
كثيرًا ما نقرأ، وكثيرةٌ هي الكتب التي تمرُّ بنا، وقلّةٌ من هذه الكتب تجعلنا نقف عليها، فنكتب فيها شيئًا من الومضات العالقة فينا.
كُتُبٌ كانت مَفْتَتَحَ القراءةِ الجادّة، وكُتُبٌ مسّت أعمقَ نقطةٍ في قلوبنا، وكُتُبٌ تحمل فكرةً متقدةً رسمت لنا معالم الطريق الأولى. ولهذا الكتاب (بخيط من حبر) فكرةٌ ترسم للقارئ الكاتب أوّلَ معالمِ طريقه نحو الكتابة.
وقد لمستُ في كتب «بُرَيْه» أنّه يكتب بالقلم الأنيق؛ فتارةً يحمل فكرةً، وتارةً يحمل عبرةً، وكثيرًا ما يكتب عن «الحزن النبيل» كما يسميه.
وقد أسمى كتابه هذا “بخيطٍ من حبرٍ”، وقد أبدع بهذا الترابط العجيب بين مفردات الاسم وبين فصول كتابه.
فلهذا الكتاب ثلاثةُ فصولٍ رئيسة:
الأوّل: بعنوان (ادخلوا النصوص من أبوابها)، وهو «الخيط» الذي يوجّه القارئ إلى الكتابة، وقد أسميته «خيط النور». فحيرة الكاتب المبتدئ ينيرها ذاك النور الكامن في الفصل الأوّل من هذا الكتاب. وتذكّروا حين قلت إنّه «الخيط»، فقد حاولتُ ربط العنوان بالفصول.
وأمّا كلمة “من” فتعني ابتداءَ الغاية في إحدى معانيها، وكأنّه يشير إلى الفصل الثاني: (الحبر الشاحب أفضل من أقوى ذاكرة)، والذي ذكر فيه ما يعين الكاتبَ على ما يكتب، فكان بين روايةٍ وتاريخٍ وسردياتٍ، فكأنّه أشار إليه: «أنِ ابدأ بالقراءة، فخيطُ النور يمرُّ من هنا».
وأمّا كلمة “حبر” فهي الخلاصةُ وتمامُ الكلام، فتشير إلى الفصل الثالث (تعليق عابر على جداريات النص)، وفيه ذكر «بُريه» تعليقاته الرشيقة على النصوص، وجعلها أنموذجًا يحتذي به القارئ، فكأنّه أراد مخاطبته:
أنِ اتّبِعِ الخيطَ النوريَّ واعبرْ من هنا؛ فتُسكَبُ الكلماتُ حبرًا مشرقًا،
فتنسج من خيطك النوريّ بُردتك الأولى دافئةً رصينة.
وقد أخذتُ عنوانًا واحدًا فقط من الفصل الأوّل لأكتب عنه ومضةً يسيرة؛ فلعلّك ـ أيَّها القارئ ـ عند دويّ الصمت تجد صدى الصوت فتتبعه، فيزول عنك قلقُ البدايات، فيُولَد نصٌّ بديعٌ بعد مخاض القلق.
النصّ وعملية الخلق (ميلاد النص)
في هذا الفصل من الكتاب وقفتُ على بعض سطوره التي أدهشني حُسنها المنقوش بخيوطٍ مذهّبةٍ من الإبداع والإمتاع. وإنّي امرؤٌ شديدُ التأثّر بروائع البيان؛ يمسّني سِحره وتُغريني بلاغته، ولمثل هذا الكتاب فليطرب القارئ.
ذكر الكاتب تحت هذا العنوان:
“إنّ ميزان ميلاد النصّ يتفاوت من كاتبٍ لآخر؛ فالكاتب لا يصبح كاتبًا إذا لم يكن ممتلئًا بإحساسٍ كثيف”.
فإنّ حظّ الكاتب المتفقّه بالنفوس، العالم ببعض أسرارها، المولِغ في طبائعها، الناظرِ إلى أدقّ تفاصيلها ـ فحظَّه ـ صهرُ المشاعر وقولبتُها في حروفٍ متوهّجة؛ تلامس القلوب بل وتستوطنها، وتُدهِش العقول بل وتستميل فكرها. فقد طوّع قلمه لاستقراء ما في نفوسهم، كأنّه يكتب بلغة القلوب لا الألسن، وهو كذلك.
وممّا ذكره الزيات في كتابه “دفاع عن البلاغة” أنَّ للنفس أربعَ ملكات: الذهنَ الثاقب، والخيالَ الخِصْب، والعاطفةَ القويّة، وآخرَها الأذنَ الموسيقية.
فإن تمتع الكاتب بهذه الملكات، أنشأ نصًّا إبداعيًّا عظيمًا؛ له فكرةٌ متقدةٌ ألبسها الكاتبُ رداء البهاء والخيال، ثم أدفأها بوشاح العاطفة، وزيّنها بألفاظٍ حسانٍ.
لا يدنو منها دانٍ إلا ونال نصيبه من نعيمها، وذاق برد شرابها، وأنِس بدفء جذوتها، وتجسّد بين يديه مُكوّنٌ أدبيٌّ بديع، وتُحفةٌ فنيّة فريدة. فتلك هي روح الكتابة التي أشار إليها الكاتب في سطوره.
وقد ذكر «بُريه» مقطوعةً عذبةً عن الكتابة فقال:
“همهمةٌ جسديةٌ وروحيةٌ تظلّ على الدوام، عصيّةٌ على التحديد، رعشةٌ ذاتُ إيقاعٍ خاصٍّ تتصاعد من بين الأنقاض، تُلهِب جسد المعنى، وتمنحه الدفءَ والقشعريرة… ” إلى آخر المقطوعة.
ولهذه المقطوعة إشراقةٌ كإشراقة الحرف بكلّ معانيه، ولا يطرب لها إلا مَن سكب روحه عند كل حرفٍ يكتبه.
في داخل كثيرين منّا كُتّابٌ تراكمت عليهم سنوُ الجدّ وانشغالاتُ الحياة؛ فطمست معالم الكاتب النابض قلبُه بالحرف؛ فتقهقر، تاركًا نبض قلمه خلف سياج الانشغالات. فمنهم مَن ألهمهم الكبارُ العودةَ إلى دوحة الكتابة، وأثارت مؤلَّفاتهم هِممَ الكتّاب العائدين من وعثاء الحياة.
وربّما لم يكونوا كتّابًا بعدُ، ولكنّهم سيكونون كذلك؛ فإن أصغوا إلى دويّ الصمت بدا لهم مزيجٌ من أهاريج حرفٍ يطرب تارةً ويُشجي تارةً، فمن أحسن الإصغاء أحسن التعبير.
ثم أشار الكاتب إلى آلة البلاغة، فعَرّض في نصّه عن الطبع الموهوب، وختمه بالعلم المكتسب، فقال:
“إن التمكّن في هذه الصناعة ـ وأعني بها صناعة الكتابة الإبداعية ـ البضاعةِ النادرة، والطاقةِ الخلّاقة… يأتي في المقام الأوّل بالقراءة الواسعة، ثم بالقراءة الواسعة، وبعد ذلك بالقراءة الواسعة”.
وقد ذكر الزيات مثل ذلك، فقال: “فالكاتب إذا كان ناقص العلم أو قليل الاطلاع يُدرِكه الجفافُ والنضوب… فمعارف الكاتب منابع إنتاجه”.
فحقٌّ لشادي الأدب ـ بعد الامتلاء ـ أن ينقش من حرفه تحفةً فنيّةً تزيد الوجودَ طربًا وبريقًا… حينئذٍ يكون ميلادُ نصّه العظيم.
هذه ومضةٌ أحسبها قصيرةً جدًّا عن هذا السِفر العظيم، تاركًا لك ـ أيها القارئ ـ هِمّةَ قراءته مستمتعًا منتفعًا به، طارقًا شُرفة الأدب، بادئ الولوج فيه أو الإبحار.

“فمن أحسن الإصغاء أحسن التعبير” .
بُورك القلم
جزاك الله خيرًا .