تشتاق وتتلهف قلوب المؤمنين لاستقبال شهر رمضان، شهر القرآن والطاعات، موسم الخير والتقوى والرحمات، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” سورة البقرة الآية 183 .
رمضان الهبة الإلهية، والمنحة الربانية لعباد الله المؤمنين الطائعين، المشتاقة نفوسهم، التواقة أرواحهم لموسم الإيمان والنور.
كيف لا؛ وهو شهر يهطل فيه مزن الإيمان على القلوب صيامًا وقرآنًا وذكرًا فتهتزُّ وتحيا، ويفيض النور على الأرواح بنفحاته طاعات وخيرات، فتشرق وتضيئ في الناس خيرًا وإحسانًا وبرًا.
يأتي رمضان، فيعزز في نفوس الصائمين التقوى، أساس التفضيل والتكريم بين بني البشر، بحسب ميزان التفضيل الإلهي، فالتقي هو الأقرب لربه لصدق توجه قلبه، ولتجرد نفسه لمولاه، قال سبحانه وتعالى: “إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” سورة الحجرات، الآية 13 .
بالتقوى تسمو الأرواح، وترقى في مدارج الكمال الإنساني الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين الصائمين، بما ليس فيه كبت لطاقة الناس، وبما لا يحرمهم من الاستمتاع بثمرات جهدهم وطيبات الحياة التي يحققونها، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون”َ [المائدة:87، 88].
هذا هو دين الإسلام بمبادئه وقيم وأخلاقه، التي تؤكد وتراعي تناسق المنهج وتوازنه بين احتياجات الروح والجسد، بما يسمو بهما معًا، نحو الكمال الإنساني، مترفعًا عن جواذب الأرض وأوحال الشهوات، إنها حقيقة الإسلام الساطعة التي أكد عليها سيد قطب في معرض حديثه عن حقيقة هذا الدين، بقوله: (هو منهاج للحياة متكامل، كما هو حرية للضمير، وهو حركة للشعور، وتطلع نحو النور، فهو منهج فريد طليق من آسار التقليد والجمود والتعصب). في ضلال القرآن ج5، ص2793.
الصائمون أحباب الرحمان، لامتثالهم لأمر مولاهم محبة وقربة، حين يُقبلون على الصوم فيمتنعون عن كل المباحات قولًا وفعلًا ظاهرًا وباطنًا، يقطعون فيه المسافات بقلوبهم المُحبة وأعمالهم الخالصة، في رحلة نحو السمو الإيماني والتجلي الرباني، للفوز بالقرب من الله عزَّ وجل، والتعرض لنفحاته ورضوانه في موسم الخيرات والنور.
فالصائم الحق ليس من امتنع عن الطعام والشراب فحسب، بل هو الذي يسعى في الناس نورًا وهدى، يرشد الضال الحائر ويعين المحتاج والضعيف، ويطمئن الخائف، وينشر الخير والفضيلة والمحبة بين الناس.
كما إن الإسلام لا يعتمد على العقوبة لإنشاء مجتمعه النظيف، بل يعتمد على الوقاية وسد منافذ وطرق الوصول الى الجريمة والفحشاء والبغي، فالإسلام لا يحارب الدوافع الفطرية في النفوس، إنما ينظمها ويهيئ لها الجو النظيف المشروع الخالي من مثيرات الشهوات وبعيدًا عن حبائل الشيطان وتزيينه لطرق الغي والفجور والعصيان.
يأتي رمضان والبشرية اليوم أحوج ما تكون الى معاني الرحمة ونداها، والى حقيقة عدالة الإسلام وأثارها، في ظل ما يعيشه العالم اليوم من جفاف روحي وأخلاقي، يبعث للقلق والحيرة والظلم والحروب، إنه عالم تتحكم فيه قوى الحداثة المادية الجشعة المتوحشة المتحكمة في مصائر الشعوب، لاستحواذها طائفة من أرباب المال والاقطاع برأس المال العالمي ووسائل الإنتاج ومصادر الثروات والطاقة في العالم.
يأتي رمضان ليؤكد حقيقة دين الإسلام عقيدة وعبادات وأحكام ومعاملات، فكل شيء فيه له حكمة ومقصد، فالعبادات ليست طقوس ومظاهر جوفاء دون تأثير وأثر، بل لها مقاصدها وغاياتها حين يسبقها دوما النية الصادقة والإخلاص في الأعمال والأقوال لله عز وجل، بذلك تثير العبادات في القلب الرغبة والحب للإقبال على الطاعات وموائد الخير والأعمال الصالحة، لينبثق عنها في واقع الحياة ممارسات وسلوك تصلح به الحياة ويقوم به العدل ويعم به الخير والفضيلة والإحسان.
تلك هي الأمانة والمهمة التي أوكلها الله للإنسان وحمّلها إياه، ليقوم بواجب الاستخلاف في الأرض، وهو ما يمثل انتصارًا للنفخة العلوية الربانية في كيان الانسان، والتي فيها تحقيق لإنسانية الانسان وحريته وكرامته وتكريمه وتفضيله على سائر المخلوقات.
رمضان موسم النفحات والرحمات والمغفرة والعتق من النار، موائد الطاعات وابواب الخيرات فيه مشرعة لكل العباد، إلا من أبى، فالمحروم بحق من حرم نفسه هذا الخير وهذه النفحات، والخاسر حقا من أدركه رمضان ولم يغفر له، كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من صام وقام رمضان، إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه البخاري ومسلم.
أبواب السماء مفتوحة مشرعة في رمضان كما هي في غيره من الأيام أمام المذنبين والمقصرين والمخطئين، تنتظر عودة وتوبة التائبين الصادقين المنيبين الى ربهم، الرب الغفور الرؤوف الذي يفرح بتوبة عباده العاصين، ليطهرهم من رجس الخطايا ودنس الذنوب، لقوله عز وجل”وَهُوَ ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ” سورة الشورى الآية 25.
بتلك المعاني يمثل رمضان، محطة إيمانية تعيد صياغة النفوس فتجددها وتصقلها، لتسفر عن ميلاد الانسان السوي الكامل إيمانا وحرية وكرامة وأخلاق، أفمن نفخ الله في روحه الحياة وأفاض على قلبه النور فهو يمشي به في الناس خيرًا وبرًا وعدلًا، كمن مثله في ظلمات العبودية للطاغوت والشهوات وحبائل الشيطان ليس بخارج منها، وتلك المعاني حاضرة في قوله عز وجل: “أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها” سورة الانعام الآية 122.