأمَّا صُنَّاعُ الهزيمةِ فهمْ أولئكَ المُنهزِمونَ نَفْسِيًّا، الذينَ ركنُوا إلى القعودِ، ولم يُعِدُّوا لعدوِّهمْ عُدَّةً، ومِنْ ثَمَّ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ، فلا جرمَ أنْ يأخذَ أولئكَ السَّاقطونَ بكلِّ أسبابِ الفشلِ؛ تفريطًا في الحُدودِ، وتنازلًا عن الكرامةِ، وتَخاذُلًا عن نُصرةِ الصديقِ المستجيرِ، وتَماهِيًا مع العَدُوِّ المُغِيرِ، وسَعْيًا نحو تجهيلِ الأجيالِ القادمةِ بأمجادِ تاريخِها، وأبعادِ حاضرِها، وآفاقِ مُستقبلها، فَتَعْسًا لَهُمْ وجَدْعًا، وسُحْقًا لَهمْ ومَحْقًا. وأمَّا صُنَّاعُ النَّصْرِ فهم أولئكَ الأعزَّةُ الذينَ يأخذونَ بأسبابِهِ المَاديَّةِ والمعنويَّةِ، ويَقرؤونَ المَشهدَ قراءةً واعيةً مُتوازِنَةً، تتَّكِئُ على قواعدَ راسخةٍ من الأصولِ الشَّرعيَّةِ والحضاريَّةِ، وتتبصَّرُ الواقعَ الآنيَّ بِكلِّ احتمالاتِهِ ومَآلاتِهِ، وتَستشرِفُ المستقبلَ بِطموحٍ لا تُعوزِهُ الهِمَّةُ، ولا تَنقصُهُ الإرادةُ، ولا تُرْهِبُهُ العقباتُ مهما تفاقمتْ، ولا تُخيفُهُ جُموعُ الأعداءِ مهما تَكالبتْ، فلهمْ من أسبابِ الدُّنيا حظٌّ غيرُ مُنفصِمٍ، ولهمْ بحَبْلٍ اللهِ أعزُّ مُعتَصَمٍ.