المدونة

صراع الطبقات في رواية الحرب في بر مصر (ج2)

الرواية تسلط الضوء على فكرة “تزييف الحقائق”، وأبانت طريقة السرد كيف تتم الطبخة بإعداد ودقة، ودور المتعهد الرجل الذي يملك حلًا لكل المشاكل وكأنه الجني الذي يستوطن مصباح علاء الدين يحقق لك ما تتمنى مهما كانت صعوبته. والمفارقة أنه كان مدرسًا إلزاميًا، الفلاح في تلك الفترة كان مهمشًا فقيرًا لا يشعر باحترام نفسه ولا بأدنى أهميةٍ لوجوده، يعرف جرائم العمدة ويسكت عليها، يتمنى أن ينزل الله عليه كسفًا من السماء لكن هم يخافون أن يتحدثوا بها أو يطالبوا بحقوقهم.

والحقارة كلها في رد المسؤول الكبير: “ابن الخفير ذهب إلى الجيش ولأنه يدرك وضاعة أصله ويريد أن يتمسح في الكبار أولاد الذوات، أملى بيانه من اليوم الأول خطأ ونسب نفسه إلى العمدة، قال إنه ابنه، أبا عن جد، لهذا عندما استشهد تم هذا الاستشهاد بالاسم الذي ارتضاه لنفسه برغبته الكاملة، هذا كل ما حدث ولهذا سيقيد استشهاده بموجب هذا الاسم ودفنه على هذا الأساس على أنه ابن العمدة، هل سمعتني؟ لا توجد قضية.. “(1).

يوسف العقيد يثير قضية “التحولات” التي تصادم بها الناس بعد رحيل جمال عبد الناصر وتولي السادات وبعد حرب 1973م،  وصراع الطبقات الذي يذهب ضحيته الفقراء دائمًا، وأمجاد النصر التي ذهبت إلى الأثرياء تعلي من أمجادهم، وتزيد من غناهم، تشعر وأنت تقرأ أن الكاتب مرتبط بالأيديولوجية التي يؤمن بها فتراه يمررها بهدوء وخفوت أكثر من مرة، يبدأ الطرح الإبداعي في نقطة ما في البناء الدائري ثم يعود إليه، ولعله يؤمن “بالمشروع الاشتراكي الناصري” إذ إن أزمة الرواية في التحول الذي حدث بعد جمال عبد الناصر. تلك الأرض التي كان يزرعها الفلاح آمنا مطمئنًا، ثم جار عليه الزمان، وخلفه أجيرًا فقيرًا، ّذليلًا بغير أرض، وقد تحمس يوسف القعيد لأيديولوجيته وللدفاع عن طبقة الفقراء، والسخرية من الأغنياء، لم يظهر في الرواية بشكل فج، وإنما كان صوتًا خافتًا، تعاطفًا خافتًا، سخريةً خافتةً، تدب في القارئ دبيب الدم في العروق بهدوء دون أن يشعر.

وقفات حول الرواية

العنوان: عنوان الرواية جاء جملة قصيرة “العنوان يختصر سلفًا مغامرة الرواية، أو يعرض طريقة للنظر إليها، ولكنه لا يكتسب معناه إلا بعد قراءة الرواية. فقراءة الرواية توضح أو أو تقلب المعنى الذي ارتسم في الذهن قبل القراءة، وتدفع القارئ إلى المقارنة بين المعنى المقدر في البداية والمعنى المستخلص في النهاية، عنوان الرواية. يحمل العنوان دلالة “زمان ومكان” الزمان: الحرب يقصد بها الكاتب “حرب أكتوبر”..

عنوان الرواية لا يخلو من قصدية. تفاعل مع المجتمع القروي والمجتمع العسكري أثرى معجمه الروائي وحوله لحاذق ماهر، يوسف القعيد يكسر أفق توقعات القارئ يكسر أساليب الرواية التقليدية خروجًا عن المألوف حينها فيفتتح الرواية بالاستهلال: اقتباس مقولة لهيرودوت المؤرخ اليوناني “وفي مصر شاهدت أشياء كثيرة، ولكني لم أنطق “(2) والاستهلال، باعتباره عتبة من عتبات النص في الرواية، يجعلها تكتسي بزينة وحلة جميلة تكتسي حللًا من الجمال وتبين عن دهشة تمتلكك حين تقرأ وأنك “كهيرودوت” لن تنتطق، بل لن تعرف ماذا تقول!

الزمان: لا تصح رواية بلا زمن “يرى جيرار جينت أن نَقصَ الحكاية دون تعيين مكان الحدث، ولو كان بعيدًا عن المكان الذي نرويها فيه، بينما قد يستحيل علينا ألا نحدد زمنها بالنسبة إلى زمن فعل السرد لأن علينا روايتها، إما بزمن الحاضر أو الماضي وإما المستقبل، وربما بسبب ذلك كان تعيين زمن السرد أهم من مكانه “(3). والرواية أحداثها قبيل حرب أكتوبر1973، وهذا الزمن المشحون بالتوتر، واضطراب القوانين، “الرواية “بضمير المتكلم”، على نقيض ما قد يتوقع، قلما تنجح في الإيهام بالحضور والفورية، وهي أبعد ما تكون عن تسهيل التماهي بين البطل والقارئ، وتبدو ضاربة في الزمن، وجوهر هذه الرواية هو أنها رجعية، وأن هناك مسافة زمنية واضحة بين الزمن القصصي ــــ الذي وقعت فيها الأحداث ــ وزمن الراوي الفعلي ـــــ زمن تسجيله لهذه الأحداث، وهناك فرق جوهري بين كتابة قصة تنطلق إلى الأمام من الماضي، كما هي الحال في الرواية بضمير الغائب، وكتابة رواية رجوعًا من الحاضر، كما هي الحال في الرواية بضمير المتكلم، ومع أنهما تتساويان في أنهما كتبتا بصيغة الماضي؛ إلا إن واحدة تحدث إيهامًا بأن الأحداث جارية بينما يشعر القارئ في الثانية أن الأحداث قد جرت “(4).

تجد جملة ” فنحن في حالة حرب” تتردد على ألسنة الشخصيات، وترى من خلال الرواية تأثير “زمن الحرب” وكيف أنه يضفي قلقًا وتوترًا على نفسية الشخصيات، الزمان المرتبك الذي تتصاعد فيه مخاوف الحرب، أثر على سلوك الشخصيات، وجعلها تنساق حول الأثرة، والمصالح الشخصية. وهذا يضفي على الرواية عموم الواقعية، ويشي بمزيج من الرمزية السياسية، تؤرخ للفكر الاجتماعي في تلك الفترة. والحرب بمعنى حقيقي ومعنى مجازي، الحرب الخارجية مع العدو التي استشهد فيها مصري، والحرب الداخلية حرب الأغنياء وتسلطهم على الفقراء والتي استشهدت بسببها مصري أيضًا، مصري ضحية الحربين معنويًا ومجازيًا.

المكان: الرواية تدور حول الأرض، الأرض التي يتصارع عليها العمدة، “والأرض” التي استشهد مصري فيها، لم يسمِّ يوسف القعيد اسم القرية التي كانت مسرحًا للأحداث، للعموم والشمول وكي يشمل الرواية بالواقعية، وأن كل قرية من قرى مصر فيها “مصري” ضحية الفساد والأثرة، ذُكرت في الرواية أماكن عديدة “داخل القرية” تشهد على حدث ما، أو حوار ما، تداعي للذكريات، البيت ـــ الشقة ـــــ دوار العمدة ــــ الإسكندرية ـــ المخازن ــــ الأماكن العامة في القرية ـــــ الساقية ـــ الحظيرة ـــ الحقول الزراعية، تكرار كلمة (الأرض) ـــ لأنها كما ذكرت من قبل ـــــ فهي المكان الذى عليه مسرح الأحداث، ومن أجله يحدث الصراع. والرواية ساهمت في بيان عبقرية القعيد في رسم جغرافيا القرية المصرية، تصور أبعاد القرية المتجذرة في الأعماق، تنوع الأماكن والمباني تفسر هوية الأشخاص وتبِين عن سمت حيواتهم، دوار العمدة، بيوت الفلاحين المهمشين في الرواية، المكان رمز الوجود والتواجد والإيواء، أما (الأرض) فهي تشكل مساحة ممتدة في قرى مصر الشخصيات نماذج تعبر عن واقع لا خيال، الأرض قيمة دلالية ركز عليها يوسف العقيد، فهي الجذور ومكون الشخصية المصرية، وتشير الرواية على امتدادها إلى الظلم والفقر، والقهر الاجتماعي، حاول يوسف العقيد أن يقدم صورة عن “القرية” في تلك الفترة صورة تفصيلية لواقع القرية، محتواها الثقافي، شخصياتها المتنوعة، طبيعتها وطبيعة أهلها، لعل القرية كانت في خياله “إيتاي البارود” طيف يراوده حين يكتب فيمتد منه صورة تحوي الإطار الداخلي للقرية والمضمون.

يتبع في الحلقة الثالثة..

الهوامش:

  1. الرواية ص125
  2. الرواية ص5
  3. لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان، دار النهار للنشر، بيروت الطبعة الأولى..
  4. .أ مندلا، ترجمة بكر عباس، مراجعة إحسان عباس، الزمن والرواية دار صادر بيروت الطبعة الأولى 1997م، ص126، 127

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى