المدونة

جنينُ الرُّكام .. أنَّاتُ الحنينِ وأصداءُ الذِّكرى

حينما يهجع ذو غُربة عن وطنه ليلًا مُشتاقًا إليه بقلب منكسر، تتواتر الذكرى على وجدانه تترى، بنفحاتِ رائحةِ القهوة المُفعَمَة عصرًا، وتجوالِهِ بين طُرقات مدينته، وولهِهِ بالعبث الطفوليِّ مع إخوانه الأُول، واستهامتِهِ بشذى النعناع في قدح الشاي، وذوابِ الساعات في أحاديث المساء، مع ذوبان السكر في القدح، واستغراقِهِ في حكايا العابرين ذات العجب التي قصَّها على مَسمَعه أولو أمر فكره وحسِّه، ودهشةِ أول نسمات بحرية همستْ في أذنه أن الدنيا أرحب مما ظنَّ؛ حينما تتواتر تلك النفحات المباركة متلألِئَةً في الذكرى سيلقى دفَّتَيْ هذا الكتاب مُعانقتين كفَّيه، مُدثِّرتَيْن إيَّاه بدثار الوطن، مُعزيتَين وجدانه بحُلم اللُّقيا، مُخبرتَيْه أن الوطن لا يضيره الظَّعنُ، فأنَّى يضير ترحالٌ ما أنت حاملُهُ مُستبطِنٌ به شغاف قلبك، مُستظِهرٌ عليه إهابًا نُسج بديباج الأوطان.

ويَصبو ذو الوطنِ المعلولِ بعلَّةِ الاغترابِ؛ الذي زاوَلَهُ الوطنُ رغم أنَّه على أرضِهِ مُرتسِم، وبنسيمِهِ مُنتسِم. فما كلُّ حالٍّ في مكانٍ، حالًّا فيه ما يرضى من المكان! بل قد يحلُّ المرءُ في المكان وجودًا، ويحلُّ المكانُ فيه غُربةً .. وساعةَ يصبو هذا المغتربُ إلى وطنه وقتَ كان في نظره خريدةً مُشرقةً شريفة، وقتَ انفعالِهِ مع أبطالِهِ، وتفكُّرِهِ مع رُمُوزه، وانبعاثِهِ بأمل قوَّتِهِ، وسخطِهِ على مآلِهِ؛ ساعةَ يصبو إلى هذا يرى في هذا الكتاب رَشَدًا؛ فيقول لأهله: إني آنستُ عشقًا، لعلِّيْ آتيكم منه بقبس أو أجد في عشقه عزاءً.

بذر صديقنا الأديب “خالد بُرَيْه” صفحاتِ هذا الكتاب بذرةَ دفءٍ رُوحيٍّ، أذكَتْه بُرودةُ الغُربة؛ ثم رواه برواء الحنين إلى الأرض التي عليها وُلد؛ ودثَّره بما غزله من ذاكرة السنين، لينشر جنَّة رماله التي كان جنينها ريَّانةً عاطرةً، ولنفترش جوارَهُ في ساعة عذبة من ساعات أيامنا الناضبة.

❃❃❃

كتاب “رملة كنتُ جنين رُكامها” عروسٌ طيبة النفس، كعرائس الحلوى التي كُنَّا ننالُ نصيبًا منها في الاحتفالات والموالد أزمانًا مضتْ. عروسٌ تطيبُ رؤياها وطُعمتُها، ألبسَهَا صاحبُها ثلاثةَ أثوابٍ، سمَّاها فصولًا.

الثوبُ الأوَّل سُندسٌ رقيق أهيف، قدَّهُ من جماع الأدب والتوثيق، في مزج ما أرقَّه وأعذبَه! تشمُّ فيه رائحة الأماكن، وتكتنفك أصواتُ الماضي العذب. أما الثوب الثاني فإستبرقٌ متينٌ حاكَهُ بالمعلوم من توثيق مدينته اليمانيَّة “الحُديدة”، وإقليمها الكبير الشهير “تِهامة”. يرفد منه ساكنها الذي غابت عنه ملامحها؛ كيف كانت، وكيف حَيَتْ في زمنٍ قريبٍ بعيدٍ، -وكل القريب بعيد في عالم الأغيار الذي نحياه!-؛ ويرفد منه غير ساكنها من العرب طرفًا من حياة “تهامة” التي حيتْ في الشعر العربي طويلًا.

أما الثوب الثالث فمِسكٌ فوَّاح، يُعطِّر ثوبَيْه الأوَّلَين، برُوح ذاتيَّة خالصة، وبأسلوب أدبيٍّ مُوشى بوشيٍ جاحظيٍّ في رسالته “الحنين إلى الأوطان”، ومنفلوطيٍّ في “عبراته”، ورافعيٍّ رآه صاحبُنا واسطة عقد البيان العربي، فحذا خُطاه في تضفير المعاني بمسالك البيان. ليبقي الأثرُ للكتابة الفنيَّة الراقية، وليمد سلسال العذوبة المهذب، الذي يُرهف حسَّ القارئ، ويُعلي من ذائقة تلقِّيه.

❃❃❃

ومتى حاولتُ توفية حقَّ الأدب عليَّ في الحديث عن الكتاب؛ فما زال حقُّ العلم مطلوبًا. حتى إذا ذهبتُ أوفِّيه حقَّه؛ قلتُ إن التجربة التي تنتظر القارئ هي “سيرة مكانية” جمعتْ بين توثيقِ “بُريه” لمظاهر مدينته اليمنيَّة “الحُديدة”، وبثِّ مشاعره تُجاهها في نصٍّ أدبي. أيْ أننا أمام “كتاب بَيْنَيّ”؛ ينهل من منهلَيْ “التأريخ والتوثيق” و”الإبداع الذاتي” عن تجربة شُعوريَّة، اختمَرَ فيها إحساسان: العشق لتراب الحُديدة، والحسرة على مآلها؛ مع خمائل من آلام غريبٍ مُشتاقٍ.

ولتحقيق غرض الكتاب البَيْنيّ، زاوجَ “بُرَيْه” بين منهجَيْنِ: الوصفيّ، والتأمُّليّ -كما سبق في وصف أثواب الكتاب-. وطبع كليهما بطابع ذاته؛ فالتأمُّل تأملٌ ذاتيٌّ شعوريٌّ مُنفعِل مع مُفردات المُتأمَّل فيه، والوصفُ انصبَّ على مظاهر الثقافة اليمنيَّة انصبابًا. ولعلَّ هذا المسلك ذو صلةٍ وثيقةٍ بسِمَةِ الكاتب، واهتمامه بالثقافة ومعاهد العلم ومراصد المعرفة. لكنه -على تركيزه- استطاع أن يقدم رؤيةً شاملةً لمناحي الثقافة بمعناها العام الأشمل؛ فعرَّفنا على الأسواق، والموالد، والاحتفالات، والمقاهي، ومناحي قضاء الأوقات، وغيرها الكثير من مظاهر الثقافة اليمنيَّة.

ومن أهم ما سيلقاه القارئ في الكتاب ملامحُ العذوبة والرقة، والرُّوحُ الشاعريَّة التي تتوق إلى إلانةِ كلِّ المُعبَّر عنه براحِ الشِّعر ومُدامِه. كذا سيلحظ سمة الاسترسال في الكتاب، الذي يكاد يخلو من “نقطة التوقف”؛ مُبدلًا بها الفاصلة التي تدلُّ على استمرار الحكي، في استرسال عذب لطيف.

ومن أهم ما سيؤكده هذا الكتاب في ضمير القارئ؛ هو وحدة الثقافة العربية. فما يصفه الكاتب عن مظاهر الثقافة اليمنية، يشمل -في أُطُره العامة الشاملة- العرب جميعًا. أنا نفسي شهدتُ غالب ما تحدث عنه -من أُطُر عامة- في قاهرة المُعزِّ، وسمعتُها وعرفتُها من أصدقائي، في كافة أرجاء الوطن العربي الكبير.

❃❃❃

كتابُ “رملة كنتُ جنينَ رُكامِها” عشقٌ مُضفَّرٌ، وفوحُ حنينٍ، وأصداءٌ مِن الذِّكرى والذَّاكرة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى