المدونة

بين الموسَيين… مساحة تفاؤل

لقد جهد فرعون وجنده في قتل كل مولود إسرائيلي؛ من أجل أن لا يبقى منهم وليد يكون موسى.

فكم من الدموع التي أراقها الآباء والأمهات حينئذ على ذبح فلذات أكبادهم، وكم هي الآلام التي عصرت قلوبهم، وأحرقت قلوبهم، وكدرت صفاء حياتهم على فقد أولادهم!

وكم أظلمت عليهم الدنيا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وهم يتجرعون ذلك البلاء العظيم!

ثم ماذا؟

لقد بقي موسى دون ذبح، بل رُبيَّ في بيت الذبّاح الأكبر، وترعرع في نعمته، وأكل من طعامه وشرابه، واتسعت أمامه الحياة في قصره، ونال من رفه العيش ما نال، وغشيه من طيب النعيم ما غشيه في ملكه.

لتمر على بني إسرائيل  بعد ولادة موسى عقود من الزمن وهم باقون تحت قبة القهر الحديدية، وآفاق الذل والعذاب الفرعونية.

حتى تأتي اللحظة التاريخية المنتظرة وهم في أوج الشقاء فينتصف المظلوم من الظالم، والمذبوح من الذابح، وتنقلب الموازين، ويصبح الأعزل هو المنتصر، والمسلح هو المنهزم.

فيذهب الذباحون الطغاة وزعيمهم المتكبر إلى الغرق المهين، والعذاب السرمدي العظيم على يد ذلك المولود المنتظر الذي ربوه وحفظوه، وقتلوا قومه حتى لا يكون!

إنها آية عظيمة تقف الألباب عندها مشدوهة مما جرى لموسى من التربية والرعاية في كنف فرعون. ثم بعثه رسولاً من عند الله يدعو فرعون وملأه إلى الله، ولما لم يستجب فرعون الطاغية كانت نهايته الغرق في اليم مع أعمدة ملكه وجبروته، ومن ثَم نجا بنو إسرائيل من العذاب، وتحرروا من الذل والهوان.

وموسى لم يصل إلى تلك الغاية الحميدة المقدرة له ولقومه إلا بعد مُلئت طريق شعبه بالدماء والدموع، والجمر والألم، وكان بنو إسرائيل آنئذ يرقبون سطوع فجر الفرج من ذلك الليل البهيم، وشروق شمس الحرية بعد لهيب تلك الأغلال الطويلة العتية.

ومرت القرون والدهور وتغيرت معادلات الحياة، حتى جاء اليوم الذي تئط  فيه غزة وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه مَظْلمة يهودية إسرائيلية طالت غزة وسكانها.

فاليوم هناك لا صوت إلا للانفجارات والغارات، والعويل والاستغاثات، ولا سيلان إلا للدماء والدموع الجاريات، ولا حركة فيها إلا للموت الذي لا يقف، والألم الذي لا يكف.

كم قتيل وجريح، ومتألم ومنتحب، وخائف وسقيم، وثكلى ويتيم، وظامئ وجائع، وشريد وقعيد، وغير ذلك من الحروف الملهبة  مما سطر على لوحة الوجع الغزاوية.

فماذا بعد؟

إن هذه الضريبة المؤلمة، والثمن الكثير، والفاتورة الطويلة، والسجل المفتوح الممتد من الأوجاع لن يذهب بغير مثمن سام كريم، إنما هو حَمْل له شأن ينتظر ساعة الميلاد التي حددها المبتلي الحكيم سبحانه، ليطل ذلك المنتظر من ستوره المرخاة على الحياة ليكون مولود  الفرج بعد الشدة، والنصر على الظلم ويشرق على الدنيا موسى الأمة المحمدية ليخلص الحياة من بطش فراعنة العصر الإسرائيلية، ويكون سببًا لذهابهم إلى الغرق في أودية سيناء التيه، ويم النكال؛ ليذوقوا جزاء إجرامهم، ويتجرعوا عقوبة إفسادهم، وإهلاكهم الحرث والنسل.

فليقتلوا من شاءوا، وليدمروا ما أرادوا؛ فزعًا من نشوء قوة تستأصل شأفتهم، وخروج جيل محمدي يجرفهم إلى حيث يستحقون، فليفعلوا ذلك فموسى المحمدي المنقذ قادم لا محالة، بعد سنوات أو عقود، الاختيار في وقته للمقدر العليم جل وعلا.

فكما جاء موسى لإنقاذ بني إسرائيل السابقين من جبروت فرعون؛ فسيأتي من ينقذ فلسطين والعالم من جبروت الإسرائيليين المعاصرين.

فهذه قصة الإسرائيليين المظلومين في الماضي، وقصة الإسرائيليين الظالمين في الحاضر، ولكل نبأ مستقر، تبين لنا منه ما مضى، وننتظر ما حضر.

فإن يك صدر هذا اليوم ولّى

فإن غداً لناظره قريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى