
تقريبًا منذ عامين وأنا أغالب نفسي عن قراءة كتاب الماجريات للشيخ إبراهيم السكران. كنت أسمع الإشادة به كثيرًا نعم، غير أنني كنت أقول في نفسي: إنه يناقش مشكلة سلوكية مستهلَكة؛ “إدمان النت” مسألة ليست محل اهتمام بالنسبة لي، مع يقيني أن الشيخ إبراهيم مبدع جدًّا، وسيبدع في مناقشة أي قضية ولو كانت “إدمان النت”.
قبل أربعة أيام، وبينما كنت أبحث عن كتاب أبدأ في قراءته، لا أعلم كيف حضر إلى بالي “الماجريات”، فقلت: يبدو أنه قد حان اللقاء. شرعت في قراءة المقدمة، فلم أنتبه إلا على نداء الصلاة بعد قرابة الساعتين، فتوقفت، ثم أكملتُه في أوقات متفرقة.
فعلا كان تناولًا إبداعيًّا بحق، وكعادة الشيخ إبراهيم يأسرك كلامه، فيغوص بك في أعماق أفكاره، متنقّلًا من نقطة إلى نقطة، ومن موضوع إلى موضوع، وأنت منقادٌ لا تكاد تملك لجام نفسك، وكذلك لا يقنع إلا بأخذ الموضوع من جميع الزوايا.
في الكتاب يناقش الشيخ إبراهيم مشكلة الماجَرَيَات، وهي الأخبار والوقائع والأحداث التي لا فائدة منها، وهي تركيب مزجي من قولك: (ما جرى؟)، فهي جمع الـ(ما جرى). وينقسم الكتاب إلى محورين أساسيين:
• المحور الأول –والذي يأخذ أقل من ربع مساحة الكتاب فقط–: الماجريات الشبكية، وهي الغرق في متَتابِعات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي هي على وجه التحديد –في ذلك الوقت–: المهاترات والجدالات الفكرية، وسلسلة الردود، والردود على الردود.
• والمحور الثاني –الذي سيكون قرابة ثلاثة أرباع مساحة الكتاب–: الماجريات السياسية، وهي مستوى آخر تمامًا عن المحور الأول؛ فالمحور الأول مشكلة سلوكية فردية، بينما الثانية ابتدأ فعلًا من هذا الجانب، وهو غرق الشاب في متابعة الأخبار وتفاصيل الأحداث المشغلة عن الإنجازات العلمية والدعوية وإصلاح النفس، لكنه توسّع بعدها حتى أصبح يناقش مرتبة السياسة في الشريعة، وفي طريق النهضة والتغيير. وهذا انعكاس للنماذج التي استعان بها في توضيح الرؤية، فكانت النماذج من حيث مستوى البعد في مناقشة الفكرة كالتالي:
نموذجا الشيخ البشير الإبراهيمي، والدكتور عبدالوهاب المسيري، ناقشا المشكلة كسلوك تلقائي أو عفوي يريد المرء أن يتغلب عليه، واكتفيا بالتحذير من مغبة الغرق في هذه الماجريات السياسية، والحضّ على الانشغال بالدرس النافع والمطالعة المثمرة –على حد قول البشير الإبراهيمي–، مع التفريق بأن الدكتور المسيري يحكي عن تجربته الشخصية وكيف أن الكتابة الحَدَثية اليومية أو الأسبوعية، ومتابعة تفاصيل الأحداث، تَقوِّض من رؤيته “البانورامية الموسوعية التي تركز على الثوابت، والتي تتطلب إيقاعًا بطيئًا”. بينما الشيخ البشير كل هذه الأفكار مأخوذة من نصحه المتكرر لأبنائه الشباب في دعوته الإصلاحية، والرد على أرباب الأحزاب السياسية الذين أسماهم “لصوص العقول”، وتوضيحه للفارق بين لباب السياسة وقشورها، مبينًا أن “القشور دون اللباب، أما لُباب السياسة بمعناها العام عند جميع العقلاء فهو عبارة واحدة: إيجاد الأمة”.
أما نموذجا الدكتور مالك بن نبي، والدكتور فريد الأنصاري، فنحن نتكلم عن مستوى بعيد تمامًا عن سابقيهما؛ فهما يقدمان تأصيلًا فكريًّا لمرتبة السياسة في إصلاح المجتمعات. فقد قدّم الدكتور فريد خمس رسائل للاتّزان في المشاركة السياسية في طريق الدعوة والإصلاح، ومعالجة أخطاء الحركات التنظيمية السياسية. وعلى الجهة الأخرى مالك بن نبي الذي اغتاظ جدًّا من “الدراوشة السياسيين” –كما يسميهم– الذين أزبدوا في الكلام عن الحقوق حتى أقعدوا الهمم، وفتروا العزائم، ولم يعلموا أن الحقوق لا تأتي إلا بالعمل الجاد الدؤوب، وتحويل البلاد قاطبة إلى “ورشة عمل”.
أما النموذج الخامس فهو نموذج الشيخ أبي الحسن الندوي، الذي كانت مناقشته لهذه المسألة مناقشة عميقة، فقد قدم تأصيلًا أو تقعيدًا نظريًا لشرعية المبالغة في مرتبة السياسة، رادًّا على من جعلها أساس رسالة الإسلام ووظيفة الدين. فكأن الشيخ أبا الحسن يعالج أشد حالات الانشغال الماجرياتي السياسي تطرفًا. وقد كان الشيخ أبو الأعلى المودودي هو المخاطَب المضمر في كل هذه المناقشات إذ إنه صاحب هذا الاتجاه، ولكن الندوي لم يُفصِح بتعيينه للمودودي إلا في آخر رسالة وأهمهن: “التفسير السياسي للإسلام”، التي أرسل بنسخة منها للمودودي فور طباعتها، ليرد المودودي بكل رحابة نفس: (إنني لا أعتبر نفسي فوق مستوى النقد).
ثم يختم الشيخ بخلاصات من أنفس النفائس، ويجمع كل الكتاب في تلك الخلاصات والتعقيبات اللطيفة.
ثم إن الشيخ إبراهيم كان له هدف آخر من الاستشهاد بهذه النماذج، إلى جانب الاعتضاد بأقوالهم، وهو –كما أفصح عنه في ثنايا الكتاب–: “إنعاش الحيوية العلمية والعزيمة الإصلاحية لتستعيد نبضها الطبيعي؛ فحالة التقاعس والتواني التي ولدها التفرج على الماجريات تفتقر إلى عينات وتجارب نُخالِط ونُمازج فيها معاناة الكدح والمزاولة في المعرفة والدعوة”. فلأجل هذا الهدف أسبق عند كل نموذج، قبل عرض آرائه عن المشكلة نفسها (إدمان النت)، عرضَ مسيرته العلمية والتحصيلية، وكيف حصل ما حصل من العلم والمعرفة، حتى يؤمن القارئ بأن متابعة الماجريات تؤخر عن الإنجاز بما عايشه مع النماذج من ابتعاد عن الماجريات في تكوينهم العلمي، إلى جانب تحذيرهم منها بعد ذلك.
أقول: إن الشيخ خاض كل هذه الرحلة، وتكبد كتابة وبحثًا وإخراج هذا الكتاب العظيم، حرصًا منه على أوقات الشباب وفُتوَّتهم أن يضيعوها في الماجريات الفكرية والسياسية، حتى وإن كانت في المحيط العلمي والمعرفي والفكري، إلا أنها مضيعة. فالذي يقصده الشيخ بالماجريات تحديدًا –ولمَّح له– هو الجدالات التي ظهرت في تلك المرحلة على المنتديات وأشباهها، ثم على “تويتر” أو “فيسبوك”، من إثارة للشبهات أو الآراء الفكرية الشاذة، ثم الرد عليها، ثم الرد على الرد، وهذه السلسلة الطويلة. وفي الجانب الآخر متابعة الأخبار. فهذا الذي كان يقصده على وجه الدقة.
فيا ليت شعري بالحال اليوم وماجرياته! لو رآنا الشيخ اليوم، والأوقات تُنحَر على التفاهات، وعلى اللا شيء، فعلا: لا شيء. إن كان أرقّ الشيخَ ضياعُ الوقت في الجدالات الفكرية –وهي كما قلنا ما زالت لم تخرج عن دائرة المعرفة والعلم، إلا أنها مضيعة للوقت– فما الذي سيصيبه اليوم و”البثوث التكتوكية” التي تستمر لساعات وساعات، ومشاهدوها بالآلاف، قد ملأت أوقات شبابنا؟ وكم هي المؤلفات التي سيُخرجها عن هذه الفيديوهات القصيرة أو ما يسمى “بالريلز” التي تبلع الساعات تلو الساعات وأنت لا تشعر؟!
ومن المفارقات أن الشيخ أفرد فصلًا صغيرًا عن تغير الحال، وكيف أن العلماء والمصلحين قديمًا كانوا يحذرون من إضاعة الوقت في “فضول العلم” من جنس المسألة الفقهية النادرة، والمفردة العربية الغامضة، والسند الغريب، وغيرها. ثم اليوم أصبح يُشجَّع على مثلها؛ فإنها خير بكثير من هذه الماجريات. ثم اليوم، وبعد سنوات قليلة من كتابة الشيخ لهذا الكتاب، نقول: قد اتسعت الهوة أكثر، ونزلنا دركات أعمق. والله المستعان.
