في ثقافتنا المصرية، العديد من الملفات التي بمجرد أن تتحدث عنها أو تشير إليها ستجد تلقائيًا من يتهمك بالثورة على العادات والأعراف، بل والثورة على الدين والمسلَّمات! ويُعد ملف “حقوق المرأة” أخطر هذه الملفات، والسبب الحقيقي وراء ذلك هو أن المدافعين والمهتمين بهذا الملف دومًا ما يستلهمون النُّموذج الغربي ويدعون إلى تقليده واقتباسه بلا أي تغيير أو تعديل. لذلك يحاول بعض المثقفين الربط بين ما يأخذونه من الغرب وبين بعض الآراء الفقهية أو آراء بعض المفكرين الإسلاميين لكي يجدوا لأفكارهم التغريبية تربة خصبة تنمو فيها، ولكي ينفوا عن أنفسهم تهمة العمالة للغرب وغيرها من التهم. ولكن للأسف، جاءت هذه المحاولة بنتائج زائفة ومضللة بسبب أن من يفعلون ذلك يضطرون إلى التحريف والتزييف وانتزاع النصوص من سياقها لكي تخدم توجهاتهم وأيديولوجياتهم.
وترجع خطورة هذه العملية في أنها تُسهّل الترويج للأفكار العلمانية عن طريق إلباسها دثارًا إسلاميًّا يضمن لها الانتشار بسهولة ويسر. ويُعد الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، أهم من استخدموا هذا الأسلوب المضلل؛ حيث إن د. جابر حاول بكل جهد مواجهة الحجاب ودعا إلى تركه ونبذه في أكثر من لقاء مصور وفي كتاب كامل. لكنه لكي يكسب لنفسه أرضًا صُلبة يقف عليها، ادعى أنَّ آراء المفكر “رفاعة الطهطاوي” تدعم ما دعا إليه. لذلك توجَّب علينا البحث والمقارنة بين كتابات رفاعة الطهطاوي وبين ما نسبه إليه د. جابر من أفكار تعد أبعد ما تكون عن أفكار الطهطاوي وعصره ككل.
موقف رفاعة الطهطاوي من الحجاب
يدعي جابر عصفور أنَّ الشيخ رفاعة الطهطاوي كان يقول بأنَّ الحجاب ليس فرضًا، ونقل بعض ما قاله الطهطاوي عن المرأة في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، وهو كتاب وضعه ليدوِّن فيه ما رآه في فرنسا خلال البعثة العلمية التي كان عضوًا فيها. واتبع في كتاباته أسلوبًا أشبه بأسلوب كتب أدب الرحلات، يدوّن فيه الكاتب كل ما يراه، ولا يُعد هذا إقرارًا منه لما يحدث في ذلك البلد، ولا يلزمه أن يُبين الحكم الشرعي لكل ما ينقل صورته مما هو موجود في واقع هذه البلد أو تلك. فهذا ليس المقصود بهذا النوع من الكتب، و”ناقل الكفر ليس بكافر”، ولا يُنسب لساكتٍ قول، كما يقول الإمام الشَّافعي، وخاصة أنه أوضح وجهة نظره في كتب أخرى.
لقد جاء كثير من المستشرقين إلى مصر؛ كإدوارد لين، وستانلي بول، وغيرهما، وكتبوا الكتب الرائعة التي تصف مصر ودين أهلها وطريقة الوضوء والصلاة وغيرها من الأمور الفقهية، واستحسنوا بعض عادات أهلها. فلم يُعدّ ذلك عند قومهم دخولًا منهم في الإسلام، أو حتى مجرد استحسان للدِّين الإسلامي. ولقد أفصح رفاعة عن دافع كتابته لهذا الكتاب في مقدمته فقال:
“أشار عليّ بعض الأقارب والمحبين، لا سيما شيخنا العطَّار، فإنه مولعٌ بسماع عجائب الأخبار والاطلاع على غرائب الآثار، أن أنبه على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما أراه وما أصادفه من الأمور الغريبة، والأشياء العجيبة، وأن أقيّده ليكون نافعًا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع التي يقال فيها: إنها عرائس الأقطار، وليبقى دليلًا يهتدي به إلى السفر إليها طلاب الأسفار، خصوصا وأنه من أول الزمن إلى الآن لم يظهر باللغة العربية على حسب ظني شيء في تاريخ مدينة باريس كرسي مملكة الفرنسيس، ولا في تعريف أحوالها وأحوال أهله”(1).
وقد حدد رفاعة ما يبتغيه من هذا الكتاب أيضًا، وهو حث المسلمين على تعلم العلوم العقلية؛ لأن فرنسا كانت متميزة فيها بلا شك وباتفاق الجميع في ذلك الوقت. وكان يتحسر لأن بلاد المسلمين، وليس مصر فقط، ليست فيها تلك العلوم، فقال: “وأنطقتها بحث ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرهانية والفنون والصنائع، فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع، والحق أحق أن يُتبع، ولعمر الله إنني مدة إقامتي بهذه البلاد في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منها”(2). وقد أكَّدَ هذا مرة أخرى في خاتمة مقدمته فقال: “وأسأل الله أن يجعل هذا الكتاب مقبولًا لدى الخاص والعام، وأن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم، إنه سميع قاصده لا يخيب”(3).
فهو في تأليفه لهذا الكتاب ينطلق من منطلق إسلامي، وهو حثّ المسلمين في جميع بلاد الإسلام على الأخذ بالعلوم التي تميّزت فيها فرنسا، ومحاولة إيقاظهم من غفلتهم ليتعلّموا تلك العلوم المهمّة؛ لأنّه يتحسّر على عدم وجودها لدى المسلمين.
وهو بهذا يسعى إلى أن تبلغ الأمّة الإسلامية مبلغ الكمال؛ لأنّها متميّزة بوجود علوم الشريعة الإسلامية، ولكنّها تفتقد العلوم العقلية الحديثة. قال رفاعة:
“البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية، والطبيعية، وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها، ولبعضهم نوع مشاركة في بعض العلوم العربية، وتوصّلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها، كما سنذكره. غير أنّهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلكوا سبيل النجاة، ولم يُرشدوا إلى الدين الحق ومنهج الصدق.
كما أنّ البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية والعمل بها، وفي العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية بجملتها؛ فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه”(4).
وينعى الشيخ رفاعة بغَيرة المسلم الصادق زمانًا كان المسلمون أكمل سائر البلاد؛ فيقول:
“كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد تمدّنًا ورفاهية وتربية زاهرة زاهية، وسبب ذلك أنّ الخلفاء كانوا يعينون العلماء وأرباب الفنون وغيرهم، على أنّ منهم من كان يشتغل بها بنفسه… وقد تشتّت عزّ الخلفاء وانهدم ملكهم. فانظر إلى الأندلس، فإنها بأيدي النصارى الإسبانيول منذ نحو ثلاثمائة وخمسين سنة، وقد قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم، وتدبيرهم، بل وعدلهم ومعرفتهم في الحروب، وتنوّعهم واختراعهم فيها، ولولا أنّ الإسلام منصور بقدرة الله… لكان كلا شيء بالنسبة لقوّتهم وسوادِهم وثروتهم وبراعتهم وغير ذلك”(5). فبوصفه مسلمًا ينتمي إلى مصر والإمبراطورية العثمانية، شعر بالثقة أن دينه وثقافته هما الأسمى. نظر إلى فرنسا باعتبارها مكان كفر لم يستقر فيه مسلم واحد، ويتبع أهله المسيحية اسمًا فقط (6). وقد ذكر لنا الشيخ رفاعة موقف الفرنسيين من المرأة والاختلاط وغير ذلك، فقال:
“وحيث إنّ كثيرًا ما يقع السؤال من جميع الناس على حالة النساء عند الإفرنج كشفنا عن حالهن الغطاء. وملخّص ذلك أيضًا:
إنّ وقوع اللخبطة بالنسبة لعفّة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل التربية الجيدة والخسيسة، والتعود على محبّة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين. وقد جُرّب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة الوسطى من الناس دون نساء الأعيان والرعاع؛ فنساء هاتين المرتبتين يقع عندهن الشبهة كثيرًا، ويتّهمن في الغالب. فكثيرًا ما كانت تتّهم الفرنساوية نساء العائلة الملكية المسماة «البربون»، على أنّ مما يقوّي كلامهم ما وقع لزوجة ابن ملك فرنسا المعزول، التي هي أم «الدوك دوبردو» الذي خلع عليه جدّه المملكة بعد عزله، ولم يقبله الفرنساوية، وقالوا إنّ هذا الولد ابن زنا، فإنّ أمّه ولدت ولدًا آخر من الزنا، وادّعت أنّها تزوجت سرًّا، فانكسر بذلك ناموسها، وبعد أن كانت تطلب مملكة فرنسا لابنها الأول، وكانت آخذة في أسباب توليته، وكان يُخشى منها وقوع شيء في المملكة، سقطت من الأعين. وبعد أن وقعت في يد الفرنساوية وكان يُظنّ هلاكها، تركوا سبيلها قائلين: إنّها صارت مهملة ورجعت إلى أهلها بولدها الأخير”(7).
قلت: رفاعة الطهطاوي نقل لنا موقف الفرنسيين من النساء والاختلاط وغير ذلك. وكتابه أصلاً كان مخصّصًا لينقل لنا ما رآه في فرنسا فقط، وقد وضّح ذلك بقوله: “وحيث إنّ كثيرًا ما يقع السؤال من جميع الناس على حالة النساء عند الإفرنج كشفنا عن حالهن الغطاء.” كما أنّ الطهطاوي قد وضّح في بداية كتابه أنّه لا يتّفق مع الفرنسيين في أيّ شيء يخالف الشريعة الإسلامية، حيث قال:
“وقد أشهدت الله -سبحانه وتعالى- على ألا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق، وأن أفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها، على حسب ما يقتضيه الحال، ومن المعلوم أنّني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصّ الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية”(8).
فكيف يأتي بعد ذلك شخص مثل د. جابر عصفور ويدّعي أنّ الشيخ رفاعة الطهطاوي يخالف الشريعة ويقول بأن الحجاب ليس فرضًا؟
هل كان الطهطاوي معتزليًا يؤمن بالتحسين والتقبيح العقليين؟
ادّعى الدكتور جابر عصفور أنَّ الشيخ رفاعة الطهطاوي معتزلي يؤمن بالتحسين والتقبيح العقليين، ولكنه لم يذكر لنا في أي كتابٍ من كتب الطهطاوي ورد هذا الكلام؟
الحقيقة أن الطهطاوي نقل لنا أن الفرنسيين هم من يؤمنون بالتحسين والتقبيح العقليين، فقال:
“وقد أسلفنا أن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً، وأن الأديان جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وترقّي الناس وتقدّمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان”(9).
ضرورة انضباط العقل بالوحي عند رفاعة
يقول رفاعة عن التحسين والتقبيح بمجرد العقل بعيدًا عن الدين:
“ليس لنا أن نعتمد على ما يُحسّنه العقل أو يُقبحه، إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه”(10).
تأكيد الطهطاوي على أهمية الحجاب واتباع الشريعة الإسلامية
إنَّ الدكتور جابر يحاول أن يخلط بين أفكار رفاعة الطهطاوي واجتهاداته وبين ما ذكره الطهطاوي من مشاهداته في فرنسا. وقد أسلفنا أن الطهطاوي ذكر في مقدمة كتاب تخليص الإبريز أنه لا يتفق مع الفرنسيين في شيء يخالف الشريعة الإسلامية.
لكن الدكتور جابر يحاول أن يخلط الأمور على الناس، فيقدم لهم ما رآه الطهطاوي في باريس من أفكار وسلوكيات الفرنسيين على أنها أفكار الطهطاوي وما يؤمن به، والحقيقة عكس ذلك تمامًا.
رفاعة الطهطاوي، كمسلم أزهري، يؤمن بوجوب اتباع أحكام الشريعة الإسلامية. يقول:
“القرآن الشريف أساس الدين، الذي هو أساس المملكة؛ فلا قوام لها إلا به، ولا تثبت أركانها إلا عليه. وهو إقامة منار الإسلام، وإظهار شعائر الحق، واتباع أحكام الشرع، والعمل بالفرائض والسنن ومندوبات الشريعة، وإقامة الحدود، وامتثال أمر الشارع، والانتهاء عن نواهيه، وإيصال الحقوق الواجبة إلى أربابها، والعمل بما يرضي الله سرًا وعلانية؛ فإنه لا دوام للملك ولا بقاء للسلطنة بدون هذه الأشياء”(11).
أحكام الشريعة وتنظيم المعاملات
ويقول الطهطاوي إن أحكام الشريعة الإسلامية فيها ما ينظم جميع المعاملات، وإن أوروبا اقتبست منها:
“ومن أمعن النظر في كتب الفقه الإسلامية ظهر له أنها لا تخلو من تنظيم الوسائل النافعة من المنافع العمومية؛ حيث بوّبوا للمعاملات الشرعية أبوابًا مستوعبة للأحكام التجارية؛ كالشركة، والمضاربة، والقرض، والمخابرة، والعارية، والصلح وغير ذلك. ولا شك أن قوانين المعاملات الأوربية استُنبطت منها؛ كالسفتجة (وثيقة تجارية)، عليها مبنى معاملات أوروبا… التي تُرتب الآن في المدن الإسلامية مجالس تجارية مختلطة لفصل الدعاوى والمرافعات بين الأهالي والأجانب، بقوانين في الغالب أن المعاملات الفقهية لو انتظمت وجُرى عليها العمل لما أخلت بالحقوق، بتوفيقها على الوقت والحال، مما هو سهل العمل على من وفقه الله لذلك من ولاة الأمور المستيقظين”(12).
ضرورة تقنين الشريعة
ويضيف في هذا السياق:
“فتنظيمُ كتاب للأحكام الشرعية بمناسبة تفرع النوازل في هذه الأيام بأكمل نظام مما تنتظم به الأحكام القضائية في أوطاننا، ويكون عمدة للقضاة والحكام”(13).
حقوق المرأة في ضوء الشريعة
وينظر الطهطاوي إلى حقوق المرأة في ضوء الشريعة الإسلامية، فيقول:
“من حقوق الزوجة حفظ مال الزوج، فهي له راعية، وطاعته فيما أمر به سرًا وعلانية. وقد ورد عن الرسول ﷺ: «أعظم النساء بركة أقلهن مؤنة»، و«خيركم خيركم لأهله»”(14). كما يقول: “ويحرم سفر المرأة بلا زوج لها أو محرم أو نسوة ثقات، ويحرم تشبّههن بالرجال في الملبس والهيئة، كما يحرم تشبّه الرجال بهن في ذلك. ويُكره لهن ترك الحلي تشبهًا بالرجال. ومن المعلوم أن التزين المطلوب من النساء إنما هو لأزواجهن أو لهن في بيوتهن في أنفسهن، لا يتبرجن به للرجال الأجانب كعادة الأعاجم المبنية على اختلاط الرجال بالنساء، فإن هذا لا يخلو من استحسان يترتب عليه الافتتان”(15).
ويضيف:
“ويجب على المرأة الأجنبية الاحتجاب من الأجانب، ويحرم على الرجل النظر إلى شيء من المرأة الأجنبية ولو زوجة لأخيه أو أختًا لزوجته، ولو في حالة أمن الفتنة، ويحرم أن يخلو رجل بأجنبية”.
إذن: كما رأينا، فإن الطهطاوي لم ينكر فرضية الحجاب، وما قاله الدكتور جابر عصفور عنه هو مجرد كذب وافتراء.
يراجع:
- كتاب دفاع عن المرأة.
- لقاء الدكتور جابر عصفور على قناة الحياة (https://youtu.be/KLHhila0TWc?si=foPUmoqq0c0EwOOe)
- لقاء الدكتور جابر عصفور على قناة القاهرة والناس (https://youtu.be/RjXHij4BGUg?si=TGA3TMEQ0CXdGm9E)
الهوامش:
- تخليص الإبريز في تلخيص باريز، مؤسسة هنداوي،1720صفحه10.
- السابق صفحه 11.
- السابق13.
- السابق15.
- السابق16.
- العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، يوجيه روجان، (ص۱۱۲).
- تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص299.
- تخليص الابريز في تلخيص باريز، ص11.
- تخليص الابريز في تلخيص باريز، ص89.
- المرشد الأمين131.
- المرشد الأمين للبنات والبنين، رفاعة الطهطاوي، ص231.
- مناهج الألباب، ص 387.
- السابق، 392.
- المرشد الأمين للبنات والبنين، القاهرة، دار الكتاب المصري، 1433/2012، ص 597.
- السابق، 606.