يوسف عكراش
كاتب وباحث مغربي
لقد قضت حكمة الله تعالى أن جعل الاختلاف قديم قِدَم الخلق، وهو سنَّة كونية أبدية، وطبيعة بشرية، فمن المستحلات الثَّابتة جمع النَّاس على كلمةٍ واحدة، قال الحق سبحانه: « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذَلكَ خَلَقَهُمْ».(1) وقال تعالى: » وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ».(2) فسنة اختلاف الخلق دليل بالغ على كمالِ الخالق، ولولا سنة الاختلاف لاندثرت الخليقة، ولذلك أضحى اختلاف الناس بين مدرك واع بهذه السُّنة الكونية، فهو مشرف على كمال العقل البشري الوعي في أبهى حلته في فهم سنة الاختلاف. وبين مقبل على قمم الجهل وأنواع البهيمية بأشد ما تكون عليه من الغباء بالإجرام بحق كل ذي رأيٍ مختلف.
فالصنف الأول هو صورة للعلم والمعرفة والرقي في أبهى حللها، بحيث عرف الفرق بين الاختلاف والخلاف، وتأدب بآدابــــــه وراعى ضوابطه، وأدرك مقاصده، كما أصل أسس الرد والانكار عند تحقق الأسباب وتوفر الشروط وانتفاء الموانع.
وإنَّ هذا الصنف الأخير الذي ترعرع في الجمود والانغلاق والانكماش وقصور في الفهم، ونشأ على التفرد والاستبداد بالرأي والفكر والنَّظر، والذي يغلق أبواب عقله على مرضه، بحيث يرى رأيه الرأي المنير القويم، وقوله هو القول الفصل الحكيم، فأنشأ الخلل إمَّا بالنزاع أو الشقاق في أمور يسعها التغافر إما بالقبول أو الإعذارـ ولكن هيهات هيهات فجدير بنا أن نقر بأن هذا الصنف شر بلية أريدت بنا، وشر خيبة سيقت لنا، ولا غرابة إن قلت هو السَّبب الأعظم لتخلفنا عن ركبِ الأمم، ولعلَّ ذلك يرجع إلى عدة أسباب نورد أهمها وأظهرها في الواقع:
النزعة الفردية :وهي شعور الانسان بالعلو والاستعلاء بذاته المعنوية المستقلة، بحيث يتولد لديه رغبة في التميز والتفرد ولو كان ذلك على حساب الهوى ولي أعناق المفاهيم، مما يدفعه إلى تكوين قناعات خاصة يعتقدها ابتداءً ثم استدل لإثباتها انتهاء.
تفاوت الأفهام: فدرجة إعمال العقل والفكر والنظر في الأمور تختلف باختلاف الأشخاص، فما يستنبطه فلان لا يدركه الآخر، فتباين المدارك، واختلاف المهارات، وتنوع المعارف والتكوينات، يكون سببًا عظيمًا في نشأةِ الاختلاف واتساع رقعته.
تباين المقاصد: ويكون هذا الأخير نتيجة تدافع مصالح النَّاس وتباين المرامي، فيلزم من ذلك اختلاف السُّبل والطرق وعليه يلزم من ذلك وجود الاختلاف اتساع رقعة. ولا عيب في ذلك ما دام الاختلاف يندر تحت اللواء المحمود.
وبناء على هذه الأدواء الثلاثة الظاهرة والباطنة فإننا نقدم العلاج الأمثل، والدواء المفعم في ثلاثةِ جرعاتٍ لفهم الاختلاف ووعيه ونبذ الخلاف وتركه وهي: جرعة ترك الهوى، وجرعة ترك تقليد الأعمى، وجرعة نبذ التَّعصب، وقبل أخذ هذه الجرعات لابدَّ من تهيء العقل والقلب، أولًا بالإقرار بهذا المرض إقرارًا باطنًا لا ظاهرًا، وإقرارًا عمليًا لا قولًا نفسيًا حتى نكون أصحاب فهم دقيق ورأي بديع، ثانيا أن ندرب أنفسنا على أسمى معاني الإنسانية، وترويضها على ما يتميز به البشر في العلو أو الانحطاط. وقد أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء: » أن يونسَ الصدفي قَالَ: مَا رَأَيتُ أَعْقَلَ منَ الشافعي، نَاظَرْتُهُ يَوْما في مَسْأَلة فَلَمْ نَتَفقْ، فَلَقيَني بَعْدَهَا وَأَخَذَ بيَدي، وَقَاَل: يَا أَبَا مُوسَى أَمَا يَسْتَقيمُ أَن نَكونَ إخْوَانا وَإنْ اخْتـَلَفْنَا في مَسْأَلَة». وحتى نستصيغ الدواء أيضًا ونتخلص من الداء، تعالوا معانا نضع قاعدة مشتركة ألا وهي: استيعاب أنَّ الاختلاف ليس اعتداءً معتمدًا أو تعبيرًا عن قوة أعلى بل هو أمر أراده سبحانه ليؤدي وظيفته. ولا يتأتى هذا الفهم للخروج من هذه الأزمة الفكرية المتجذرة، لا بد من نبذ ثلاثة أمور رئيسية ما تقدم آنفا، حيث تبين بالاستقراء والتتبع أنَّ مرد جهل سنة الاختلاف وعدم وعيها، وإدراك جاذبيتها، وهجر آدابه:
الهوى: وهو ميل النفس إلى الصنم الخفي بذواتنا والذي لا يراه غيرنا، بحيث الذي نهوي إليه مكبرين مهللين كلما هممنا على اختلاف، دون الاستناد إلى المبادئ الفطرية، أو الدلائل العقلانية، أو التجارب العلمية، بل هو وضع الذات في كفة، والحكم على المخالف في كفة، وترجيح الذات ابتداء.
تقليد الأعمى: وهو الظل الذي يستظل به بدوى القدوة أو الشيخ أو المذهب وما جرى مجرها ودار في فلكها، بحيث ينزل الناس منزلة العصمة ومقام العظمة، فكم مرة أمكننا فهم اختلاف وفض النزاع بإقناع أو اقتناع، لكن الركون إلى الأشخاص الزائفين جعل الاختلاف ينحرف عن مسار الصحيح ليسلك طريق إمعة، ويضع السدود بين طرفين بدلا من إعانة على المقاربة والالتحام.
التعصب: وهو تمركز حول الذات أو حول أشخاص الزائفين والتعصب لهم وهجر الموضوعية، والرد الصريح لسنة الاختلاف، وتحجير العقل واخراجه عن وظيفته الطبيعية في تناول القضايا الخلافية، ليصبح استيراده للمعرفة من قناة واحدة دون أدى حرج، وهو من أبرز سيمات وأسس هذه الأزمة الفكرية المتجذرة. من تأمل سنة الأخيار وسيرة العلماء الأبرار رأى رحابة صدرهم وعدم تعصهم لآرائهم.
ثم إنَّ إدراك المعاني الحقيقية للهوى والتقليد والتعصب، ونبذها لسبيل موصل إلى إدراك أنَّ الاختلاف ضرورة واقعة وأمر طبيعي بين النَّاس لتفاوتهم ادراكهم وفهمهم، وطرق استدلالهم، ولا يقع عليه البتة ذم ولا تنقيص ولا تفريق بقدر ما يقع على المسلكيات السيئة النَّاتجة عن عدم التخلُّق بآدابه، كالظلم والبغي والرد للحق وهضم للخصم.
وقد أشار بن القيم -رحمه الله- في كلامٍ قيم، أنَّ المخالف إذا سلم قصده لا تضر مطيته حين قال: “فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزيب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسول، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الانسانية”. وكما آثَرَ الإمام مالك نفسه -رحمه الله- في موقف رفيع وقول بديع وإفساح المجال للمخالف واحترامه وذاك حين أراد الخليفة العباسي حمل الناس على الموطأ -وهو كتاب مالك وخلاصته في الحديث والفقه- “فَقَالَ لَا تَفْعَلْ يَا أَميرَ المُؤمنينَ” معتبرا و مقررا مبدأ الاختلاف، وأن لكل عصر ومصر علماء وآراءه دون أدنى محاولة لإشباع الذات، فَعَدَلَ الخليفة عن ذلك، فظهر أن الاختلاف سائغ وواقعٌ ما دام في الحدود والضوابط المشروعة، بل يكون ممدوحًا وهادفًا إذ هو مصدر من مصادر الإثراء الفكري، والغنى المعرفي، ودافعًا لتلاقح الأفكار والآراء، ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعا لهذا الاختلاف الرحيم قال تعالى: «وَشَاورَهُمْ في الأَمْر»(3) إذ نحن التزمنا بآدابه كالعذر بالجهل، والعذر بالاجتهاد، والرفق في التعامل، واللين في القول، ومراعاة المصالح والمفاسد عند الرد أو الانكار.
وختامًا: فإنَّ قبول الاختلاف وفقهه، والتحلي بآدابه والتزام ضوابطه ضرورة لا محيد عنها أحب من أحب وكره من كره، وواجب ملزم لمن أراد استشراف المستقبل بحفظ وأمان، حيث أن فكر المخالف وآراءه منبع إلهام وصرح لنحت الأفكار وسبب عظيم من أسباب الرقي والازدهار، وإحياء لروح التسامح في الأمة ونبذ الكره والتباغض، وبث روح الأخوة والمودة بين المسلمين قاطبة. وإدراك أنَّ الاختلاف وجهة مشروعة لكل من ولاها ووجهة وجب استثمارها وتنميتها، أما تحجر الأذهان وصمم الآذان وإعجاب كل ذي رأي برأيه لم يبرز إلا الضعف والوهن والتشرذم، والواقع أعظم الشهـــــود.
هوامش:
- سورة هود، الآية 118-119.
- سورة البقرة، الآية 251.
- سورة آل عمران، الآية: 159.