عظيمٌ قولنا إن حقبةً سوداء امتدت أكثر من ثلاث وخمسين سنة، انتهت.. وإن طاغية الشام فرَّ كما تفرُّ الدجاج! كيف للسوريِّ اليوم أن يمدَّ الجذور التي استؤصلت قبل عقود في الظلام؟ مَن يُعيد لابن الثمانين شبابه المهدور على أعتاب الوطن السليب، مَن يلقي على الشباب دروسًا في معاني الوطن، والأرض، والدولة، والحقِ القائم في وجه الباطل الكئيب؟ مَن يشرح للأطفال معنى أن تكون مواطِنًا وابن أرضٍ لك فيها نسبٌ عريق وجذور أعتى من صدى أسماء الأجداد الأوائل؟ مَن يهديني سُبل الكتابة عن بلد قطّعنا دونها الآمال، ورمينا بأحلامنا فيها وسط السراب؟
طوال ساعات التحرير الأخيرة ما استطعت أن أجلس، ما هدأت، أُمتِّر الأرض ذهابًا وإيابًا، حائرًا ماذا عليَّ أن أفعل؟ كيفُ أُحبط المخاوف أمام هذه السعادة الفائضة؟ سعادةٌ جديدة لم يعرِفها شعبنا العظيم مِن قبل، فلم أعرف أن أحدًا ما سمع أن الأسد سقط، وأنَّ النظام انهارَ مُخلِّفًا بعده ضُباطًا نزعوا الرتب، وتجرّدوا من عسكَرتِهم في شوارِع دِمشقِنا، نزعوا الرتب على عين ابنة أمية، قُبيل الفجر طالت يدُ الثوار رءوس مرابض الحكم، ورددت المآذن أن قد انكشفت عورة الحُكم، وفرَّ خنزير النصيرية لاجئًا خلف الحدود… سقط النظام، سقط النظام، دمشق سقط عنها رداء الجحيم! فرَّ بشار الأسد.
في كارابوك، خرج السوريون والعربُ يُهنئ بعضهم بعضًا في الشوارِع. خرجت على أمل اللقاء مع أكبر عدد ممكن منهم، كأني لأول مرةٍ أريد أن أملئ عينيَّ مِنهم بعد سقوط حملٍ ثقيل توزّعته أكتاف عشرات الملايين، حملٌ فاضت تحت وطأته بحارٌ مِن الدم، تراصَّت صفوف المُصلين، ما انتهى الإمام إلا وتكبيرهم تسمعه الملائكة، تردده الأرضون السبع، فوج يلي ما قبله. يقفُ أحدهم للكلام، يحمل كلٌ مِنهم جمرةً في قلبه يريد أن يطفئها بالكلام لأهله السوريين، يريد أن يُطيل الحديث فيبكي، يقعد نائيًا بِحملِه، يقوم آخر حتى يقعد، قليلون مَن حافظوا على رباطة جأشِهم، وما اختنق صوتهم إلا آخر الكلمة، كأنَّ العبرةَ آخر القولِ تقوم مقام النقطة آخر السَّطر.. خرجت للطريق بين المشي والهرولة أكبح جماح الجنون، أسمع أصواتهم في الشوارع، يقول قائلهم “والله ما أصدِّق! أحقًا سقط النظام.. يا اللـــه! أحقًا سقط النظام” أشارِكهم جملةً عابرة، وأشارك غيرهم أخرى هناك، تحدّثت مع كثير لا أعرفهم، هنأت العالمين، وتعرَّفت كلَّ سوريٍ في طريقي، سيماهم في وجوههم، فمن ما رأى رحمة الله فقد كانت فجر الأحد الموافقِ 8/12/2024 جليةً على وجوه السوريين، بل جليةً على وجوه العرب كلهم، ومَن مِثلي وقد حصدتُ تهاني شعوبنا العربية شعبًا شعبًا، كُلهم يرى سوريا وطنه!
خرج السوريون حتى ملأوا أنحاءَ الكوكب هتافًا، الياسمين الدمشقي هتّاف، ما رأيتُ ياسمينًا أعذب منه هتافًا وأحلا جنونًا منه يوم التحرير. إنَّ دعاية سقوط النظام عذبة كأنها خرير الكوثر، ولو أراد طاغية جمعَ الناس حوله لَما وجد له معينًا خيرًا له من إعلانه سقوط نظام الطاغية، لم أشهد فرحةً كما شهدتها في الوجوه من القلوب ذلك اليوم، أمعنُ فأوقن أن خلف هذه العينين قلبًا نابضًا بالسَعد!
لم أؤمن مرةً بأن المظاهرات والحشود قادرة على ردِّ المظالِم أو سحبِ بساط المُلك من تحت أهله، ولي فيها حديث طويل، نُظِّمت عشرات المظاهرات غيرةً على فلسطين، ما خرجتُ في واحدةٍ مِنها، آخر مظاهرة خرجت فيها كانت عام الثورة الأول في دير الزور. وقد علِمت سماءُ الديارِ أي غيثٍ من الدماء سقت به الأرض آنذاك. إن الطغاة لا يزحزحهم عن عرشِ الظلم سوى السيف، أمّا يوم التحرير المبارك فقد خرجَ الناسُ شُكرًا وسَعدًا وهذر فرحٍ بالتحرير، وما ملكتُ إلا أن أخرج، وجدتُني بين مئات السوريين بينهم أعراقٌ مِن العُربِ جاءوا بأعلامِنا وأعلامهم. لسانُ حالهم تحريركم تحريرنا، وما رأيتُني أُعظِم السوريين كما أعظمتُهم تلك الساعة، شيوخنا رأوا التحرير وقد أثلجت لحاهم، وكادوا من اليأسِ أن يورثوه مَن خلفَهم، شيوخنا مالوا كما مالَ الشباب، تعرَّف أطفالنا أنَّ لهم أرضًا يُنسبون إليها، وأنَّ لهم وطنًا يسند ظهرهم، وأنَّ لهم من التشردِ وقاءً.
رأيتُ وجوهًا أعاد النورُ تشكيلها فما وَصفُ ملامِحها إلا أنها نورانيةٌ صِرفة؛ وأصواتًا علا جلالُ الملائكة جلالها فهم طِباق إلى السماء، رأيتُ نساءنا وقد أسلمنَ دموعهنَّ يطفين بها حرَّ شهدائهن في تلك الربوع. رأيتُ الحرة ودّعت أقبح ما كان في السجن، وزهت كأن بينها وبين جحيم الأسد جبالًا من النار ما يخترقُ إليها أحد من زبانيته إلا أذابته نارُ الإله، رأيت الشباب هتافًا بعد آخر، آمنتُ أنه لا أحد منهم إلا ويحملُ قصةً تُكتب بماء العين. هؤلاء مهاجرون، وقبل ذلك مُقاتلون، ومحاصَرون، تقاسمت غرف التعذيب وأتربة المقابِر أحبابهم فكُلهم ابن شهيد أو أخ شهيد أو شهيدة، نساءً ورجالاً، ترى التضحية عنوان مولِدهم ومماتهم، أولئك ذلك اليوم إن أبصر المهموم وجوههم زالَ همه، وذاب كما تذوب سنون الطغاة تحت لفح لهب الثوار.. بعد التحرير عرفتَ أنَّ الناس تحملُ أوطانها في صدورها ولو خارج حدود الخريطة التعسة، بعد التحرير بدأت تفهم قول شاعر القوم:
أيا مولاي دعوةَ مستغيثٍ
قــد التهبت جوانحه بنارِ
أغثنا بالرحيل غدًا فإنــا
من الشوق المبرح في حصارِ
وأبرح ما يكون الشوق يومًا
إذا دنت الديــــار من الديار
وأنت على حدودهم أعوامًا طويلة، غير أنَّه ما تحرّك الشوق إلا وقد دنا معنى الديار منك؛ فبتَّ تعرف ما يعرف الناس خارج إطار كوكب الشام، هذي دمشق وهذي الكاس والراحُ، إذًا فقد دنا اللقاء، أمّا أنا فقد والله بشّرني مَن لا يكذبُ قبل أشهر قليلة أنَّ لنا إلى الشامِ عودًا حميدًا، وأراضي لا طاغي عليها، وزاد على ذلك ما لست أذكره، وأسهى عن حديثه آنذاك بالخيالات البعيدة. أقول: أأدرك البشرى أم أنها لأولادِنا ومَن بعدنا!؟ ويقضي مولانا بالبرِّ فإذا الفتح قريب، والبشرى على مرأى من العين ومسمعٍ مِن الأذن، وقد أُذنَ للذينَ يُقاتلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصرِهم لقدير، وأن قد أُمرنا وقيل لنا قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قوم مؤمنين ويُذهب غيض قلوبهم، ما تُرِكنا إذًا وعزةِ الله وعلِمَ الله الذين صدقوا، وراحت سَكرةُ تُبّاع الظلام فأتوا يبايعون أهل الشهيد سُكّاب الدماء، وصدحت أصوات الخُرس الذين ما مدّوا للثورة بيد، صدحت تطالب بالعفو، فهل حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات؟!
وخرج السجناء، فارتبكت أرواح الفاقدين، أهالي المعتقلين، ناحت النوائح، وتأكدت الثكلى أنها ثكلت، واستيقن الأخ موت أخيه، وعرف الأب فقد فلذة كبده، وتيقنَّ الابن العامَ الذي تيتَّم فيه، خرج من مئات الآلاف من السجناء الذين دخلوا عشراتٌ قليلة، لا يخرجُ السجين من سجنه ليحيا، أتخيلُ السجين يخرج ليُخبِر عن الظلم، عن الطغيان، عن أنذل العذابات التي يعيشها الإنسان على هذه الأرض، يخرج السجين ليحمد الله على جهنم، خرجوا يسألون عن التاريخ، عن العام، خرج كثيرٌ منهم إلى المقابِر أول ما خرج، لأن أولاده هناك، عوائلهم حذفت من السجلات المدنية، يخرج السجين لا ليشكو الظلم.. يخرج مداراةً للحياةِ ولَمن فكَّ أسره! ويكاد يكون قولهم والله إلا قول الأول:
إِلى اللَهِ أشكو إِنَّهُ مَوضع الشَكوى
وَفي يَدِهِ كَشف المَضرة وَالبَلوى
خَرَجنا من الدُنيا وَنَحنُ مِن أهلِها
فَلَسنا مِن الأحياءِ فيها وَلا المَوتى
يخرج مرتعِبًا، علقت في ذاكرته طوال السنين أوامر الضباط، عذاباتهم، أصواتهم، خيالاتهم، عُلِّقت أرواح السجناء عن الحياة، ومرَّغ السجن عشر سنين، وعشرين، وثلاثين وأربعين سنةً من حياتهم في سراديب العذاب. كيف لمن اعتاد حياته تحت الأرض أن يخرج إلى النور ويوائم الحياة! دخلت الحسناءُ السجن عذراء يندى وجهُها من النور، وخرجت أمًا لأولادٍ ما تعرف آباءهم، ليست حرةً واحدة، حرائر كالياسمين، خرجن بآلاف من الأطفال سَقطت عليهم لعنة وحياة ما اخترنها فإذا بالعذاب رفيقًا على صورة ابنٍ حبيب، خرجن بعذاباتهم، خرجن بشهودٍ خالدين على ملاحم العذاب، خرج الرجال بدموعهم، وجنونهم، وإحباطهم، خرج الرجال بالعذاب كأنه قاسيون تقاسمته ظهورهم، خرج الأطفال ما يعرفون من الحياةِ غير ظلام السجن، غير العذاب، والمساجين، والعويل المرافق، والصراخ الدائم، خرجوا إلى حالةٍ ما تصل خيالاتُنا لإدراك جزئها، خرج إلى الحياة من الحياة عالمٌ جديد! سقط النظام، سقط النظام، مُطيحًا بمخاوف مَن ربما كان عُرضةً للاعتقال، سقط الخسيس، فلا عذابات تحت الأرض إلا لأوليائه في البرزخ إلى يوم الحشر.
على مشارف الحياة، أكتبُ عن الأيام مُغالبًا مرارة الخوف، محاولًا إذكاء شعلة الأمل، قبل ساعاتٍ قُتل في دير الفرات من نسائها وشبابها وأطفالها، خرجوا يطاردون اللئام يؤملون النصرة في إخوانهم؛ وتُقصف على مدار الأيام السابقة مقدّرات الدولة مِن قِبل يهودِ جهنم، ليس ما بعد هروب ذيل الذلِّ بأهون مما قبله، ما زالت الثورة تُسقى بدم الشهداء؛ والذكرى تنفع المؤمنين، ألا فليست ثورتنا ثورةً على الأسد ونظامه والنصيرية في سوريا وحسب، أنا اليوم لسانُكم، خرجت الثورة مُسقطةً للظلم، طوفانًا في وجه الاستبداد على اختلاف أشكاله، لن يستبدَّ بالرأي أحد إلا قتلناه، لن يستبدَّ بالحكم ومؤسسات الشعب أحدٌ إلا نكلنا به، لن تمتد لأموال الشعب يدٌ إلا قُطعت، لن يمسَّ حرةً أحدٌ إلا حرقناه، خرجت الثورة ثورةً على الظلم، خرجت تجتث نظام الحكومة العميق، خرجت تجتث النظام الذي غرس العذاب في مفاصل الدولة والشعب، خرجت الثورة قالت وفعلت، قاتلت وقُتلت، يا خضراء… بقدرِ ما قتلوا منكِ أنجبتِ، بقدر ما أحرقوا عمّرتِ.. إلى طرد أطياف المحتلين من آخر شبرٍ في الشام، تستمر بأبنائها الثورة.. وإنَّ مع العسرِ يُسرًا، إنَّ مع العسرِ يُسرًا.
إذا الأرضُ لم يصبر عليها رجالها
فلا ترجو أن يحمي ثراها الأجانبُ