“رأيت رجالاً ونساءً وأطفالاً يُساقون إلى معسكرات الاعتقال في الصحراء، حيث ينتظرهم الموت جوعًا وعطشًا. لقد كانت هذة الأرض لهم، والآن أصبحت لهم قبوراً واسعة.” هذا الاقتباس واحد من عدة اقتباسات وردت في كتاب مواجهة الصحراء والذي يعتبر ترجمة لكتاب صحراء تحترق للصحفي الكاتب الدنماركي المسلم كنود هولمبوا، “شهيد حرية الرأي والتعبير” عام 1930 إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت الدول الأوروبية الكبرى تتنافس على تقسيم المستعمرات، وإيطاليا أرادت ان يكون لها نصيب في أفريقيا مثل بريطانيا وفرنسا، وذلك عندما رأوا الثور المريض للدولة العثمانية يترنح قبل سقوطه، ذلك ما استغلته ثعالب أوروبا المتربصة به منذُ زمنٍ بعيد. موقع ليبيا على البحر المتوسط وبين المستعمرات الإيطالية في شرق أفريقيا(إريتريا والصومال) وبين أوروبا، جعلها ذلك نقطة استراتيجية عسكرية واقتصادية مهمة بالنسبة لإيطاليا، وكانت إيطاليا بحاجة إلى تحقيق نصر عسكري لإرضاء الرأي العام وتعزيز القومية الإيطالية عبر الترويج لفكرة أن ليبيا “أرض إيطالية قديمة” بسبب الوجود الروماني فيها سابقاً، لم تكن ليبيا آنذاك غنية بالموارد الطبيعية، لكن إيطاليا اعتقدت أن الأراضي الليبية يمكن أن توفر فرصاً للاستيطان الزراعي للإيطاليين الفقراء، بالإضافة إلى إمكانية اكتشاف موارد جديدة.
حين قرر هولمبوا السفر من المغرب إلى مكة عبر شمال أفريقيا مستخدماً سيارة قديمة، وكان هدفه استكشاف العالم العربي الإسلامي، عندما وصل إلى ليبيا، صُدم مما رآه من الجرائم التي ارتكبها الإيطاليون ضد السكان الليبيين، وخاصة عمليات الإعدام الجماعي، التعذيب، ونقل السكان إلى معسكرات الاعتقال، عندما عاد إلى أوروبا كتب كتابه “صحراء تحترق” عن تلك الجرائم بقيادة الجنرال الفاشي غراتساي، نُشر الكتاب عام 1931، لكنه مُنع في إيطاليا وتمت محاولة التعتيم عليه دولياً، لكنه انتشر لاحقاً كوثيقة مهمة عن معاناة الليبيين في تلك الفترة ومرجعاً مهماً لفهم التاريخ الاستعماري الإيطالي في ليبيا.
من لم يستفد من التاريخ محكوم بتكرار أخطائه، فالتاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو مخزون من الدروس والعبر التي تساعد الأفراد والمجتمعات على تجنب الوقوع في نفس المآسي والأخطاء السابقة. وكما قال الفيلسوف جورج سانتيانا:” من لا يتذكر الماضي محكوم عليه بإعادته.” فيما يلي بعض الاقتباسات الواردة في الكتاب والتي سيتم شرحها بشكل مختصر لتوصيل الفكرة، والاستفادة منها:
“لم يكن منهم من يستطيع القراءة.” حينما مر هولمبوا ببعض القرى ووجد أن الذين يستطيعون القراءة بعدد الأصابع، هنا يتجلى معنى المقولة المنسوبة إلى أحمد بلة، (أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال) “هزمونا ليس لأنهم أقوياء، بل لأننا كنا ضعفاء” ولك أن تتخيل سهولة التلاعب بمجتمع يسوّده الجهل، كما ذكر هولمبوا في كتابه “كان معظم السجناء السياسيين من العرب المثقفين ثقافة رفيعة و الذين كان الإيطاليون يخشون جانبهم، كان من السهل على الإيطاليين قيادة الجهلاء من العامة و الذين تركوهم في جهلهم حتى يسهل قيادتهم” وهذا ما سيجعل الإيطاليين يقدمون مدينتهم وحضارتهم، أما من لم يستطيعوا الإمساك به من المثقفين ورجال الدين كعمر المختار، كانوا في الجبال يقاتلون أو في المنفى.
صحيح أنه تم بناء فنادق فخمة ومباني سياحية ذات طراز أوربي عصري، مع انه لم يسكنها إلا الأوروبيين أنفسهم، وذلك لتكون تلك المدنية دعاية برّاقة لهم، وكأنهم يقولوا عندما تصبحون تحت طاعتنا تماماً ستركبون قطار الثقافة الأوروبية الحديثة، بنوا منازل حديثة ولكنهم فتحوا المراقص وبارات الخمور وجعلوا الكتب المدرسية في ليبيا سطحية جداً، مقتصرة على تمجيد الإيطاليين، أجبروا بعض فتيات البدو المحاربين على البغاء، ونشروا الرذيلة، لذا فإن إيطاليا استغلت الجهل في توطيد استعمارها عبر نشر الأكاذيب والدعاية حيث حاولت إيطاليا خداع بعض الليبيين بالقول إنها لم تأتِ كغزاة، بل كقوة حضارية تريد تطوير البلاد، كما أستخدمت بعض الشخصيات المحلية الموالية لها لإقناع الناس بقبول الحكم الإيطالي، وقامت بتفريق القبائل وإضعاف الوحدة ودعمت بعض تلك القبائل بالسلاح والمال لإشعال النزاعات بينهم، واستخدمت بعض العامة للعمل لصالحها كمخبرين أو جنود مرتزقة ضد المقاومة.
لذلك فإن قلة وعي الشعوب يجعلها تستسلم للمحتل بسرعة بسبب تصديق دعاية الاستعمار، وقبول الاحتلال كأمر واقع وعدم مقاومته كما قال أحد هؤلاء العامة الذين ورد ذكرهم في الكتاب” أتمنى لو كنت في العشرين من عمري لكنت في الجبال مع المقاومة” في حين أن عمر المختار آنذاك كان يبلغ 72 عاماً، ايضاً كما قال أحدهم على لسان هولمبوا “إنها إرادة الله وعلينا أن نتحمل ونصبر”، قلة الوعي يجعل من الصعب بناء دولة قوية بعد الاستقلال بسبب ضعف المؤسسات وعدم وجود كوادر متعلمة تقود البلاد.
“لا يكتفي المستعمر بأخذ الأرض، بل يريد أيضاً محو الروح، تدمير ثقافة الناس، واستبدالها بشيء لا يمت لهم بصلة.” هنا نفهم أن الاستعمار لا يقتصر على السيطرة المادية من خلال احتلال الأرض واستغلال مواردها، بل يتجاوز ذلك إلى السيطرة الفكرية والثقافية بهدف إضعاف هوية الشعوب وإلغاء شخصيتها المستقبلية عن طريق محو الروح والمعنويات، إذ ان المستعمر لايريد فقط حكم الناس، بل يريد كسر إرادتهم وجعلهم تابعين له، بحيث يفقدون القدرة على المقاومة أو حتى التفكير في الحرية، كما يسعى المستعمر إلى إضعاف لغة السكان المحليين واستبدالها بلغته، ويقلل من أهمية الدين والتقاليد في نفوس الشعوب، كما يتم إعادة كتابة التاريخ بطريقة تخدم المستعمر، بحيث يصبح هو البطل الذي جاء للحضارة والتطوير، بينما يصور السكان الأصليون على أنهم متخلفون وغير قادرين على حكم أنفسهم. بعد محو الهوية الأصلية، يحاول المستعمر فرض ثقافة جديدة تتماشى مع مصالحه مثل تغيير أنظمة التعليم، القوانين، العادات الاجتماعية ويجعل الناس يرتبطون به ثقافياً واقتصادياً حتى بعد رحيله، مما يخلق استعماراً غير مباشر يستمرّ لعقود.
“الإيطاليون لا يحاربون المتمردين فقط، بل يُحاربون كل من يجرؤ على العيش في هذة الأرض. الطائرات تلقي قنابلها على القرى، لاتفرق بين الأطفال والمقاتلين. هذة ليست حرباً، إنها إبادة جماعية.” من هذا الاقتباس نستطيع ان الوصول إلى أهمية تحذير الأجيال الحالية والمستقبلية من الاستعمار وأكاذيبه، لأنه لا يأتي إلا بالدمار والإبادة، كما يجب تذكير الشعوب بأن الاحتلال لا يفرّق بين مقاوم ومدني، بل يستهدف الجميع لمحاولة القضاء على هوية الشعب، ايضاً يجب على الشعوب توثيق جرائم المستعمر كي لا تُنسى وللاستفادة من تلك التجربة المريرة. يجب ايضاً إبراز أهمية المقاومة الوطنية، لأن الاستسلام أمام المستعمر يعني الفناء. هذا الاقتباس يجعلنا ندرك أن مقاومة الاحتلال لم تكن مجرد خيار، بل كانت ضرورة وجودية لمنع إبادة كاملة للشعب الليبي.
“في عيون الرجال الذين يقاتلون في الجبال رأيت شيئاً لايمكن للاحتلال سحقه: إنها الحرية التي لا تموت.” يشير هذا الاقتباس إلى قوة الإرادة والصمود لدى المقاومين ضد الاحتلال، رغم الظروف القاسية والتفوق العسكري لعدوهم. يصف كيف أن الاحتلال يمكنه قمع الشعوب عسكريًا، لكنه لا يستطيع قتل روح الحرية داخلهم. حتى في أقسى لحظات القتال، تبقى الرغبة في الحرية أقوى من أي سلاح أو قوة استعمارية.
الحرية كقيمة لا تُهزم، رغم أن الاستعمار يمتلك القوة العسكرية، الطائرات، والجنود، إلا أن المجاهدين يمتلكون إيمانًا عميقًا بحريتهم وكرامتهم، وهو ما يجعلهم يستمرون في القتال، إذ أن الحرية ليست مجرد فكرة، بل شعور داخلي لا يمكن القضاء عليه بالقوة أو القمع، وهذا ما يجعل الاحتلال عاجزًا عن تحقيق انتصار كامل.
رمزية القتال في الجبال تمثل الحرية والصمود، لأنها مناطق وعرة لا يستطيع العدو السيطرة عليها بسهولة. المجاهدون الذين يقاتلون في الجبال يمثلون آخر حصون المقاومة، حيث يتحدوّن الظروف القاسية دفاعًا عن وطنهم وحريتهم.
الاحتلال يمكنه احتلال الأرض، لكنه لا يستطيع احتلال العقول. فالمستعمر يسعى لإخضاع الشعوب، لكنه لا يقدر على استئصال أفكارهم ومعتقداتهم ورغبتهم في الحرية، لأنه سيظل هناك من يحمل الفكر المقاوم وينقل الشعلة إلى الأجيال القادمة.
“الغرب لا يريد أن يسمع الحقيقة عن ليبيا. الصحف تكتب عن ‘تحضر السكان المحليين ‘ بينما هم يُقتلون أو يُسجنون بلا رحمة.” هذا الاقتباس يعكس النفاق السياسي للمستعمر، إذ أنه كيف له أن يسمح لنشر الحقيقة لاسيما وسط شعبه في حين أنه على جانب آخر يسعى إلى أن يظهر بمظهر القيادة السامية لنشر السلام والرخاء والازدهار على أرضه وفي مستعمرته الجديدة، ولكن إن أُسكتت آلاف الأفواه فسيكون هناك لسان واحد على الأقل يصرخ بالحقيقة أو قلم يكتب الواقع ويفضح أكاذيب المستعمر، كما فعل قلم هولمبوا وغيره من الصحفيين الأحرار.
هناك اقتباسات أخرى يمكن الاستفادة منها، ولكنني تعمدت أن أشير إلى أقواها معناً وتأثيراً.