المدونة

أحاديث الفتن في السنة النبوية

لو تأملنا أحاديث الفتن في السنة النبوية وأبرزها أحاديث كتاب الفتن في صحيح البخاري لوجدناها تدور حول محور واحد، وهو ما يسمى في الفكر السياسي المعاصر (الاقتتال حول السلطة والثروة).

كان رسول الله عليه الصلاة والسلام في بداية أمره منشغلا بقضية واحدة وهي قضية إصلاح الدين المعوج، ويقوم بوظيفته في هذا السياق باعتباره رسولا نبيا، ثم – وهو يجاهد في هذا السبيل- وجد نفسه على رأس دولة.

كان الصراع الداخلي بين النبوة والمُلك هو ابتلاء الله له، وقد نجح عليه الصلاة والسلام في هذا الابتلاء، واختار النبوة على الملك..اختار الخلود على التلذذ بحلاوة الملك المؤقته، ولهذا اتخذه الله خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا من قبل لنجاحه في الصراع بين وظيفة النبي ووظيفة الأب.

عندما كان يقوم بوظيفة النبي الرسول في بداية الدعوة كان من حوله أناس متدينون مؤمنون برسالته ونبوته، وهمُّهم من همِّه، وهو بلوغ المراتب العليا في الجنة.

ولكنه عندما صار رئيس دولة اختلف الناس الذين يلتفون حوله، فبالإضافة إلى هؤلاء المخلصين الذين ازداد عددهم، ظهرت فئة جديدة يلتفون حوله لا باعتباره نبيا، وإنما باعتباره رئيس دولة، حتى وإن كانوا يؤمنون بنبوته لما شاهدوه من صدق دلائل النبوة، ولكنهم كانوا يتطلعون لرئاسة الدولة التي سيتركها بعد رحيله عن هذه الدنيا.

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بغافل عن هذا الأمر، وكان يدرك تماما أن كثيرا ممن حوله في العهد المدني أصحاب أطماع، منهم من يُظهر ذلك علانية مثل بعض سادات نجد الذين كان الواحد منهم يعرض إسلامه مقابل أن يكون له الأمر بعد وفاة رسول الله، ومنهم من كان يطلب إقطاعيات كبيرة، وممن حوله في هذا العهد من مرد على النفاق إلى درجة ألا يستطيع بشر كشف نفاقهم إلا بوحي من الله كما أخبر الله بذلك في القرآن الكريم.

وبالجملة فقد تأمل النبي صلى الله عليه وسلم العرب الوافدين عليه وعلى أصحابه المخلصين من المهاجرين والأنصار فوجدهم ثلاث كتل:

كتلة قريش الذين تأخر إسلامهم والذين كانوا يرون أن ملكَه ملكا لهم، ودولته دولةً لهم.

 وكتلة نجد الذين كان سادتهم في بداية العهد المدني يعرضون إسلامهم بمقابل من الدنيا، ثم تواتر توافدهم آخر العهد المدني ولا زال كثير منهم بتلك العقلية. 

وكتلة اليمن: وهؤلاء كانوا أصدق الوافدين، فلم يلاحظ منهم أطماعا دنيوية، ولاحظ أنهم كانوا مستعدين للتضحية بأنفسهم وأموالهم في سبيل الدعوة والدين.

من هذا المنطلق كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع صراعا عنيفا بين قريش وبين نجد، وفي هذا السياق نفهم أحاديثه مثل حديث (يُهلك أمتي هذا الحي من قريش) وقوله: (أول من يغير سنتي رجل من قريش) وقوله: (هلكة أمتي على يد غُلمة من قريش) ووصفِهِ لأهل نجد بأنهم (غلاظ الأكباد، ومن جهتهم يطلع قرن الشيطان، وتحدث الفتن والزلازل والمحن)  إن معنى هذا الكلام أنهم  لن يخضعوا بسهولة لقريش، وسيحاربون حروبا طاحنة، وتظهر فيهم -بسبب هذا الرفض- الردة وادعاءات النبوة والتطرف في الدين.

وكان يتوقع أن قريشا ستغلب نجد في هذا الصراع، وهذا هو معنى قوله: (لا يزال هذا الأمر في قريش) فإنه إخبار عن أمور مستقبلية وليس أمرا للناس بتولية قريش عليهم، وإنما قال ذلك لأنه كان يرى في قريش صفات السياسيين المحنكين الذين يعرفون كيف تؤكل الكتف، ولكنه يقينا لم يوصِ لهم، ولم يوصِ لأهل بيته، فهو ليس ملِكا يورِّث مُلكا وإنما نبي يُصلح دينا معوجا، وإن كانت هذه الأحاديث في شأن رئاسة قريش فُهمت على غير مراده عليه الصلاة والسلام في عهد الدولتين القرشيتين (دولة بني أمية ودولة بني العباس) فإنه في عهدهم لُويت هذه الأحاديث، ولو كان الصحابة فهموها كما فهمها الأمويون والعباسيون لاحتج بها أبوبكر وعمر في سقيفة بني ساعدة.

في أحاديث الفتن يُذكر الحوض باعتباره جائزة المخلصين، فالشرب منه يعني الثبات على المبدأ، فإنه قال للأنصار وهم من أخلص الناس لله ورسوله بعد أن وجدوا في أنفسهم شيئا بسبب تألُّفه لقريش ونجد بغنائم هوازن وترْكِهِ لهم: (إنكم ستجدون بعدي أَثَرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).

وأخبر أن أهل اليمن أولى الناس بالحوض وأنه يوم القيامة يدفع الناس عنهم حتى يشربوا منه قبل غيرهم، وذلك لأن أهل اليمن لم تظهر منهم أطماع دنيوية، وقد كانوا على مدى تاريخ الإسلام مددا للإسلام ولم ينازعوا قريشا على الحكم والسيادة حتى في بلادهم اليمنية.

وقد حذر عليه الصلاة والسلام أصحابه من الحرمان من الحوض، وأخبر أنه بينما هو على الحوض يأمل أن يشرب منه أصحابه إذا بعضهم ممن يعرفهم يختلجون دونه، فيقول: يا رب أصحابي، فيقول الله له: (إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، لقد ارتدوا على أدبارهم القهقرى)

وبالجملة فقد قال لأصحابه (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)

وبعد: أليس واجبا على العلماء والمفكرين في هذا الزمان أن يضعوا حلا لهذه المعضلة المزمنة في تاريخ البشرية، وهي الاقتتال والتناحر من أجل السيطرة على السلطة والثروة… أليست الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها حتى ولو كانت بأطراف الصين.

د. عارف الكلدي

أستاذ اللسانيات المشارك/ كلية الآداب جامعة عدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى