الرواية فن من فنون الأدب، أوسعت زمانها انتشارًا وكثرةً، لأنها تسجيل للمشاعر وبث لمكنونات الصدور، ولعله كما يقال “كل رواية هي سيرة ذاتية” الرواية فيها شيء من نفس صاحبها، شيء من روحه، تطوي أحداثًا تكشف عن معاناة الكاتب، معاناته مع زمانه ومع واقعه الذي يعيش يصارعه، معاركه النفسية والفكرية.
“الكاتب يخفي نفسه في روايته”، لأن الرواية شيء من الإنسان، بكل ما فيه من خير وشر، من نور وظلمة، الرواية تنير جانبًا من الحكمة والبلاغة، وتظهر وميضًا من الاعترافات والتناقضات، تسعى بالإنسان إلى التطهير والتغيير. الرواية تساهم في العلو بالذوق، وتدفق الحس، تعمق في الإنسان التجربة الشعورية تعلمه كيف يشعر بغيره، كيف يصوغ مشاعره ويبين عنها بسلاسة، تأخذ بيد الإنسان وتخرج به من ضيق زمانه ومكانه، إلى عالم من الخيال، أزمنة أخرى، وعوالم أخرى. تعطيه عالمًا بديلًا، لتصنع تراكمًا معرفيًا من الخبرة والوعي.
الرواية تعكس فلسفة العالم، وتضفي على الواقع وشاحًا من الأسطورية، ورداءً من الجمال؛ يخفف من حدة الواقع، حتى تفردت الرواية في مكانةٍ لا ينازعها عليها فن، وشهدت كثرة، وغزارة غير مسبوقة، الرواية تغير نفوسًا، وتساهم في تغيير مجتمعات، تفصّل صورة المجتمع، بتفاصيله وجزئياته ترسمها ريشة الروائي الفنان، الذي يجعل الصور والتعبيرات تطارد خيالك، لعل صورته تزكي نفسًا وترتقي بروح.
والرواية الجديدة، حاولت أن تغوص في مشكلات الإنسان، وتصور أزماته مع المجتمع فكانت حقيقة بتربعها على عرش روايات تلك الفترة. “مرحلة الواقعية في الرواية: تمتد من أربعينات القرن العشرين إلى السبعينات منه، ترافقت هذه المرحلة مع استقلال الشعوب العربية من الاستعمار، وبداية التحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية حيث انتقل الصراع من صراع خارجي مع المستعمر، إلى صراع داخلي اجتماعي بين الطبقات الاجتماعية “(1).
صراع الطبقات كل طبقة تقاوم من أجل وضعها الاجتماعي وتحسين ظروف معيشتها، وازدهار وضعها الاقتصادي. صراع الطبقات هو مفهوم سياسي ماركسي، وفي ظروف تحول الأنظمة وخوض الحروب تتجلى ظاهرة صراع الطبقات بشكل فج، الطبقات البرجوازية ترى أن من حقها السيطرة على الطبقات الكادحة، ومن أهم المذاهب السياسية التي اعتنى بطبقة البروليتاريا، هو المذهب الاشتراكي، الذي تمثل في جيل الستينات في الرواية العربية.
ورواية “الحرب في بر مصر” من تلك الروايات التي تؤرخ لحياة مجتمع القرية، أفكاره وطرق معيشته، حياته الاجتماعية والسياسية، وتؤرخ للفترة التي يتلقى فيها الجندي خدمته العسكرية، تناقش قضية الصراع الداخلي والخارجي بين الطبقات، الرواية خير ما يمثل فكرة “التحول”، وتأثيره على الطبقات الاجتماعية. الرواية تصور من خلال الشخصيات وتحليلها نفسية كل طبقة وتأثير بيئتها عليها، يوسف القعيد تألق في روايته، وخط قصة “مصري” ضحية الصراعات الأيديولوجية، وضياع الأخلاق، وتعد رواية “الحرب في بر مصر” من تلك الروايات التي تسافر بك عبر الزمن لترى أحوال الفلاح قبيل حرب أكتوبر وكأنك من الشاهدين، وترى أحوال النبلاء، وكيف يغوص يوسف القعيد في نفسية كل شخصية منهم، ومبرراتها الفجة أحيانًا، لتواري عن سوأتها. و”رواية الحرب في بر مصر” احتلت المرتبة الرابعة من أفضل مائة رواية عربية.
الأحداث ــ الفكرة رواية سياسية اجتماعية قروية تحوي ستة فصول. تعد من روايات تعدد الأصوات، تبدأ بصوت العمدة وتنتهي بصوت المحقق، الأحداث تدور في قرية من الصعيد الزمن 1973م قبيل حرب أكتوبر، تتعدد جوانب الرواية (جانب اجتماعي ــ جانب سياسي ــــ وجانب أخلاقي) كل فصل فيه سارد يعبر عن فكره وثقافته وطبقته الاجتماعية.
شخصية العمدة -التي تظهر في الفصل الأول- هو من كبار طبقة الإقطاعيين الذين خسروا بعض ممتلكاتها في الأراضي الزراعية بعد ثورة 23 يوليو، العمدة الذي يفتتح الرواية بالتعبير عن سعادته بعودة أرضه بعد إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، ويقص علينا المفارقة بين سعادته بعودة الأرض وهمه وضيقه بخبر تجنيد ابنه توفيق. يدور الفصل الأول حول نفسية العمدة الذي يقضي ليلته في شغل وهم، تنازعه عاطفة الأب ومخاوفه من زوجته الجديدة، وأنه العمدة فهو المسؤول عن تجنيد أولاد الناس كيف يهرب ابنه من التجنيد، وقد سبق وتفنن في تهريب أولاده كلهم من التجنيد بكل حيلة ووسيلة. يقول:” فابني الأكبر أعفي من التجنيد بموجب قانون أولاد العمدة، أما الثاني فأعفي لأنه حفظ القرآن الكريم، وأصبح حاملًا لكتاب ربه في صدره وسمي فقيها، والثالث دفعت له البدلية عشرين جنيهًا، كل جنيه ينطح الآخر في رأسه، وكان الجنيه أيامها مبلغًا له قيمته العظيمة.. وابني الرابع.. طلقت أمه، وأصبح هو العائل الوحيد لأمه المطلقة “(2).
وهنا يأتي دور الأطراف الأخرى في تصاعد الأحداث، المتعهد الذي ارتضى لنفسه العمل في الدسائس والرشاوى، وينام قرير العين هانئ البال بسبب الظلم الذي وقع عليه. لجأ العمدة إلى هذا المتعهد الذي بدوره يعرض عليه الحلول لتهريب ابنه توفيق من التجنيد ويرفض العمدة كل الحلول التي عرضها عليه المتعهد إلا أن يذهب شاب مكانه، وقد رضي العمدة هذا الحل وبدأت رحلة البحث عن شاب بمواصفات خاصة يسهل معها تزوير أوراقه.
وأسفر البحث عن شخصية “مصري” ذلك الفتي المتفوق في دراسته، ابن الخفير النظامي الذي لم يكمل تعليمه بسبب فقر والده، وتتابع الرواية القصة بسرد الخفير وحزنه على الضربات التي يتلقاها وأولها كانت إحالته على المعاش، وأعظمها خبر الأرض التي سيأخذها العمدة بموجب القانون الجديد، ويقتنص العمدة فرصة الأرض ويطلب من الخفير أن يذهب مصري مكان توفيق، مقابل أن يترك له قطعة الأرض، ويتخلى مصري عن كل أحلامه وآماله، ويذهب للتجنيد باسم توفيق ابن العمدة، ويستشهد في الحرب، وعند استلام الجثة تنكشف الجريمة، وتنقلب الدنيا ويظهر صديق مصري والضابط والمحقق؛ كل يحاول أن يزهق الباطل، لكن كان الباطل صوته أعلى من صوت الحق. أما عن الثمن الذي دفع مصري حياته ومستقبله مقابل الحصول عليه؛ فقد كان سرابًا، ماطل العمدة في كتابة مواثيق الأرض للخفير، يقول الصديق: “إن السبب الأساسي في قبوله التجنيد بدلًا من ابن العمدة أن ما يقوم به ليس سرقة ولا تهريبًا، وإنما هو أداء وطني لمصر فهو يحب مصر لدرجة العشق. ونسلط الضوء على الرواية بشكل مفصل في حلقات متتابعة..
إلى اللقاء في الحلقة القادمة في العدد القادم بإذن الله..