في العصر الحاضر يعيش الإنسان في الغرب أزمةً خطيرةً تتعلق بفهمه لذاته، وبمفهومه حول صلته بالله جلَّ جلاله، وبالكون من حوله.
مظهر هذه الأزمة فقرٌ شديدٌ في الجانب الأصلي من الإنسان، وهو الروح التي تقلصت مِساحتها بسبب طغيان المادة، ولهذا فهو يبحث بلهفة شديدة عمَّا يسد هذا الاحتياج الفطري، ويقلص هذه الأزمة، فيلجأ إلى أمور لا تسمن ولا تغني من جوع، يُسمِّيها الروحانيات، لعلها تروي عطشه، وتسد احتياجه الفطري.
الفن بأنواعه من الموسيقى والنحت والغناء والشعر أحد هذه الأمور التي يُسَمُّونها بغذاء الروح، ولكنها في الحقيقة لا تروي الغليل ولا تشفي العليل، ولهذا يلجأ بعضهم إلى الخمور وما يشبهها من المخدرات والمسكرات التي يُسَمُّونها المشروبات الروحية، ولكنها تزيدهم فقرًا إلى فقرهم:
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ
وداوني بالتي كانت هي الدّاءُ
هذه الأزمة الخطيرة كانت ردة فعل عنيفة عن انحراف في التصور الديني للغربيين قبل العصر الذي يُسمَّى عصر النهضة، في تلك العصور التي يسمونها عصور الظلام.
كان تصورهم للإله والرب اعتقادًا وثنيًا منحرفًا، إذ كانوا يعتقدون أنَّ الرب والإله هو المسيح، الذي هو عندهم خليط من اللاهوت والناسوت، وبناء عليه نُظِّمَت الكنيسة هناك وفق مراتب تزعم أنها توصل الناس إلى الرب يسوع.
حاشا عيسى عليه السلام من هذا الشرك، وهذه الوثنية، فهو لم يكن غير عبد رسول، ولم يكن غير حنيف مسلم يدعو إلى الإسلام القائم على توحيد الله جلَّ جلاله {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]
والذين غَلَوْا فيه بعد موته حتى جعلوه ربًّا وإلهًا سيتبرأ منهم يوم القيامة، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ *مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116، 117]
كانت الكنيسة تمنع التفكير، وتفتش العقول، وترهب النفوس، وما زال الأمر كذلك حتى تمرَّد الإنسان هناك عليها، فكفر بها وبمعتقداتها، وجعل همَّه مرتكزًا حول ذاته وملذاته الحسية بعيدًا عن الرب، فصار الإنسان بتصورهم هو مركز الكون، والإله الجديد والعياذ بالله.
ثم بدأ هذا المتأله بالتفكير حول ذاته: من أين بدأ؟ وكيف سار؟ فطرحت أفكار مادية خطيرة تنظر إليه على أنه مادة متطورة عن كائنات بسيطة، صارت فيما بعد قرودًا ثم تحولت إلى إنسان.
كان هذا الاعتقاد هو الهوة السحيقة التي سحقت الإنسان في الغرب {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
ما زال هذا الإنسان المتأله يتخبط حول ذاته، فقد تطور في هذه المادية حتى أوقعته في العنصرية، إذ ميَّزَ بين إنسان وإنسان، بحسب اعتقاده في نظرية التطور، فجعل الإنسان الأبيض هو الأكثر تطورًا، والمستحق ليكون الإله الجديد الذي حلَّ محلَّ الرب يسوع دون الناس من غير هذا العِرق الذين رآهم لا يزالون أقرب إلى مرحلة القرود، وهو الأمر الذي أدَّى بالإنسان الغربي إلى الإمبريالية القذرة في حق غير البيض خارج أوروبا والنظر إليهم على أنهم عبيد له وتابعون لهواه.
ثم صدم هذا الإنسان المتأله بصدمة كبيرة عندما ظهرت الأفكار النازية التي تزعم أنَّ الجنس الأبيض ليس كله على نفس الدرجة من التطور، وأنَّ الجنس الآري الذي يسكن ألمانيا والنمسا وحواليهما هو مركز الكون والإله الجديد دون سائر سكان القارة من البيض.
لقد حارب هذا الإنسان المتأله نفسه مرتين في حربين عالميتين دَمَّرَتا كل شيء، حتى دمرت نظرته لنفسه كإله جديد، فصار هذا الإنسان المتأله في شك كبير من استحقاقه مكان الإله فدخل في مرحلة العدم والسيولة والشعور المتزايد بالضياع.
إنَّ الشعور بالضياع هو ميزة الإنسان الغربي الذي لم يهتد إلى الإسلام، ولهذا فإننا نجزم أنه لا حلَّ للغرب لسد هذه الأزمة غير الإسلام، دين التوحيد الذي يدور حول (لا إله إلا الله) والذي عليه جميع الأنبياء والمرسلين وآخرهم عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والذي يميز بين الكون والإنسان باعتبار الإنسان خليطًا من المادة والروح، وأنَّ الروح هي الأصل فيه الذي يجعله عبدًا لله مختارًا لعبوديته بإرادته، {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:6- 9].