المدونة

في البعثةِ والانبعاث: الخروج من وهْدةِ الانحدار

تمهيد:

هذه المقالة الأولى، ضمنَ سلسلة من المقالاتِ الموجهة لمناقشة مختلف المواضيع الثقافية ذات الصّلة بالواقعِ اليمني، والتي نرغبُ من خلالها، مخاطبة شباب وفتيات اليمن على وجه الخصوص، والتي نأمل منها الإسهام في بعثِ نهضة منتظَرَة. تبدأ من الوعي وتصويب الرؤية ورسم الاتجاه لهذه الفئة، على أمل أن تندفعَ بعد ذلك في شكل حركة ونبض وفعل في السَّاحة اليمنية، التي شُوِّه فيها الوعي وعُطِّلت فيها الطَّاقات، وانحرفت فيها الاتجاهات، لأسبابٍ عدة لا تخفى على المهموم بالنَّظر والتَّأمل في جذور وبواعث هذه التشوهات والانحرافات، التي كان من ضحاياها الثَّقافة والوعي والجيل، والجغرافيا التي نعيش عليها.

والشُّكر موصول لموقع “حكمة يمانية”، الذي سنطِلُّ عليكم من خلاله بهذه الأفكار والنِّقاشات، وهو موقعٌ رصين جاء في وقته، فالحاجة مُلحَّة، والوعي يكاد يحتضر، والسَّاحة – كما أراها – خاوية من مثل هذه المِنصَّات المعتبرة، فالمواقع في جملتها رديئة، تقومُ على النَّسخ وسوء اللصق! فعظيم الشُّكر للقائمينَ عليه، وعلى جهدهم في تثويرِ الوعي وتنويره، وخلق مِنصَّة لتشكيل الوعي اليمني وتوجيهه، في هذه الظَّرفية الفارقة من عمْر هذه البقعة من شبه الجزيرةِ العربية.

الخضراء في البعثةِ والانبعاث: الخروج من وهْدةِ الانحدار

دلالات البعثة:

أمَّا “البعثة” فكلمة لها مكانة وذات دِلالة حاضرة في وعينا الإسلامي، فأول ما يقعُ في الذِّهن، بعثة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فالله أرسله برسالته الخاتمة إلى العالمين، فكانَ مبعوثًا، وكانت بعثته في زمنٍ أطبقَ فيه الشِّرك على العالم، مع ما تبعه وصاحبه حينها، من ظلمٍ وانحطاط شهدته البشرية في تلك الحقبة “فالدُّنيا قبل بعثة رسول الإسلام توزَّعتْها عقائد باطلة وأوهام سخيفة، فكان كل أهل دين في مملكة من الممالك يحسبون أنَّ مملكتهم هي الدُّنيا كلها” [1]، فالبعثة اعتمادًا على هذا يتأكد وجودها وزمنها، حينَ تُهيمن على المجتمع مظاهر التَّخلف والارتكاس الحضاري بشِقّيْه (المادي والمعنوي)، وحين تغيب الحقيقة ويسطو الجهل على عقولِ الخلق، فهنا يكون الحديث عنها أمر واجب وفريضة حاضرة، من أجلِ اخراج النَّفس والنَّاس من هذه الحالة المتردية الى فضاءاتٍ واسعة ومسارب جديدة.

ذلكَ مفهومٌ موجزٌ مكثَّف للبعثةِ في المخيال الإسلامي، ومفردة “البعثة” تُستخدَم اليوم في التَّعبير عن الابتعاثِ الدِّراسي، وهي لا تبتعد في الاستخدام عن المعنى الذي أشرنا اليه آنفًا، فالابتعاث الدراسي هو تعبيرٌ عن الحاجة الاجتماعية في التَّغيير، والخروج من مأزقِ التَّخلف وصندوق الأزمات للمجتمع، عبر إرسال المبتعثين للدراسة، ليعودوا – كما يُفْترض- إلى قومهم كالأنبياء؛ ليقودوا عملية التَّغيير في بلدانهم، ويسهموا في دفع عجلة التَّقدم المنشود، كما فعلت اليابان في بعثتها سنة 1871م المشهورة ببعثة “ايواكورا” [2]، والتي قادت نهضة اليابان.

في البعثةِ والانبعاث: الخروج من وهْدةِ الانحدار

دلالات الانبعاث:

ذلك كان مفهوم البعثة بإيجاز، أمَّا الانبعاث فهو التَّجدد والنَّهضة بعد تأخرٍ وركود، وفيها مقاومة وجهد [3]، وهذا المعنى يصدق على أيِّ نهوضٍ وإفاقة فيه جهد على النَّفس، ويحتاج صاحبها الى مقاومة العوائق الحائلة دونَ قيامه، كيف وإن كان كل ما حوله يدعوه الى القعود والانحدار، وينفخ فيه روح الهزيمة والإحباط والتَّلاشي!

في معاجمِ العربية، تشير مفردة “الانبعاث” إلى جملةِ معان، هي السبب وراء اختيارنا هذه المفردة دون غيرها، جاء في المعاجم: “أنَّ انبعاث الأموات أي إحياؤهم”[4] ، وهل السَّاكن والخاملُ إلا شبيه الميت، وعدو الحياة النَّابضةِ بالتَّغير المستمر، وحتى ما ينبعثُ عن البئرِ العميقة من رائحةٍ يُسمى صعودًا، والصعود غالبًا لا يكون إلا ذو معنى حسن، ولهذا، كانت الجنَّة كما وصفها القرآن “عالية”. وقد ذَكَرَ صاحبُ “الوسيط” في هذا أنَّ الجنَّة وُصِفَت بالعلو؛ “لأنها مرتفعة المكان والمكانة، وقد جرت العادة أنَّ أحسن الجنَّات ما كانت مرتفعة على غيرها”[5] ، والوصول اليها يتطلبُ صعودًا أو انبعاثًا ومعه مشقَّة ونصبٌ وتعب.

وانبعاث الرجل، يقصد به اندفاعه وخروجه [6] وتدفقه، كما ينبعث الماء ويتدفق، أمَّا الانبعاث في الكيمياء، ففيها ما يسمى بـ”طيف الانبعاث”، وهي مجموعة من الأمواج تصدر عن جسم ما، غير أنَّ هذا الطيْف لا يصدر إلا في حالة تعرض الذرة أو الجزيء لمصدر حراري أو لتيار كهربائي، أي أنه يتعرض لمحفز يدفعه دفعًا لبعث طيفه هذا، وفي حالتنا العربية واليمنية على وجه الخصوص، قد تعرَّضَ هذا الجيل لكلِّ أنواع المصادر التي تدفعه وتستنهضه، لكي يبعث طاقاته ويشكل طيفه الخاص، ولم يبقَ له سوى العزم وإرادة الانبعاث.

أمَّا عن واقعنا  الذي نريد أن نبعث في أجياله روحًا جديدة، لكي تصلحه وتحرره وتتحرَّر معه، فهو واقع يشكل أرضية ملائمة لبثِّ روح الانبعاث هذه، إذا ما فهمنا الانبعاث كعملية إصلاح وتغيير، تهدفُ الى القفز بالوعي والمجتمع معه إلى الأمام، فمجتمعنا اليمني بالذَّات مجتمع تتجمهر فيه الأمراض والأوهام التي لا يستطيع أن يراها ويرى علاقات التداخل فيما بينها، إلا من أوتي وعيًا وفهمًا، وهذا الوعي المؤهِل لهذه للرؤية، ليس خبرة أو ومض معرفة فحسب، بل وعيٌّ ناتجٌ عن عمليةِ بناء وتركيب معرفي مقصود، مع طول نظر وكد ذهن في مشكلات المجتمع اليمني وقضاياه، وهذا الوعي ينتجُ عنه بالضرورة –إن كانَ متجردًا وموضوعيًا -استقامة في الرَّأي ودقة تشخيص لهذه الأمراض.

مشكلات يمنية:

لنضرب أمثلة على بعض المشكلات اليمنية، التي لم نُمْسك بعدُ بالوعي التفصيلي عنها حتى اللحظة، فكانت مشكلة للأجيال السَّابقة ومشكلة اليوم، وربما تنتقل لتكون مشكلة المستقبل. من هذه المواضيع اليمنية الشَّائكة، على سبيل المثال:

في البعثةِ والانبعاث: الخروج من وهْدةِ الانحدار

القبيلة

وتأثيراتها على الدَّولة والمجتمع والوعي، مشكلة تحتاج إلى تشخيص وتقييم ومعالجة، وغالبًا نكتفي بإصدار الأحكام العامة حول القبيلة، ونختصر تشخيصها بما نستقيه عنها من الإعلام أو من تجاربنا الشَّخصية، وهذه أحكام قاصرة بلا شك، فهي تريح الذهن من مشقة السؤال؛ وتجد طريقها إلينا بيسر في ظل بيئة يحكمها صراع النفوذ والرغبة في السيطرة، وما ينتج عن هذه البيئة بالضرورة من تزييف للوعي وتصدير للأحكام.

والقبيلة ليست أداة بيد ذوي الشوكة والسُّلطان كما قد يُفهَم من الواقع اليوم، بل تحكمها المنافع المتبادلة معهم، فهي الضحية والجلاد في آن، وحالة كهذه تحتاج إلى دراسة لخرائط العلاقات والأسباب المنتجة لما يصدر عنها من إضرار بالواقع اليمني، ولا نقصد من هذا أن القبيلة شرٌّ محض، بل القصد في هذا السِّياق الحديث عن تأثيراتها من النَّاحية السلبية لا النَّواحي الأخرى.

دور الإصلاح في عملية التغيير:

وثمَّةَ مشكلة أخرى أيضًا، أصابت أجيالنا الماضية وامتدت إلينا ولا زالت تجتهد في التَّمدد إلى المستقبل، بما تهيَّأ لها من ظروفٍ مشجعة وبيئةٍ حاضنة، وهي مشكلة (ضعْف الإيمان بدور العلم والتَّعليم في إصلاح وتغيير الواقع)، والغفلة عن دوره الحاسم في نهضة الأفراد فضلًا عن نهضةِ المجتمع، وهذه المشكلة تُلْحَظ في عزوف الجيل عن التَّعلم الجاد، وفي تعثر المنظومات التَّعليمية المختلفة في اليمن، وحتى من يحظى من أبناء اليمن بتعليم جيد في الخارج من “المبتعثين”، لا يفكر غالبهم بالعودةِ الى اليمن، أو أن يكون لهم دور -ولو من بعيد – في الاهتمام بإصلاح الداخل والاعتناء بقضاياه، وهذا ليس سببه الوحيد الخوف الأمني أو السعي في الأرض للرزق، كما تعودنا أن نسمع هذا غالبًا – وإن كان حقًا في حالاتٍ كثيرة-، لكن الملاحظ أنَّ من الأسباب هو ضعف الإرادة الإصلاحية لهذه الفئة وانحدار القلق والاهتمام بالشَّأن العام لديها؛ إذ نعرفُ الكثير منهم لديهم دخل مادي مستقل، يستطيعون به العيش في بلدانهم به دون الحاجة لاستمرار الغربة، ومناطقهم آمنة في الداخل إذ ليس لهم عناية بالشَّأن السِّياسي وليسوا أطرافًا في أيِّ نزاع، ومع ذلكَ يفضلونَ البقاء في الخارج، استجابة لرغبة عائلية ولنمط عيشٍ خاص، وبرود علاقة بالأرض التي بُعث منها، ونؤكد هنا أنَّ التَّعميم غير وارد.

في البعثةِ والانبعاث: الخروج من وهْدةِ الانحدار

القات وتعطيل الطَّاقات:

ومشكلة أخرى متعلقة ببعضِ العادات الاجتماعية التي تعطِّل الطَّاقات وتهدر مال المجتمع، وتؤثر بشكلٍ مباشر في تبطيء مشاريع النُّهوض الفردي والجماعي، مشكلة “القات” والتي مع طول الإِلف معها لم نعد نراها مشكلة، ولكَ أن تصدق إن شأت، أنَّ مثقفون وعلماء في الدَّاخل يعدونها حلًا لا عقبة، ولا يرون فيها أدنى ضيْر، تسمع هذا في صورة مزحة عابرة أو دفاع جاد، أو ممارسة عملية يومية لمضغه، ومن توغل هذه المشكلة أنّا لا نجرؤ على نقاشها، ونصمت عن وضع الأسئلة عنها، فما “القات” هل هو شجرة نبات عادي أم نوعٌ من المخدِّر؟ وما حُكْمنا العلمي عليه؟ وما تأثيراته على الزَّمن والعلاقات والمال والحالة النَّفسية والإنتاج لمن يتعاطاه؟ وهل بالإمكان تطبيق حلول قائمة على التدرج في الحدِّ منه؟ هذه الأسئلة وغيرها من المسكوت عنه التي لا يجرؤ حتى المصلحون على نقاشها؛ لأنَّ كثيرًا منهم مبتلونَ به ومتورطونَ في إدمانه.

التعصب المضاد (الأقيال نموذجًا):

ومشكلة أخرى نلاحظها في ظرفنا هذا، طريقة تفكيرنا في بعضِ هذه المشكلات يعدُّ مشكلة أيضًا، فعندما فكرنا في الانقلاب الحوثي مثلًا، وبدلًا من علاج الظاهرة بأبعادها المختلفة بأساليب أكثر تجردًا وعلمية، ركَّزَ بعضنا في علاجها –حسبَ ظنهم –  على إحياءِ النَّزعة القومية تحت مسمى “الأقيال”[7]، وهي مشكلة شبيهة بمشكلة التَّعصب السُّلالي الحوثي، فالمادة واحدة إذن وإن اختلفت الصور، فهذا تعصُّبٌ عِرْقي وذاك تعصُّبٌ سلالي، وقد تبنى هذا الخطاب نُخَبٌ ومثقفون يمنيون، ولسنا في هذا السِّياق أعداء للأقيال أو للهاشميين، كمسميات وانتماءات ارتضى أصحابها أن يلتصقوا بها، بل الإشكال هو في تضخُّم هذا الانتماء وادعاء الأحقية له على المجتمع، طالبين منه الطَّاعة والمغانم والتمييز، فما كان ينبغي أن يكون حلًا أصبحَ مشكلة تضاف إلى مشكلاتنا.

ختام:

ما علاقة ما ذُكرَ بالجيل والانبعاث، علاقته كما هو واضح، أنَّ مجتمعنا اليمني بحاجةٍ لصحوة جديدة وبعثة لا تتوقف، وانبعاث لا ينقطع، بغرضِ إصلاح هذا الواقع وما يتبعه من مستقبل قابل لا تُعرَفُ ملامحه، ثمَّ إنَّ الذي يقع على عاتقه هذا الانبعاث، هم الطَّليعة وأبناء الجيل، وهذا الجيل حتى يؤدي واجبه ويقوم بفريضته في الإحياء والبعث، يحتاج إلى تهيئةٍ وعدَّة وتجهيزات، وإنَّ أول هذا التهيئة الوعي الذي يصحبه انبعاث، والذي سيدفع الجيل الواعي لاكتشاف المشكلات والعوائق ثمَّ وضع المعالجات والترياق الذي يلائمها، بهدف السَّير بالمجتمع نحو الهدف المرغوب، على أن يستعين هذا الجيل بالله، وبإرثِ الأمَّة الملهِم، وبنماذج المجتمعات والأمم الأخرى وما وصلت إليه.

وفي هذه السلسلة، سنسلطُ الضوء على بعض ما يحتاج إليه الجيل في مشروع الانبعاث هذا، إذ الوعي بالذَّات وبمتطلبات النهوض وتحدياته وملابساته، أول خطوات البعث والإحياء، والتي تبدأ من الفرد ثمَّ تتعداه الى محيطه ومجاله العام.

الهوامش:

  1. محمد أحمد السيِّد، هذا هو النَّبي صلى الله عليه وسلم، ص 63.
  2. إيزومي سابورو، مقال بعثة ايواكورا، موقع اليابان بالعربي، في الانترنت.
  3. محمَّد الأحمدي، الاستثنائيون، ص 35.
  4. ينظر: موقع قاموس المعاني.
  5. محمَّد سيِّد طنطاوي، التَّفسير الوسيط، سورة الغاشية آية 10 .
  6. ينظر: معجم المعاني الجامع.
  7. يراجع في هذا الشأن، لمقال “الهويات القاتلة” قراءة في تناحر الهويات اليمنية، للكاتب في موقع المركز المدني للدِّراسات .

حمير الحوري

مدير المركز المدني للدراسات والبحوث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى