المدونة

الشيخ محمد المقرمي : والسفر الأخير

لم يكن يعلم الشيخ محمد المقرمي أن سفره الليلي قبل أكثر من شهر ونصف عبر مطار عدن الدولي هو سفره الأخير من بلاده، وأنه خرج من اليمن ولن يعود إليها، وأنها ستكون النهاية، والموت خارجها بعيدًا عن الأهل والأحبة، والقبر في مقبرة أمِّ البشرية حواء في مدينة جدة.
كان التواصل بيني وبينه في ترتيب هذا السفر الدعوي عبر الاتصال، وترتّب أنه سيقدِم من جهة محافظة تعز إلى عدن لننطلق معًا في أرض الله. وصل هو إلى عدن، ونزل بأحد فنادق مدينة خور مكسر يرافقه بعض أولاده الذين كانت نقطة نهاية سفرهم عدن فقط. ولأن رحلتنا فجرية، كان أن أتيته بسيارتي إلى الفندق.
وللعلم كان هذا أول لقاءٍ تعارفي بيننا وجهًا لوجه، كنت أعرفه من خلال مقاطعه الدعوية وتدبراته التفسيرية، إلا أن الله أراد لنا، بل أراد الله لي، أن أرافق هذا الرجل الصالح المؤمن المتبتل التقي النقي، أحسبه والله حسيبه، وهو الآن بين يدي ربه الكريم الرحيم، ربّ محمد المقرمي الذي أحبَّه محمدٌ وعرفه وتحدّث عنه واستلذّ الدعوة إليه، وأبكى العيون وخشعت القلوب ورددت الألسن عند سماع لطائف الإيمان واليقين منه: الله الله الله.
التقيت بالشيخ الصالح أمام بوابة فندق خور مكسر وتصافحنا بحرارة، وتساعدنا على حمل أغراضه وكانت قليلة، وهو متقلل من أثقال الدنيا الحسية. كان خفيفًا عفيفًا في كل حاله، وما إن صعدنا السيارة حتى تآلفت القلوب، وتعارفنا وكأنها معرفة الدهر. ودخلنا مطار عدن الدولي، ولأنه خريّت المطارات (وهو مهندس طيران – فني مطارات) فقد سبقني في تقديم أوراقه وإنهاء معاملاته، ثم اختفى عليَّ في صالة المغادرة، ورأيته بعدُ في محراب العبادة في مصلى المطار. ووجدتني أعرّف به وأدعو للاستفادة منه من لقيتُ من الصحب، وقد وجدتُ دكتور شريعة من معارفي في الصالة، فقلت له: ذاك الشيخ المقرمي. فقال: أسمع عنه، وقد أبلغني الدكتور فلان بالاستفادة منه.. العلماء يتواصون بالاستفادة منه.
هنا قلت: من أنت يا مقرمي حتى ينشر الله تعالى ذِكرك في حياتك؟! كيف، كيف لو رأيتَ يا ضيف ربك، يا محمد (قرية المقارم)، ما صنع الله بك ولك بعد مماتك؟ لقد امتلأت القنوات والمِنصَّات والبيوت والمجموعات بذِكرك والدعاء لك والاستفادة منك.
كان أن صعدنا الطائرة فجرًا بعد أن صلينا الفجر جماعة في آخر دقائق المغادرة، وكنا متجاورين في الرحلة، وكانت رغبتي. فكان الحديث عن الله والإيمان والتدبر واليقين، وكان الهدوء والهداية تملأ أجواء هذا الرجل. كله إيمان، كله سكينة، كله حب لله. لا أقول ذلك مبالغة ولا غلوًّا، بل يراه من صحبه ورافقه. وأنعِم بالأسفار في تجلية الأخيار وإظهارهم، وكشف الأشرار ومحقهم.
كانت الوجهة إلى بيت الله العتيق أولًا، وأجزم أن صاحبي المقرمي لا يريد صحبةَ أحدٍ في عمرته؛ لأن مثل هذه المشاهد يُستحسن فيها الفردية والوحدة ليخلو الإنسان فيها بالله شوقًا وحبًّا ودعاءً وتبتلًا، وليخلو بنفسه اكتشافًا ومجاهدة وعروجًا في الملكوت، إلا إذا كان متعلّمًا راغبًا.
غاب عني الشيخ محمد المقرمي، ولا ألتقيه إلا لمامًا في الفندق، وأحسّه في الأسحار بخفة يستيقظ ويدخل في عالم العبادة والمناجاة إلى قرب الفجر. ومع أن الفندق كان بعيدًا عن الحرم في العزيزية قريب منى، وليس للفندق وسيلة نقل للحرم، إلا أن صاحبي يتجشم الزيارة ويدفع قيمة التكاسي. ثم اعتذر لنا أنه يريد زيارة أقاربه، وأظن أنه يحب الخلوة بالله، وهي ملاذه وأنسه، وقوّته وقوْته.
ثم ترافقنا بعدها في أسفارنا، وجلسنا كثيرًا، وسمعنا منه كثيرًا، واشتركنا في بعض المحاضرات، فكان له السَّبق في التأثير والإبداع. ومن طرائف ما قال لي بعد إحدى المحاضرات المشتركة وقد سبقته بالحديث:
يا علي، لما تكلمتَ أنتَ وعبد المنان، قلت: يا رب، هذا المحثوثي وعبد المنان قد قالوا وقالوا، وأنا يا رب عُبَيْدَك، وأنا يا رب عُبَيْدَك، افتح لي مثلما فتحت لهم. فكان أن تكلم بعدنا، فأثرى وأبكى وأبدع وأمتع، وطارت كلمته الآفاق. وكنتُ إلى يمينه أجد نفسي بتلقائية وأنا أتروّى اللطائف التوحيدية العالية أردد: الله الله الله.
فقلت له بعد ذلك عن مشاعري تجاه محاضرته البديعة التي نشرتها سابقًا في صفحتي، فقال بلهجة محلية تعزية جاذبة: قد أنا حاسّ بك، وأسمعك وأنت (تمصمص) الآيات بعدي.. غفر الله لك، غفر الله لك.

كانت لنا أيام مع المقرمي المفسِّر المؤثر، الذي طاف العالم كمهندس مطارات، وبعد أن تقاعد طاف العالم بكلماته ومعارفه وتأثيره ودعوته. وكم بموته كتب الله له من الانتشار، مات وأحيا الله به قلوبًا. كم سمعت وقرأت وتلقيت اتصالات ممن يقول: ما عرفناه إلا بعد موته، وما استفدنا منه إلا بخبر وفاته. وكم سمعتُ تحسّرات ممن تمنى لقياه فلم يقدَر، وبُعث إليَّ السلامُ إليه ظنًّا أننا لا زلنا رفقاء سفر، فقلت لهم: سافر، ولم يدر هو رحمه الله أنه سيموت. إلا أنه كان ينتابه إحساس الرحيل، والصالحون لهم تجليات، فكان يقول لمن رافقه في مكة والمدينة: أشعر بقرب الرحيل، وأنا أُحضِّر نفسي لمقابلة الله. ويقول: اشتقتُ لرؤية ربي.
وقبل وفاته بساعات كان قادمًا من المدينة، فقال لبعض الأعزاء: كنتُ في رحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم.
أقول هنا كلمة: كل من يرافقه لأيام يستطيع أن يكتب كتابًا عن مشاهداته مع الشيخ المقرمي، وأنا ما رافقته إلا أيامًا، فكان من مواقفه العجب، وأتمنى لو تُجمع مواقفه وقصصه وعبره وعبراته في كتاب لتكون بوصلة للجيل وللجيل القادم، فهؤلاء القدوات هم الأدلاء على الله جل جلاله.
أنا مازلت مصدومًا بوفاته، ومتحسرًا على ضعف التملي مما فتح الله به عليه، والتعرف أكثر على تجربته. ولنا سلوى في تسجيلاته ومصوراته. ولقد تجلّى فيه حديث رسول الله:
(ألين قلوبًا وأرق أفئدة.. الإيمان يمان). ومن كان هذا وصفه حَرِيٌّ به أن تُفتح له المعارف والمعارف والمعارج، وقد رأينا ذلك في مقرّمينا الفقيد.
كنت أقول وقد ترافقنا ورأيتُ سباق القنوات والمنصات عليه: الحمد لله، سينتفع به الناس في اليمن خاصة، الآن وجدنا خطابًا دينيًا راشدًا مواكبًا قريبًا من الناس، ووجدنا من يتكلم بعفوية وسلاسة وقرب من القلوب. لكن الله له قدر وحكم، ولا رادّ لحكمه، وكأنه كتب للمقرمي بوفاته الحياة: الحياة عنده سبحانه، وهذا الظن به وهو الكريم، والحياة بين الناس ذكرًا ودعوة ودعاءً بحواراته ومحاضراته.
فيا أهل اليمن خاصة:
لم تعرفوا الرجل حقًّا إلا بعد وفاته، كعادة العرب: لا نعرف قدر وقيمة الرجال إلا بعد موتهم، حتى قالت أمثالهم: إذا أردت أن تكون عظيمًا فمت.
وعليه: لا تبخسوه حقه وقد مات، اسمعوا محاضراته وحواراته، وأجروا له الأجر بالعلم النافع بعد وفاته، وكم نحتاج نحن إلى حديثه وخطابه بقدر حاجته إلى الأجر والثواب. وأجزم أن اليمن لم تعرف في هذا القرن السابق من يتكلم عن الله وتوحيده ويحسن الربط بين آيات الكتاب كهذا الرجل.
لقد خرجنا من اليمن لوحدنا في سفره الأخير، فسافرتَ أنتَ إلى ربك يا محمد، وبقيتُ أنا في دنيانا النكدة، ولا أدري بأي أرض أموت، أفي اليمن أم خارجها:
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } [لقمان: 34].
فلله الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وغفر الله لعبده والداعي إليه والمتحدث عنه محمد المقرمي.
وصلى الله على نبينا محمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى