المدونة

الخلط بين الميدان الدعوي والميدان السياسي

مخاطر وتداعيات

لعل من أعظم المفاسد التي تعتري العمل الإسلامي المعاصر هي تلك اللبسة الكبرى في الخلط بين الميدان الدعوي والميدان السياسي، حيث يحدث الاختلاط “المَرَضي” بين مناخات كل منهما، فيغلب أحدهما على الآخر. والمصيبة العظمى أن الضرر في الحالتين يقع حتماً على جانب الدعوة وأهلها، مما يستدعي وقفة تأملية عميقة.

طبيعة الميدان الدعوي وسياسة التعامل مع أهله

الميدان الدعوي يقوم على أسس روحية وأخلاقية تختلف جذرياً عن قواعد الميدان السياسي.

فالدعوة إلى الله تقوم على:

– افتراض الإخلاص والتجرد في النيات 

– سيطرة روح المحبة والتسامح بين العاملين 

– التغاضي عن الهفوات طلباً للوحدة 

– غلبة حسن الظن في تفسير المواقف 

– التضحية والغرم من غير انتظار مغنم دنيوي

هذه المعايير المثالية ضرورية لاستمرار العمل الدعوي، إذ أن الداعية الحقيقي يظل في حاجة مستمرة إلى: 

– مراجعة نفسه ونيته 

– تطهير قلبه من الشوائب 

– تجديد إخلاصه كزاد أساسي لاستمراره

الخلط الكارثي: تصور أن الداعية الذي تحول إلى العمل السياسي أنه مازال ذلك الداعية

فنتعامل مع من تفرغ للسياسة بنفس المعايير الدعوية، حيث:

1. يستفيد السياسي من هذه المعاملة المتسامحة من خلال دفاع الدعاة عن أخطائه وتبريرها أمام الآخرين 

2. يستغل هذا التسامح أبشع استغلال في التكسب وهو آمن من المحاسبة والمساءلة. 

3. يتحول التسامح إلى أكبر “ثغرة أمنية” على الصف بسقوط المتكسبين.

إن افتراض أن السياسي الذي كان داعية سيحافظ على نفس الروح بعد دخوله المعترك السياسي هو وهم خطير لأن:

– السياسة لها مغانم مادية ضخمة تختلف عن الدعوة 

– البيئة السياسية تفرض قواعد لعبة مختلفة. 

– الضغوط والمصالح تغير المواقف والسلوكيات.

اعتقد أن غياب الوعي بهذا التمايز مرده إلى: 

– ضعف التربية على الفرق بين المجالين 

– هيمنة العاطفة الدينية والروح الدعوية على الأفراد وعلى التحليل والمعرفة السياسية.

أما حصول العكس: أي معاملة الداعية كسياسي فهو غير وارد وغير واقعي لأن فاقد الشيء لا يعطيه ومن افتقد ذلك السلوك مع من يستحقه فأنى له أن يمارسه مع غيره.

للسياسة شيطانها الخاص

لعل القصة المشهورة عن عبد الملك بن مروان حين أقفل المصحف قائلاً “هذا فراق بيني وبينك” عندما بلغه اختياره للخلافة، تظل أبلغ تعبير عن حقيقة الصراع بين الروح الدعوية والممارسة السياسية.

– أعتقد أن للسياسة شيطان خاص ألعن من شيطان الصلاة ومن أي شيطان آخر، وليس أدل على ذلك وأبلغ مما حصل بين الصحابة من فتنة واقتتال وهم من هم. 

– للبيئة السياسية قدرة على إفساد النفوس حتى الطيبة منها وتلويثها. 

– في الحياة السياسية قوانين صارمة تختلف عن قيم الدعوة وأخلاقها. وفي تراث الأمم جميعاً أن: 

– غالب من يعمل في السياسة هم أسوأ الناس أخلاقاً 

– البيئة السياسية تعصف بالمبادئ إن لم يكن هناك حصانة وقواعد مراقبة ومحاسبة شديدة وصارمة. 

– الدخان السياسي يصيب حتى الصالحين إن لم يهلكهم

آليات حماية الصالحين في المعترك السياسي

أعتقد أن من أهم الوسائل لحماية الصالحين في الميدان السياسي:

1. نظام رقابي صارم: 

– محاسبة دقيقة 

– شفافية كاملة 

– عقوبات رادعة 

2. ثقافة الشك المنهجي: 

– تغليب سوء الظن في الجانب المالي 

– المراجعة الدائمة للأداء 

– عدم التساهل في المحاسبة 

3. ضوابط مؤسسية: 

– فصل السلطات 

– تحديد الصلاحيات 

– تقييد المدة الزمنية

إن هذا المنهج الناضج في التعامل مع أهل السياسة والوظائف العامة هو من تأسيس العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي سبق به أرقى النظم الديمقراطية الحديثة، مما يؤكد أن المشكلة ليست في غياب النموذج، بل في غياب التطبيق والاستعداد لدفع ثمنه.

خاتمة: ضرورة الفصل الوظيفي

إن إنقاذ العمل الدعوي من مخاطر الالتباس مع العمل السياسي يتطلب:

– وعياً مؤسسياً باختلاف المجالين. 

– جرأة في المحاسبة دون مراعاة للوجاهات. 

– تربية جيل جديد على التمايز بين الميدانين. 

ضوابط عملية تمنع من يشتغل في السياسة الدعوة عبر الخطاب الوعظي الديني أو الاشتغال بالفتوى ولو كان من أهلها، فدعوته كسياسي محصورة في المواقف الأخلاقية والوطنية، وفي السلوك المالي المنضبط، وفي تمثله لقيم النزاهة وعفة اليد.

وأخيرًا: فكما أنَّ للدعوة أدبياتها، فإنَّ للسياسة قوانينها، والخلط بينهما جناية على الدين والدنيا معًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى