تسمية “مغالطة رجل القش” (Straw Man Fallacy) تأتي من فكرة بناء نموذج أو شكل رجل مصنوع من القش يسهل هزيمته أو تدميره. في السياق الحجاجي، يعني هذا تحريف حجة الخصم أو تبسيطها بشكل مفرط، لخلق “نسخة ضعيفة” من الحجة يمكن مهاجمتها أو دحضها بسهولة بدلًا من الحجة الأصلية.
هذا النوع من المغالطة يشبه إلى حد كبير بناء نموذج رجل قشي لا يمثل الشخص الحقيقي أو حجته الفعلية، ومن ثم القضاء على هذا النموذج بسهولة، مما يوحي زورًا بأنَّ الحجَّة الأصلية قد تمَّ دحضها.
فإذا قال شخص: “نحتاج إلى تقليل انبعاثات الكربون للحدِّ من الاحتباس الحراري”، ورد عليه شخص آخر بالقول: “هو يعتقد أننا يجب أن نتوقف عن استخدام السَّيارات تمامًا”، هذا يكون تحريفًا للحجَّة الأصلية.
هل هذه المغالطة تنطبق على الدَّعم الإيراني لغزة؟ دعونا نرى ذلك:
– لدينا ثلاثة أطراف مباشرة تتعلق بغزة هي: الكِيان الصُّهيوني وإيران والعرب، وأضيف إليه طرف رابع في الحرب الأخيرة وهو الغرب وعلى رأسهم الأمريكان (قبلها كان الغرب يدعم حروب الكيان مع غزة بطريقة غير مباشرة).
– قام الكيان بشن حرب شعواء على غزة فاقت في بشاعتها وخسائرها-حتى تاريخ كتابة هذا المقال- نكبة 1948 بغرض فرض واقع جديد، وتهجير سكان القطاع إلى دول مجاورة، فيما عرف باسم صفقة القرن، وتمهيدًا لإنشاء قناة بن جوريون ومستوطنات يهودية في القطاع.
– بادرت المقاومة بالهجوم لكسر هذا المخطط، تلاه هجوم الكيان الكبير، والذي أيَّده طرف آخر وهو الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة بأساطيلها وطائراتها وقنابلها وحتى جنودها.
– اجتمع زعماء 57 دولة إسلامية بعد شهر من الحرب وأصدروا بيان إدانة على الورق، بينما في الواقع لم يستطيعوا إدخال حبة دواء أو قطرة ماء للقطاع.
– صمدَ أهل غزَّة صمود الجبال الرواسي، وأظهروا شجاعة نادرة، ونبلًا أخلاقيًّا لفت نظر العالم، وكسر الدعاية الصهيونية، وكسب أهل غزة تعاطف العالم الغربي المؤيد للصهيونية.
– هل حصل تدخل عسكري من إيران وحلفائها لصالح غزة؟ لا، لم يحصل -حتى الآن-. الذي حصل هو تسهيل بعض الأعمال القتالية في جنوب لبنان نفذها فصائل يتبعون المقاومة الفلسطينية. وحصل أن قام الحوثيون بإطلاق بعض الصواريخ التي يقال بأنها سقطت في الأردن.
– هل هذه الأعمال (الاستعراضية) كافية؟ لا. ولكن لها ما يبررها بالنسبة لإيران، فهي لا تريد الدخول في حرب تدميرية مع الأمريكان، فهي تقوم بعمل هذه الأمور لتحقيق غرضين: كسب السُّمعة، ودرءًا للغضب الأمريكي.
– ماذا استفادت المقاومة من إيران إذن؟ صحيح أنَّ إيران وحلفاءها لم يشاركوا-حتى الآن- في حرب طوفان غزة، لكن المقاومة استفادت من الدعم المادي واللوجستي الإيراني على مدى سنواتٍ طوال، مما سمح لها بتطوير قدراتها الدِّفاعية.
– هل تريد أن تبرر لإيران، وتبيض صفحتها الإجراميَّة، المارقة، وأفعالها الشَّنيعة في العراق وسوريا واليمن؟ بالطبع لا! فإيران أجرمت – ولا تزال تجرِم – وقتلت من مواطني هذه الدول الثلاث أكثر مما فعله الصهاينة بأهل فلسطين منذ 1948.
– أضف إلى ذلك أنَّ المقاومة تشكر إيران. أليس هذا تبييضًا لجرائم إيران؟ نعم. قد تكسب إيران شيئًا من السُّمعة بسبب شكر المقاومة لها، لكنه ليس تبييضًا لجرائمها، والجرائم لا تسقطُ بالتَّقادم، والشُّكر مقصور على من مد يد المساعدة لا غير. وإيران لجأت لملأ الفراغ الذي تركه العرب. فالأولى هو توجيه اللوم للعرب، خاصة للذين يحيطون بفلسطين والذين يقع عليهم الواجب الشَّرعي بالنُّصرة لأهل غزة. من هنا تأتي مغالطة رجل القش، فبدلًا من توجيه اللوم للطَّرف المطالب بالواجب. يتم توجيه اللوم لطرفين آخرين (الضحية ومن يساندها): طرف المقاومة (وهو الضَّحية هنا)؛ لأنها شكرت إيران، وطرف إيران كونها تتكسب السمعة لتبييض جرائمها. في حين يتم إهمال طرفين آخرين، وهما الطَّرفان المعنيان أصالة بوقفِ الحرب: الطرف العربي والطرف الغربي (خاصة الأمريكان). فلا يتم توجيه اللوم لهما، ولا مطالبتهما حتى بفتح المعبر فضلًا عن إيقاف الحرب.
– هل انتقاد إيران خلال حرب الطوفان يضر بغزة؟ نعم. لأنَّ هذا الانتقاد لا يضر إيران من حيث الواقع، وإنما يضر المقاومة بصورةٍ مباشرة، لأنَّ التركيز الإعلامي يتم حرفه لمهاجمة إيران والمقاومة، بدلًا من تركيزه على جرائم الكيان الصهيوني في غزة، فهي خدمة مقدَّمة بالمجان لوحدة المراقبة الإسرائيلية الأشهر رقم 8200 التي تتبع الشَّاباك، والتي تقوم بجمع البيانات، وإعادة توجيهها بنسق يخدم الكيان، هي ومثيلاتها من خلايا الذباب الإلكتروني العربي المخذولة. إن كان ثمَّة انتقاد لإيران وتصفية حسابات فليس هذا وقته، وإنما يمكن عمل ذلك بعد أن تضع الحرب أوزارها.
– أخيرًا: شكر المقاومة مبذول لكلِّ من يمدُّ يد المساعدة من ملاك أو شيطان، فليبادر العرب وسيجدون كل شكر وامتنان. أمَّا أن يتم توجيه السِّهام للمقاومة، ومقارنة دماء بدماء (دماؤنا ليست بأقل من دماء غزة.. ونحو ذلك من الشعارات)، فهو مجرد تخذيل وتوهين للمقاومة، وفت في عضدهم في أحلك الظروف التي يمرونَ بها، ولنحذر أن نسلك سلوك المنافقين الذين يبثون الشائعات لتخذيل إخوانهم، فنقع في الإثم ونحن نحسب أننا نحسنُ صنعًا.
– حتى لو لم يثبت الدَّعم الإيراني للمقاومة قبل وأثناء الطوفان، فلا فائدة من الانشغال بالمعركة الإعلامية مع إيران، لأنه تشتيت للجهود، واستهداف بالوقت الخطأ، وخرم في ترتيب أولويات المعركة. والحكمة وضع الشيء موضعه زمانًا ومكانًا.