كتابُ “حائطُ المبكى: قصَّةُ الحرفِ الغريبِ” للأديبِ خالد بريه ليسَ مجرَّدَ نصوصٍ أدبيَّةٍ تقفُ عندَ حدودِ الحرفِ، بل هو صوتٌ ينفُذُ إلى عُمقِ الرُّوحِ، وشهادةٌ صادقةٌ على معاناةِ الذَّاتِ البشريَّةِ التي ترنُو إلى الخلاصِ من أوجاعِها المتجذِّرةِ.
يكتُبُ بريهُ بمِدادِ الألمِ، فيحوِّلُ الكلماتِ إلى نوافذَ تُطلُّ على آفاقٍ إنسانيَّةٍ موغلةٍ في التَّعقيدِ، تجمعُ بينَ الحُلمِ والخَيْبةِ، وبينَ الحنينِ والاغترابِ.
الكتابُ أشبهُ بمُناجاةٍ خفيَّةٍ، حوارٍ داخليٍّ يجري بينَ الكاتبِ وظلِّهِ، حيثُ تتجلَّى فيه معالِمُ جراحٍ لم تندمِلْ، وأحلامٍ تنازعتْها رياحُ القهرِ.
إنَّهُ ليسَ مجرَّدَ كتابٍ يُقرَأُ، بل مرآةٌ يُواجِهُ فيها القارئُ ذاتَهُ، فيُجبَرُ على النظرِ عميقًا في دَواخِلِ روحِهِ.
“حائطُ المبكى” يحملُ بينَ صفحاتِهِ لغةً مفعمةً بالرَّمزيَّةِ والتشابيهِ الدَّقيقةِ، تتسلَّلُ إلى القارئِ كالنسيمِ حينًا وكالعاصفةِ حينًا آخرَ.
يتلاعَبُ خالد بريه بالكلماتِ كما لو كانتْ أوتارًا، يعزفُ عليها ألحانَ وجعِهِ الشخصيِّ، لكنَّهُ في الوقتِ ذاته يفتحُ بابًا واسعًا لكلِّ قارئٍ ليجدَ صوتَهُ الخاصَّ بينَ هذهِ الحروفِ.
الكاتبُ يُتقِنُ فنَّ بناء عالمٍ أدبيٍّ متكاملٍ، حيثُ تتحوَّلُ الجدرانُ الصَّامتة إلى شُهودٍ على انكساراتِ الزَّمنِ، وحيثُ يُصبحُ الحرفُ الغريبُ صرخةً مكتومةً لِمن عاشَ مُغتربًا في وطنِهِ وبينَ أهلِهِ.
كلُّ نصٍّ من نصوصِ الكتابِ يحملُ بينَ ثناياهُ دعوةً للتأمُّلِ والتفكُّرِ، كأنَّهُ يُنادي القارئَ: “لا تُغادِرْ قبلَ أنْ تترُكَ أثرًا هنا”.
خالد بريه في هذا الكتابِ لا يكتفي بأن يكونَ راوِيًا، بل يُصبحُ شاهِدَ عصرِهِ، وحكيمَ الجيلِ الذي يحملُ جراحَهُ على هيئةِ كلماتٍ، إنَّهُ يخترقُ الحُجُبَ بينَ الحرفِ والمشاعِرِ، بينَ الكاتبِ والقارئِ، فيصنَعُ نصوصًا ليستْ للقراءةِ وحسبْ، بل للحياةِ.
“حائطُ المبكى” ليسَ جدارًا للبُكاءِ بقدْرِ ما هو دعوةٌ للتَّصالُحِ معَ الألمِ، للتَّأمُّلِ في خفايا النَّفسِ، وللوقوفِ بشجاعةٍ أمامَ مرايا الحروفِ، إنَّهُ كتابٌ يُجسِّدُ معاناةَ مجتمعٍ بأكملِهِ من خلالِ قلمٍ واحدٍ، لكنَّهُ قلمٌ يعرِفُ كيفَ يُلامِسُ جراحَ الجميعِ دونَ أنْ يَخدِشَ إنسانيَّتَهمْ.
“حائطُ المبكى” هو أكثرُ من مجرَّدِ كتابٍ؛ إنَّهُ رحلةٌ عبرَ أزمنةٍ وأمكنةٍ تسكنُها الأحزانُ والأوجاعُ، كلُّ كلمةٍ فيه تحملُ بينَ طيَّاتها دعوةً للغوصِ في أعماقِ النَّفسِ، لفهمِ معاني الحياةِ ومرارتِها، بُرَيْه لا يكتفي بعرضِ الواقعِ كما هو، بل يُخضعُهُ لفحصٍ عميقٍ يختلطُ فيه الوجعُ بالجمالِ، ويصيرُ الألمُ مرآةً للحقيقةِ.
في هذا العملِ، يسعى الكاتبُ إلى إظهارِ الجوانبِ المخفيةِ في الإنسانِ، تلكَ التي لا يستطيعُ أن يُعبِّرَ عنها سوى من يملكُ الأدواتِ الأدبيَّةَ التي تؤهِّلُهُ لاستخراجِ ما هو مخبوءٌ، الشخصيَّاتُ، التي ينسُجُها ببراعةٍ، هي نتاجٌ لواقعٍ مُحبطٍ، لكنها في الوقتِ نفسهِ تحملُ في طيَّاتها بذورَ الأملِ والتمردِ على الظروفِ القاسيةِ.
“حائطُ المبكى” يُحاكِي الشروطَ التي يعيشُها الإنسانُ في عالمٍ ضاقتْ فيه الآفاقُ، لكنه في الوقتِ ذاته يعكسُ صراعًا داخليًّا يحاولُ فيه الشَّخصُ أن ينفصلَ عن واقعهِ، ليتأمَّلَ في المعاني الكبرى للحياةِ، تأتي الرَّمزيَّةُ في الكتابِ لتُلقيَ الضوءَ على أبعادٍ نفسيَّةٍ وروحيَّةٍ كانت تُخفيها الطبقاتُ الظاهرةُ من المجتمعِ.
لغةُ الكتابِ ليست مجرَّدَ وسيلةٍ لنقلِ المعاني، بل هي أداةٌ تُستخدمُ لتفكيكِ العوائقِ النفسيَّةِ، وإعادةِ بناءِ الواقعِ من خلالِ الأسطورةِ والتاريخِ، لذلك، لا يعدُّ “حائطُ المبكى” مجرَّدَ روايةٍ أو مجموعةِ نصوصٍ، بل هو علامةٌ أدبيَّةٌ تثري الوعيَ وتجعلنا نعيدَ التفكيرَ في مفهومِ الألمِ والخلاصِ.
كلُّ صفحةٍ من هذا الكتابِ تأخذُ القارئَ في رحلةٍ عبرَ أعماقِ الذاتِ، حيثُ لا يقفُ الألمُ عند حدودِ الجرحِ، بل يتوغلُ في أعماقِ الروحِ ليكشفَ عن طُرقٍ جديدةٍ لفهمِ الحياةِ والتعايشِ معها، مهما كانت قاسيةً، “حائطُ المبكى” هو دعوةٌ مفتوحةٌ لكلِّ من يبحثُ عن المعنى في هذا العالمِ المربكِ، وكلّ من يعاني في صمتٍ ويرغبُ في أن يفتحَ قلبهُ ليشعرَ بشيءٍ من السكينةِ في خضمِّ التحدياتِ.