يقولون إنَّ المطبخ الصَّيني أوسع المطابخ العالمية من حيث التنوع والثراء، بغض النَّظر عن الجودة واحتوائه على الغرائب، ومرد هذا الثراء في الأصناف عائد إلى أنَّ الملك الصيني (تشين شي هوانغ، ت: 210 ق. م)، أخبره حكيم أنَّ “إكسير الحياة” موجود في الطبيعة، فأمر الملك الأطباء والحكماء بالبحث عن هذا الإكسير في كل ما يوجد على الأرض، فجرَّبوا كل ما نبت ودبَّ على الأرض، وماتَ العديد منهم في عمليات التَّجرِبة، ومرض آخرون، وكانت النَّتيجة أن انتقوا للصِّين قائمة طعام متنوعة وغريبة، تضم مصفوفة طويلة من الطيبات والخبائث. ويقال إنَّ الإمبراطور تناول الزئبق اعتقادًا بأنه يمكن أن يطيل حياته، ولكن الزئبق كان سامًّا ومن المحتمل أن يكون قد أسهمَ في وفاته.
هذه الورطة التي تورَّطَ فيها أطباء الصَّين، يندفع إليها العديد من الشَّباب في أول قراءتهم، ويتحلّون بروح المغامرة، وأن عقولهم قادرة على قراءة كل شيء وغربلة كل شيء، ويهجمون على موائد معرفية مسمومة أو معلولة، والنتيجة في أحيان كثيرة، أن يموتوا معرفيًّا أو يمرضوا، والذين ينجونَ من أعراض العلل المعرفية، قليل، وبضريبة باهظة في صحتهم الفكرية.
والدَّافع إلى هذه التَّجرِبة ليست أوامر ملك الصَّين، ولكنها روح المغامرة، وحب الانفتاح، والترفع عن نصائح المجربين، والاعتداد بالعقل، وقدرته على التمييز، غير مدركين أنَّ العقل آلة لم تمتلك معايير التمييز بعد، ولذلك من العبث تكليفه ما لا يطيق.
وقد تعرَّضتُ لهذه الحالة في أول شبابي، وكنت أتخذ من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الزمر: 18. شعارًا للاستماع لكل شيء، غافلًا عن نصيحة الأساطين، أن هذه الآية محكومة بآيات أخرى ومنها قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأنعام:68. وانحزت -حينها – لرأي أحد المفسرين في ترجيحه الإطلاق في الآية الأولى، وامتعضت من رأي ابن تيمية حين قيد الإطلاق في الآية السَّابقة بما جاء في الثانية. وابن تيمية صاحب تجرِبة، وصاحب معاناة مع المعارف المسمومة والمعلولة، كيف لا، وجوهر مشروعه العلمي مكافحة تلك المعارف المريضة التي تسربت إلى ساحتنا، ولذلك استخدم العلاج الوقائي، وكان يقول لتلميذه ابن القيم: (لا تجعل قلبك للإيرادات والشُّبهات مثل السفنجة، فيتشربها ، فلا ينضح إلا بها) مفتاح دار السعادة 1/140. وقديمًا قال سفيان الثوري: (من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم)، فعلَّقَ عليها الذَّهبي بقوله: (أكثر أئمة السَّلف على هذا التَّحذير، يرون أنَّ القلوب ضعيفة، والشُّبَه خطَّافة). سير أعلام النبلاء 7/261.
وكانت أول تجرِبة لي مع كتاب فلسفة ابن رشد، وأنا في ثاني ثانوي، استللته من دار الكتب في صنعاء، حيث كانت الدار تأخذ نصف وقتي من العصر وحتى إغلاقها مساء، فقرأت من فلسفة ابن رشد وريقات، فوجدت عقلي مشوشًا وهو يتحدث عن الوجود الإلهي، والرَّد على الدَّهريين وطريقة الفلاسفة في إثبات الوجود الإلهي، فشعرت بالدوار، وثارت شبهات ما كان ينبغي لمن في سني أن تعرض عليه، فهداني الله وأغلقت الكتاب، ثمَّ وجدت بعده كتاب (الله جلَّ جلاله) لسعيد حوى، فطهَّرَ ما علق بذهني من الشُّبهات.
وهداني الله لتعلُم الدرس، فقد عدت بعدها إلى كتب الثقات، فوجدتهم يحذرون من كتابات المستشرقين وتلامذتهم أمثال: أحمد أمين، إذ وقفت على كتبه في تلك الحقبة، ثمَّ أعرضتُ عنها، ولم أقرأها إلا قبل أشهر، بعد 25 سنة من الإعراض، فحمدتُ الله على أن هداني لنصيحة الثقات. فوجدت كتب الرجل محقونة بشبهات المستشرقين ومنظورهم المريض للتَّاريخ الإسلامي، ولكنها كانت قراءة من علو، حيث يستطيع الإنسان بعد أن يستوي على سوقه، أن يميز الغث من السَّمين. وتلك من نعم الله أن يبعدك عن المستنقعات الفكرية، كما عصم عبده الإمام النووي – قدَّسَ اللهُ سره- حين ابتدأ بدراسة علم الكلام والفلسفة، فأظلم قلبه، فأغلقها إلى الأبد، وفتح الله عليه في علوم الإسلام حتى صار شيخ مشايخ المسلمين في عصره.
وقد يقول قائل: فمن لمواجهة مثل هذه الانحرافات الفكرية؟ ولن نجد أذكى من حجَّة الإسلام الغزالي للرد على هذا التساؤل البريء، فقد قال: في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: (فوجبَ أن يكون في كل قطر من الأقطار وصقع من الأصقاع قائم بالحق، مشتغل بهذا العلم، يقاوم دعاة المبتدعة ويستميل المائلين عن الحق، ويصفي قلوب أهل السُّنة عن عوارض الشُّبهة)الاقتصاد:87. يقول هذا الكلام وهو يدبِّج لكتابه المُمهد لعلم الكلام، فلم يجرفه الحماس للحث على أهمية هذا العلم، بل كان ينطلق من رؤية واقعية، مفادها أن هذه الشبهات مرض، وعلاجها دواء، وحق الدواء أن يستخدم بمقدار معين، وقت الحاجة، فليس كالطعام الذي يحتاجه الجسم كل يوم. بل نراه ينتقد إقبال الشباب على علم الكلام، تطلُّبًا للشُّهرة، وإشباعًا لغرور النفس ومقارعة الأقران، وإهمال علوم ضرورية كالطب، حتى غلب على مهنة الطب النِّصارى.
وهكذا استفدت من الإعراض عن كتب المرضى من الكُتَّاب، والمسلوبين للفكر الغربي، فليس في العمر متسع للجلوس في المستنقعات الفكرية، وإنه لخليق بطالب العلم الجاد أن يهتم بكتب التَّأسيس المعرفي ويلبث معها زمنًا حتى تتغلغل في وجدانه، فيتقلب في رسالة الشَّافعي حتى تلفحه المنهجية العلمية الصارمة، ويتأسى بالمزني الذي قال إنه قرأ الرِّسالة 500 مرة، وفي كل مرة يخرج منها بفائدة جديدة. وأهم فائدة كان يتطلبها المزني، هي المغنطة المنهجية، فمغنطة الحديد تتم من خلال الاحتكاك الشَّديد بالمغناطيس حتى تكتسب الحديدة العجماء خاصية المغناطيس، وهكذا يفعل الاحتكاك فعله بالحديد والعقول معًا.
وفي الضفة الأخرى نجد أن كتاب برتراند راسل (لماذا لستُ مسيحيًّا؟)، قد رمى بالكثير من الشَّباب في حفرة الإلحاد، ومنهم المبشر المسيحي (دان باركر) الذي عمل في مجال التبشير وتدريس العقيدة المسيحية لأكثر من 19 عامًّا. وكتب حول المسيحية، ثمَّ انتقل إلى الإلحاد بسبب هذا الكتاب. وهو كتاب هز وجدان الدكتور عبد الله النفيسي وإن كاد ليهوي لولا أن تداركه الله بلطفه، فترك دراسة الطب في بريطانيا، وذهب يتعلم دينه من جديد. (أيَّام العمر الماضي: ص33).
ما أحوج شبابنا أن يقف طويلًا أمام نصيحة الإمام الجويني الذي قال: (لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا ثمَّ خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها، كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز). سير أعلام النبلاء 18/471.
وقد قلت لصديق صاعد، طُلعة إلى القراءة لكلِّ من هبَّ ودب من المعلولين والمرضى وأصحاب العوج الفكري: إذا كان الأطباء ينصحونك بالابتعاد عن العيش في المستنقعات، وانتقاء الطعام الذي يدخل جوفك، خوفًا عليك من التّلف، فإن عقلك وروحك أحوج ما تكون للبُعد عن المعرفة المسمومة والمعلولة، ولا تقل لي: إنَّ مناعتي كافية، فإن المناعة لها طاقة محدودة في مقاومة الفيروسات، ولكن الفيروسات إذا تكاثفت انهارت المناعة، وتضعضع الجسد الضعيف. فقال لي: متى تتركون الوصاية العلمية علينا؟! فقلت له: عندما يتوقف الأطباء عن ترك الوصاية الصحية علينا. فضحك وانصرف.