أشدُّ يومٍ مرَّ على الأمةِ منذُ بعثته صلى الله عليه وسلَّم, وأسوأ يومٍ وأظلمه, كانَ يوم وفاته عليه الصَّلاة والسَّلام, يومئذ أظلمت الدنيا واسود كل شيء, وأنكرت القلوب أبدانها, فالأمر كما قال أنس – رضي الله عنه – ” لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاء مِنْهَا كل شيء، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كل شيء”. فما أشد ما نزل بالمسلمين حتى أنَّ منهم من لم يصدق, بل منهم من أنكر ذلك ومنع الناس أن يتحدثوا بخبر الرحيلِ المر.
ولأنَّ الله حكيمٌ خبير رحيم بهذه الأمة ففي كل نازلة تنزل عليها أو قاصمة تحلُّ بها يهيئ برحمته ما يعصمها به ويقيم عمودها ويحفظ بيضتها, ففي نازلةٍ قاسية كهذه وهي وفاته صلى الله عليه وسلم, كان الصِّدِّيقُ رضي الله عنه هو القائد المنقذ, والمرشد الحكيم الموجه للتصرف الصحيح في لحظاتٍ حرجة, ما عرفت الأمة مثيلًا لها. وبالرغم من انشغاله رضي الله عنه ببعض شأنه لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, سرعان ما عاد وقد ارتجت المدينة, واضطربت, والنَّاس في ذهولٍ وكرب لا يعلمه إلا الله.
دخل حجرة عائشة ابنته رضي الله عنها وهي التي توفي فيها النَّبي الأعظم, ووجده قد قبضت روحه فكشف عن وجهه الشَّريف ثمَّ أكبَّ عليه فقبَّله وبكى، ثمَّ قال: “بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله! والله لا يجمعُ الله عليكَ موتتين أبدًا، أمَّا الموتة التي كتبت عليك فقد متها”, ثمَّ خرجَ للنَّاس وهم على حالهم من الغمِّ والكرب فوقف الموقف الذي لم يسبقه إليه أحد ولم يقفه أحد, وكما كان أولًا في ما سبقَ من مواقف حرجة كان هنا أولًا في قول الحقِّ والتسليم لله ولحكمه, وأولًا في مسْك زمام المبادرة في الحفاظِ على سكينة المجتمع وإدارة الأزمة باقتدار.
وقفَ ليقول كلمة غيرت مجرى الأحداث؛ وقفَ بصلابة يخاطبُ الجموع المنكسرة: “من كان يعبدُ محمَّدًا فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت”، ثمَّ تلا هذه الآية: “وما محمَّد إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرًّسل، أفإِن ماتَ أو قتلَ انقلبتم على أعقابكم” [آل عمران ١٤٤].
فأُسقِطَ في أيدي النَّاس وخارت قواهم واهتزت قلوبهم وعلموا أنَّ الأمر جد وأنَّ الخبر يقين حتى قال قائلهم: كأنَّ هذه الآية أنزلت السَّاعة وكأني لم أسمعها من قبل.
وقفَ أبو بكر رضي الله عنه وكان حارس الأمة ورائدها من أولِ هزة كادت أن تعصف بها, وكما كان أولًا في الإيمان وأولًا في الإنفاق وأولًا في الصُّحْبة وأولًا في الطَّاعة والتسليم لله ولرسوله كان أولًا في حمايةِ جناب الأمة من الضَّلال والفرقة رضي الله عنه وكما كان أولًا في حياةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك بعد وفاته.
ومع أنَّ مصيبته بالنَّبي صلى الله عليه أعظم وفقده أشد فقد كان جليسه ورفيقه وأمين سره ومستشاره وصاحبه مدخلًا ومخرجًا, لكن هكذا هو التَّوفيق والاختيار من ربِّ العالمين “وربكَ يخلقُ ما يشاء ويختار”، وكم لأبي بكر رضي الله عنه من مواقف لم يفعلها أحد غيره في نصرةِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, (إنَّه الصَّديق) وكفى.
وبعد بيانِ أبي بكر رضي الله عنه قَبل النَّاس الأمر الجلل وقلوبهم تتفطر حزنًا وتتقطع كمدًا وحُقَّ لها فقد مات محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوا يرددون الآية تسلية لأنفسهم وتسليما لأمر الله “وما محمَّد إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرًّسل، أفإِن ماتَ أو قتلَ انقلبتم على أعقابكم” [آل عمران ١٤٤].
أيّ مصابٍ يعدل هذا المصاب لكن حكم الله وقضاؤه ” لا معقِّبَ لحكمه ولا رادَّ لقضائه”, ولأنَّ هاجس المصلحة العامة وجمْع الكلمة وبقاء الحياة دون أن تتوقف الحركة عند المصائب مهما كانت عظيمة وقلق الخوف من كيدِ الكائدين وتربص المتربصين من أعداء حانقين كانَ العقل والحاجة يقضي بحسم أمر من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تتفرقَ كلمة المسلمين ويبعد عهدهم بمحمِّدٍ صلى الله عليه وسلم, فهنا بادر الأنصار وسارعوا كعادتهم في مسارعتهم إلى الخيرات ومسابقتهم إلى القربات بادروا إلى عقد اجتماعٍ عاجل لمناقشة الموضوع والقيام بترتيبه وكأنهم رأوا أنه من المسؤولية أولًا ومن باب المصلحة العامة أن يقطعوا في هذا الأمر لأنهم أهل الأرض وهم الأنصار والبلاد بلدهم وواجب الوقت ولازم المسؤولية يقتضي القيام بالأمر قبل أن ينفرط العقد ويصعب جمعه, فاجتمعوا وأجمعوا أمرهم على رجلٍ منهم من خيار الأنصار رضي الله عنهم جميعًا. ولأنَّ كبار المهاجرين منشغلون بتجهيز النَّبي صلى الله عليه وسلم وترتيب مراسيم الصَّلاة عليه ودفن جسده الطاهر فلم يحضروا من بدايةِ اللقاء. فلمَّا بلغ الخبر أبا بكر رضي الله عنه انطلق مسرعًا ومعه نفرٌ من المهاجرين فمثل هذه القضايا الكبرى لا ينبغي الغياب عنها مهما كانَ العذر والانشغال, ذهب أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وجمْعٌ من المهاجرين رضي الله عنهم وحضروا المكان المشهود الذي اجتمع فيه إخوانهم الأنصار لاختيار من يقود القافلة قبل أن تتوه في صحراء الخلافات وخاصة أنَّ المتربصين بها كثر وقطاع طريقها ينتظرون فرصة كهذه. اجتمع الفريقان, وهم فريق واحد له جناحان لا يطير إلا بهما اجتمعوا لاختيار رأس يضم الجناحين فيطير طائرهم بسلام مواصلًا رحلته لإنقاذ البشرية.
وفي مجلس صدق وموقف إخلاص للأمةِ والدِّين بعيدًا عن الحظوظ الذَّاتية التي لا تقبل إلا أن يكون لها حظٌّ ونصيبٌ مهما كانت النتائج والعواقب؛ تزين ذلك المجلس بزينةِ التقوى وتعطر برائحة الصدق وتنزه عن نزغات الشياطين وهمزات المنافقين, بدأت كلمات الحضور يدلي كل طرفٍ بحجته والآخر في استماعٍ راقٍ مهما كان القول أو القائل.
كل متكلم يطرحُ حجته ورأيه ومؤهلاته ووجهة نظره؛ دون نزع سلاح ولا تهديد خفي أو ظاهر ولا اتهام بسوء نية ولا دعوة لشقِّ الصف أو نزع الطاعة أو الاتصال بجهات خارجية متربصة أو تبييت نية سيئة أو الاستقواء بفصيلٍ دونَ آخر أو حتى الخروج والمغادرة قبل أن يُقضَى الأمر, بل استمروا في النِّقاش حتى اتفقوا رضي الله عنهم أجمعين.
إنه حوارٌ صريحٌ صادقٌ واضح بالحجةِ والبينة ومن الطبيعي أن يحتد النَّقاش ويشتد الحوار فهو اختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقائدًا لدولة الاسلام وليس اختيار قائد سرية أو عضو برلمان أو مناقشة قضية عادية فقد كان مؤتمرًا عاجلًا ومهمًا له ما بعده عُرِفَ بقصة (سقيفة بني ساعدة) سقيفة الخير والصلاح والتَّأسيس.
ولما رجحت كفة المهاجرين بقوة الحجة والمنطق وبكل سلاسة وقناعة؛ بعد ذلك ولأنَّ الأمر تكليفٌ وليسَ تشريف ومسؤولية وأمانة وليس فرصة للتصدر والظهور؛ كل واحد منهم يصرف الآمر عن نفسه ويقدم الآخر ويعرض مواصفاته, لكن من يسبق أبا بكر رضي الله عنه؟ ومن يكون قبل أبي بكر؟ حتى قال قائل الأنصار عبارة يحفظها التَّاريخ: “نعوذ بالله أن نتقدَّمَ أبا بكر”, لما عقدها عمر رضي الله عنه حين قال : فأيكم تطيب نفسه أن يتقدَّمَ أبا بكر؟.
اتفق الجميع وأجمع الكل على أبي بكر رضي الله عنه فبادر المهاجرون بالبيعة كما بادروا بمناقشةِ القضية وانصرف النَّاس على رأيٍّ واحدٍ وعلى قلبِ رجلٍ واحدٍ ولم ينصرفوا حتى بايعوا جميعًا, استلم القائد المهمة, ومارس من أول لحظة لأنها مسؤولية دون احتفال تنصيب أو بروتوكولات تسليم, بايعوه لأنه ليس هناك كأبي بكر في الصِّحابة وبإجماع الصحابة ومن لم يحضر ذاك المجلس بايع لاحقًا راغبًا ومحبًا ومقتنعًا .
ولقد كانت بيعة أبي بكر كما قال عمر رضي الله عنه (فلتة) أي دون تخطيط مقصود ولا ترتيب مسبق، لكنها جاءت هكذا وكانت عصمة للأمة من الافتراق والخلاف والشقاق والاقتتال وكان الصديق صاحبها فرضي الله عن أبي بكر كم له من يد ٍعلى الأمة وكم له من موقف صدق عصم الله به الأمة وأظهر به الملة، منذ أول يوم أسلم وجهه لله وصدقَ برسوله صلى الله عليه وسلم، مذ أسلم وكل حياته وماله ووقته وقلبه وقالبه سلمها لله فلا مثيل له في الصحابة مطلقًا شاء من شاء ورد من رد.
السؤال المحك!! لماذا اختلفوا ؟
أتدرون لماذا اختلف الصَّحابة رضوان الله عليهم في سقيفةِ بني ساعدة, ولم يتم اختيار خليفة مباشرة؟!
لأنَّه ليس هناك نصٌّ من أيةٍ أو حديث على أنَّ الخليفة فلانٌ من الصَّحابة لا قريب ولا بعيد ولا مهاجري ولا أنصاري, ليس هناك نصٌّ بتحديد شخص يتولى الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ لو كان ثمةَ نصٌّ من النَّبي صلى الله عليه وسلم أو وصية بفلان؛ أقسمُ بالله قسمًا لا أحنث فيه لو كان هناك نصٌّ أو وصية لما تردَّد الصحابة لحظة ولما اختلفوا برهة؛ لأنهم أصحاب شعار (سمعنا وأطعنا) لأمر الله, وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فكيف والأمر يخصُّ الأمة؟!
منطق العقلاء يقضي أنه لو كان هناك نصٌّ أو وصية لأحدٍ من أصحاب رسول الله بأن يتولى الأمر من بعده فلان لما توقَّفَ الوصي لحظة في المطالبةِ بتنفيذ الوصية, فلا يجوز له أن يتوقفَ عن تنفيذِ وصيةِ رسول الله, ولو كان فيها هلاكه، ولا تردد الصَّحابة طرفة عين في قبولها لا لشيء إلا لأنهم يعتبرون تنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان به وليس أدلَّ على ذلك من حرصِ أبي بكر والصحابة رضي الله عنهم معه على انفاذِ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, فهم أهل امتثال لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كلفهم الأمر ومهما كان الأمر ولمن كان الأمر , ودونك سيرة الجيل الأول مليئة بالشواهد والأمثلة على هذا التَّقرير.
وإنما كان الصديق هو الخليفة لمؤشرات وعلامات تركها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوي اختيارهم له وليس أمرًا صريحًا بذلك لكنهم أشد حرصًا على موافقة مراد النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بمؤشراته .
فالحمد لله على فضله السابق بجمع الأمة على أبي بكر رضي الله عنه والحمد لله على فضله اللاحق والمستمر على نعمة الاسلام والسنة.