المدونة

صباح دمشق

يا لكَ من صباح جميل، وهواء عليل، وبلبل يشدو بأعذب ترتيل.

صباح الخير يا دمشق وقد ولّى القيصر، وهرب خائفا وأدبر، وارتفع صوت الله أكبر.

سلام عليك يا دمشق في صبح أبي، وجمال وضي، وقد انقشعت شدة دامت ستين سنة، فالحمدلله ذي العزة والمنة، خاذل النصيريين وناصر أهل السنة.

على سفح قاسيون شاهدنا شموخك الآتي من الأولين، وتذكرنا قيصر وهو يفارقك فراقا لا لقاء بعده يوم دخل عليه الصحابة المجاهدون، وتوضأنا من نهر بَرَدَى حيث منابع العيون، وصلينا في الأموي أعظم مساجد المسلمين بعد الحرمين وأقصاها الحزين، ووقفنا في حمص أمام مرقد خالد سيف الله المتين، ومررنا على رَبع الغزالي وهو يشرح إحياء علوم الدين، وابن قدامة وهو يسطر الفقه المتين، وابن كثير يُحبّر تفسير القرآن العظيم، والذهبي يكتب تاريخه القويم، وأبي الدرداء ينثر حكمته، وابن عامر يشدو بقراءته، كما نهلنا من رقائق عبدالغني النابلسي، وتذكرنا أمجاد تاريخنا المَنسي، فذاب حينها الوجد يا دمشق، وهطل الدمع ورقّ.

وقد داهمني الطرب، لما انقشعت عنكِ الكرب، فقلتُ مع بزوغ الشمس، وكلي حمدٌ وابتهالٌ وأُنس:

سلامٌ طيبٌ دانٍ يرِقّ

 عليكِ أيا معذّبتي دمشقُ

 تبلّغهُ حمامُ الأيكِ حُبّا

 وليتَ بأنني الآتي أدقُّ

 مِنَ الشوق الذي قد هدّ جسمي 

يعزّ عليّ بُعدكِ بل يَشُق

 إذا قالَ المحبُّ لمن هواهُ 

أحبكَ فالوصالُ عليه حقُّ 

فقلبي في هواكِ اليوم عانٍ

 بحبكِ صار ينطق فيه خفقُ

 يفوح على سفوحكِ ياسمينٌ 

وفي (برَدَى) يطيبُ اليوم دفْقُ

 عليكِ من الجمالِ ثيابُ حسنٍ

 ووجهك مشرق القسماتِ طلقُ

 تسامرني المُنى يا شامُ دوما

 ويحملني إليك اليوم عشقُ

 وألمح في صباحك كلّ غيمٍ

 يسيرُ بمتنه غيث وودقُ

 فتنهمرُ العطايا سابغات

 ويلحق مجرما رعدٌ وبرقُ

 طريدا هام في الدنيا وولّى

 عليه من السّما ما يستحقّ

 فبعد قُصورهِ ضاقَت عليهِ 

رحابُ الأرضِ لم يحويه أفقُ

 وتبدو الشمس حَسنا بعد ليلٍ

 بهيمٍ ما بهِ غربٌ وشرقُ

 لقد ثارَ الأباةُ وكُلُّ حُرٍّ

 أَبِيٍّ مِن أُمَيَّةَ فيهِ عِرقُ

 بنوكِ اليومَ أقمار هداةٌ 

غبارُ مسيرهم لا لن يشقُّ

 بعزم ناطحوا شُم الرواسي

 لهم في السّيرِ إقدامٌ وسبقُ

 وفي حمصٍ لسيفِ اللهِ مثوَى

 ينادينا له صوتٌ ونطقُ 

ألا سيفٌ يجاهد لا يبالي 

أخو حربٍ له ضرب وصعقُ

 فلبّت عصبةٌ لله باعوا

 نفوسهمُ وأمّا لم يَعقّوا 

لهم في ساحة الأموي وعدٌ

 كريم فيه آياتٌ وصدقُ

 فجاء النصرُ بعد سنين ثكلَى 

ووعد الله للرّاجين حقُّ

 فصبحكِ سوف يُنسيك الليالي

 بهيٌّ كله فرجٌ وعِتقُ

إذا بكت جنباتُ النّيل من ألمٍ

 بكت دمشق بدمع منه هتان

أواصر ببيان العرب محكمة

 النيل و الشام في الآلام صنوان

وقد صنع البحتريّ لوحة حبّه لدمشق واصفاً محاسنها الجميلة فقال:

أمّا دمشق فقد أبدَت محاسنَها

 وقد وفَى لك مطريها بما وعدا

إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ

 مُستحسن وزمانٍ يشبه البلدا

وقد أذهلني أبو تمام وهو يتغنى ببطولات أبناء الشام الذين واجهوا الاعتداءات على مرّ العصور بكلّ صلابة وقوّة إذ يقول:

لولا حدائقها و أنّي لا أرى 

عرشاً هناك ظننتها بلقيسا 

و أرى الزّمان غدا عليك بوجهه

 جذلان بسّاماً وكان عبوس

فيكِ وحدك يا دمشق حار الحكماء وعجز البلغاء وهم يصفون طيب هوائك وعذوبة مائك، واعتدال أجوائك، وصفاء سمائك، الجمال كله دمشقي فأنت الروضة الفيحاء، والحديقة الغناء، وظلال الأفياء.

إذا ذكرتك أذكر خيول بني أمية، وسيف الدولة صاحب الحمية، وخلافة عمر بن العزيز الراشدة، وجيوش صلاح الدين المجاهدة، ومثوى خالد بن الوليد، وأبا فراس العنيد، والمسجد الأموي، ودروس ابن تيمية وابن عساكر والأوزاعي والنووي.

إذا ذكرتكِ ذكرت حسان وهو ينشد:

للهِ درّ عصابةٍ نادمتهم

 يومًا بجِلّقَ في الزمانِ الأولِ

بِيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابهم

 شمُّ الأنوفِ من الطرازِ الأولِ

يُغشَونَ حتى ما تهِرُّ كلابُهم

 لا يَسألون عن السوادِ المقبلِ

فلبثتُ أزمانًا طوالًا فيهمُ

 ثمّ ادكرت كأنني لم أفعلِ

مرت ستون سنة على الشام وهي تعاني من تأله عائلة متجبرة، ظالمة مستكبرة، وفي الأربعة عشر عاما الماضية ازداد الظلم والجور، وانسدت منافذ النور، وعم القتل والإجرام وسفك الدماء، وسجن الأطفال والكبار والنساء، ففي سجن صيديانا لوحده أعدم الطاغية خمسة وثلاثين ألف أسير، وكل أسير سجَنه فمفقودٌ لا يعلم أهله عنه شيئا في قصص تشيب لها الولدان ويزوغ معها الجَنان، وقد رأيتُ مقابلات مع بعضهم أخبر أن له اثنان وأربعون سنة في السجن ما رأى الشمس بعينيه، وبعضهم فقد عقله وسمعه وعينيه، وكم حامل وضعت فيه حملها فكبر ولدها وشب دون رؤية ضياء الشمس ومعرفة مصدر النور، ولا طَعَم العافية ولا عيدا ولا زاره سرور.

لقد كشفت تَرِكة النظام النُّصيري عن وحشية ما عرف لها أهل الشام نظيرا في تاريخ الإسلام حتى أصبحنا نردد مع نزار:

يا شامُ أينَ هما عينا معاويةٍ

 وأينَ من زحموا بالمنكبِ الشُّهبا

فلا خيولُ بني حمدانَ راقصةٌ 

زُهواً ولا المتنبّي مالئٌ حَلبا

 وقبرُ خالدَ في ‎حمص نلامسهُ

 فيرجفُ القبرُ من زوّارهِ غضبا

 يا ابنَ الوليدِ ألا سيفٌ تؤجّرهُ

 فكلُّ أسيافنا قد أصبحت خشبا

وقد حاولَت جامعة الدول العربية احتواءه في السنة الأخيرة واستضافته في مؤاتمراتها الكبيرة تمهيدا لإنعاشه من جديد فلمّا ظنّ أنه بُعث من جديد، وعاد له عيشه الرغيد، أتاه الله من حيث لم يحتسب، وقد ظنّ أن لن يقدر عليه أحد، ولكن الله قضى أمره، وكتب للمستضعفين نصره، فأرسل قوما صادقين لهم بأس شديد، وعزمٌ يفل الحديد، فأرسَلَ لكل البلدان يلتمس الأعوان، واتصل بالأمراء والملوك وجعل يطوي السماء على طائرته طيّا، يطلب سلاحا ودعما قويا، فلم يغنِ أحد عنه من الله شيئا، ووقف الذين يسندونه في عجزٍ وحيرة، وتركوه يواجه مصيره. (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).

وأعظمُ درسٍ تشاهده في حياتك يا أيها الإنسان، حينما ترى الأرض كلها بوسعها تضيقُ على السجّان وتشتد فيهرب ويندس، حتى كأنه في خرم إبرة لا يقدر على النفَس، وقد نزع الله ملكه، وهدّ عرشه وفُلكه، فكم لله من آيات لأولي الألباب، وذكرى لأهل الرشد والصواب..

وقد عبر شاعر الشام وأدبيها الصديق الحميم أنس الدغيم بقوله:

سقطَ النظامُ فكُلُّ أرضٍ حُرّةٌ

مِن رِجسِهِ العاتي وكُلُّ سَماءِ 

وزهَتْ دمشقُ على العواصمِ كُلِّها

 زَهْوَ العروسِ على النساءِ اللائي

 هذا دمُ الشهداءِ حينَ يقومُ مِن 

هجعاتِهِ، هذا دمُ الشهداءِ

وقبلها عندما تساقطت مدن الشام من يدِ الطاغية تساقط حبات المسبحة قال يخاطب حماة:

رجعنا يا حماةُ فلا تقولي:

نسيتُ وجوهَكم بعْدَ الفِراقِ

 وأنتِ الأُمُّ، كيف الأُمُّ تنسى

وجوهَ صِغارِها عند التَّلاقي؟

 بكَينا عندما افترَقَتْ دروبٌ 

 فمَن يبكي لنا عندَ العِناقِ؟

قال ابن خميس وهو يكتب المآثر ويدون عن أمس الدابر في كتابه” خبر كان ” النفيس: وقد زحفت كتائب الثوار في عزم وإصرار إلى دمشق ‏في ليلة السابع من جمادى الآخرة عام 1446 هـ الموافق الثامن من  ديسمبر 2024 م بعد أن حرروا حلب وحماة وحمص ومدنا سورية أخرى، فأحاطوا بها من كل جانب، فمنهم الطاعن ومنهم الضارب، وما هي إلا ست ساعات حتى تهاوت تحت ضرباتهم جيوش النصيرية وأزلام الباطنية ففر طاغية الشام هذا الصباح إلى مكان مجهول، وتفرق عنه جنوده، ونُكست أعلامه وبنوده، وانهزمت حشوده، وكان قد قتل  ألف ألف أي مليون، وشرد اثني عشر مليون ( ربع شعبه) وسجن أكثر من مائة ألف، وأحرق مدنا بكاملها بالكيماوي والبراميل المتفجرة، والقنابل المنشطرة، وقتل أبوه من قبله ستين ألفا من المسلمين في يوم واحد، فيهم الشيخ والمسن والمرأة والراكع الساجد.

وقد خرج من الأسرِ صباح اليوم وليلة البارحة خلق كثير من المسلمين يزيدون على مائة ألف، حتى عمّت الأفراح، وسُمعت أصوات التكبير من الجامع الأموي مع حي على الفلاح، فكان يوماً من أيام الله في الدنيا على أهل الشام، تجلت فيه قدرة الملك العلام.

وصدق الله إذ يقول:” وتلك الأيام نداولها بين الناس”.

وهذا وعده في كتابه المبين في ذاك البيـــــان العظيم:

{ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى