الرغبة الجامحة في البقاء، والشغف المتوهّج للخلود، والتشبث الأكيد بالحياة، خليط من المشاعر تعتمل وتتفاعل في أعماق النفس البشرية، مكوّنة بِنْيَتَها، وكاشفة عن جوهرها وحقيقتها، ستظل هاجسها منذ آدم أب البشرية الأول، وسوف تبقى تتطلع إلى ذلك الأمل الخادع، الذي لا يفتأ يدغدغ مشاعر البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
و مع إخفاق البشرية الذريع المتكرر منذ فجر التاريخ البشري، لم تَمَلَّ من خوض الرحلة العبثية إلى الظفر بـ “حجر الفلاسفة المفقود”، “الخلود في الأرض”، تلك الرحلة الخادعة التي أوقعت أبينا آدم في شراكها، حينما تسلَّل عدوه إبليس من خلال تلك الراغبة الجامحة إلى إضلاله وإغوائه، سطَّر لنا القرآن هذا الحدث الأول في قوله تعالى: …” فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ (122)” (طه:120 ـ 122)
وفي رحلة البحث عن الخلود في تاريخ الحضارات البشرية، لم يَفتُر الملوك والأثرياء من البحث عن إكسير الخلود: من أباطرة الصين والهند، وفراعنة مصر، إلى ملوك اليونان وحكمائها، ففي التاريخ القديم منذ بدايات نشؤ الحضارات البشرية، سعى الملك “جلجامش” في ملحمته الأسطورية الشهيرة إلى الظفر بعشبة الخلود، وبعد الفجائع والأهوال التي لاقاها في سبيل تلك الرغبة، يعود إلى قومه فاضي الوفاض، حسيرًا كسيرًا بفقده تلك العشبة، وحرمانه من أمنيته، هنا يدله الحكماء على طريق الخلود الذي كان بين يديه، وهو: الحكم بالعدل والعمل والبناء!.
ستبقى في الإنسان ـ مهما بلغ درجة من الإيمان والقرب من الله ـ بقية من رغبة أبيه الأول في الأمل المنشود الحادي إلى “الخلود” و”البقاء”، ولما علم الله تعالى تلك الرغبة الدفينة في عبده المؤمن تردد في قبض روحه في الدنيا رحمة ولطفا به، ففي الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري في صحيحه، يقول الله تعالى: ” … وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته” !.
وما بين الرغبة واليأس، تتجلى معضلة “الخلود” في الفلسفة، فتنطلق عبارات الإنكار الغاضبة، من أفواه الفلاسفة الغربيين لفكرة “الخلود”، ثم تعود منكسرة بالاعتراف به، فالخلود ـ عند “هولباخ” و”هيوم”ـ أكذوبة كهنوتية، يجب أن نحرر أنفسنا من سلطتها، ولكن “الخلود” ضرورة لإقامة الأخلاق، كما هي عند “كانط”، وحقيقة، كما هي عند “ديكارت” و”بسكال”.
وإلى اليوم ما زال الإنسان المعاصر يطمع في مقاربة هذا الحلم البشري القديم، فكم من الأبحاث والجهود العلمية التي حاولت السعي بخجل إلى تحقيق شيءٍ من رائحة الخلود! فالعلم البشري المعاصر يتطلع إلى إطالة عمر الإنسان قرونًا، وتلك رغبته القصوى!.
في سبتمبر2021م، استثمر “بيزوس” ـ الملياردير الشهير ـ بعضًا من ثروته الطائلة في شركة تعمل على تطوير الأدوية المضادة للشيخوخة، وعندما نُشر هذا الخبر علق “إيلون ماسك” ـ الملياردير الشهير أيضا ـ ساخرًا: بأنّ بيزوس سيُقاضي الموت إذا لم تنجح الأدوية !!.
لكن في غمرة البحث المحموم عن إكسير الحياة “الخلود”، لا يمكننا تجاوز حقيقة وجودية ضخمة وهي: أن الله سبحانه قهر عباده بالموت والفناء وتفرَّد بالبقاء، وتلك حقيقة أكثر القرآن من التأكيد عليها:
ــ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88((القصص: جزء من88).
ــ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (الرحمن:26-27]
ــ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96( (النحل: 96)
ــ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (القصص: 60)
ــ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الشورى: 36)
تلك الآيات الخمس كشفت لنا سر الخلود والبقاء، فمن الله، وإلى الله، وعند الله يكون الخلود، فهو واهب الخلود، إذ هو الأول والآخر، فالبدايات منه، والنهايات إليه، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) النجم: 4).
فالوجود نوعان: ذو طبيعة فانية، وذو طبيعة خالدة، كما أن الحياة حياتان: دنيا، طبعت على الفناء، بما فيها ومن فيها بلذائذها وآلامها، بصخبها وحبورها وبهرجها، بكنوزها وملوكها ودولها وقوتها، وحياة آخرة، طبعت على الخلود والبقاء، وكل ما اتصل بها من الدنيا ناله شيء من معاني الخلود.
ولإدراك البون الشاسع بين هذين الوجودين يقارن الله في القرآن بين الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، كما في قوله تعالى: “بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17( (الأعلى: 16، 17)
وفي تلك المقارنة البليغة بين البقاء والفناء والخيرية وما دونها، يقول مالك بن دينار: “لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى !”، وأبلغ من ذلك الوصف البليغ قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم ـ : ” ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بما ترجع”
ومادامت الدنيا دار فناء فهل يمكن أن نعيش فيها معنى الخلود؟.
في باطن ذلك الفناء الذي يلفنا خلود من نوع آخر، يتجلَّى في كل ما اتصل بالله ـ واهب الخلود ـ طاعةً وعبادةً وتألُّهًا، فإن اللَّحظات التي نقتطعها من الدنيا ونعطيها لله، لهي لحظات خارجة من حكم الزمن وداخلة في عالم الخلود، لا يجري عليها زمان الدنيا الفاني، بل يجري عليها زمان الآخرة السرمدي الخالد، وإذا كانت تلك اللحظات فتحت لنا من عالم الخلود، فكيف لا يستأنس بها العابد والذاكر والمتصدق ؟!، ولذلك كانت “باقيات صالحات”!.
ـ ” الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا” (الكهف: 46)
ـ ” وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (مريم: 76(
فالخلود يتجلى في الفناء حينما يتلبَّس الإنسان بتلك الباقيات الخالدات الصالحات صلاةً وذكرًا وصدقةً وإحسانًا وإيمانًا … وهنا تكمن الخيرية “خير مردَّا”، “خير عند ربك ثوابًا” وهنا يتعلق الأمل “خير أملًا”، إذ الأمل لا يتعلق بالأعراض الفانية السائرة للعدم، فإن حسبها أن تكون زينة في الحياة الدنيا!.
وفي موقف بليغ يجلّى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى السامي، فقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم على عائشة رضي الله عنها ـ بعد أن ذبحوا شاة ـ فسأل عنها قائلا: ” ما بقي منها؟” فقالت عائشة رضي الله عنها: ” ما بقي منها إلا كتفُها” فقال: “بقي كلها غير كتفها” أخرجه الترمذي في سننه.
لقد أعاد النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب الحقائق، فالفاني ما سيؤكل، والخالد الباقي ما تُصدّق به، معنى سام لا يدركه إلا النفوس الطاهرة!، وفي إشارة إلى هذا المعنى الدقيق يعود النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا تلك المفارقة بين الفناء والبقاء بقوله ـ كما في صحيح مسلم ـ: ” يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟! رواه مسلم.
ولما كانت الحياة الدنيا قد طُبعت على الفناء، فإن البقاء والخلود لا يليق بها، ولو تحقق فيها لكان نقمة على البشرية، لأنه معاند لطبيعتها، فلربما ضاقت بهم الأرض، وخلدت آلام سكانها وكدر عيشهم!.
التقط أبو العلاء المعري المعنى الأول، وضمنه قصيدته المشهورة:
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ
فأين القبور من عهد عاد؟
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
واستل الأديب الروائي البرتغالي” جوزيه ساراماغو” المعنى الثاني ـ الدال على تخليد الآلام والتعاسة ـ وبنى عليه روايته الشهيرة “انقطاعات الموت”، محاولًا الإجابة على سؤال افتراضي: ماذا سيحل بالبشر لو انقطع الموت من طبيعة الحياة؟ هل تَوقُفُ الموت في حياتنا نعمة أم نقمة؟!.
فقيمة الخلود في الكيف لا في الكم، هذ ما توصل إليه وليام هوكنج في كتابه ” معنى الخلود في الخبرات الإنسانية”، قائلًا: ” . . . إن الطريق الوحيد لكي يكون المرء آهلًا للخلود ينبغي أن يتمثل في عدم الرغبة في الخلود” (ص149)