قيل للحرّاني: “بينك وبين سهل بن هارون صداقة، فانعته لنا كي نعرف”. فقال: “هو كالخير، وازن العلم، واسع الحلم، إن فوخر لم يكذب، وإن موزح لم يغضب؛ كالغيث حيثما وقع نفع، وكالشمس حيث أوفت أحيت، وكالأرض ما حملتها حملت، وكالماء طهور لملتمسه ونافع لغلة من احتر إليه، وكالهواء الذي نقطف منه الحياة بالتنسم، وكالنار التي يعيش بها المقرور، وكالسماء التي قد حسنت بأصناف النور.”
كان مدح الصديق صديقه سلوى أهل الوفاء في الشدة والرخاء في كل الأنحاء، ولعل انتشار الغدر والنفاق أصبح علامة هذا العصر لقلة ديانة بعضهم وابتعادهم عن الخلق الحميد، ولكن لا يُقال “هلك الناس” فيكون قائل العبارة أهلكهم؛ فما تزال زمرة صفية نقية تقية تستمد تلك الأخلاق من منبعها الأصيل. نجد أمير البيان شكيب أرسلان -رحمه الله- يبكي صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي -رحمه الله- في كتابٍ حافل بعنوان “شوقي أو صداقة أربعين سنة”، ويجدد العهد بالوفاء بصاحبه العلامة محمد رشيد رضا -رحمه الله- في كتابٍ آخر بعنوان “السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة”، يذكر في الكتابين رفقته لهما ومواقفهما وأقوالهما ومآثرهما وما اتصل بهما، فكان هذا من بديع ألوان التصنيف في التراجم المعاصرة.
ومن الذين ساروا على نهج الحب والوفاء لأصحابهم القائد يحيى السنوار -تقبَّله الله وطيب ثراه-، ولا غرابة في ذلك؛ فهو الصديق الوفي الذي لم تنسه قضبان السجون أصحابه، وعمل على إعداد مفاوضات من داخل زنزانته لخروج بعضهم. وهو الأب الحنون لأولاده من المقاتلين، فلم يرتح له بال ولم يستقم له حال بتركهم يقاتلون العدو وحدهم؛ فحمل سلاحه وكان بينهم متأسِّيًا برسول الله ﷺ الذي قيل فيه: “وكان إذا احمرَّ البأس يُتَّقى به”. بأبي وأمي خير الرجال وخير قدوة في كل الأحوال.
كتَبَ السنوار ترجمة -أو قل رواية- عن سيرة صاحبه أشرف البعلوجي؛ ذاك الشاب المجاهد القوي الفتي، أحد رجالات المقاومة وفرسانها البواسل الذين آثروا الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، وتركوا الدنيا بملذاتها، وكانت رسالتهم في الحياة: “أنا أقاوم أنا موجود”، فلم يرَوا أي قيمة لحياتهم سوى تشتيت العدو، بدايةً بالحجارة ونهايةً بقذيفة ياسين!
كتب السنوار سيرة أشرف بأسلوب لو تناوله أهل الصنعة الفنية لنقدوه من ناحية الصنعة، ولكن لوقفوا عاجزين عن تفسير تلك المشاعر الجياشة والعواطف الصادقة الموجودة في كتابته عن أشرف وفلسطين.
أشرف شابٌ كبقية شباب جيله، ولد ليرى جدته صمّاء تحدثه، يعود أصلها بذكرياتها وعلائقها إلى منطقة بئر السبع. يشبّ أشرف ليعرف أن الصمم مرض طارئ على جدته بسبب قصف طائرات الكيان اللقيط منزل أسرتها، فلا داعي أن نتساءل ما الذي زُرع في وجدانه منذ الصغر.
لا غرابة في نشأة المسلم في الحي الذي يعيش فيه وهو يتردد عليه يوميًا خمس مرات النداء الخالد، يلبيه الناس للصلاة مجتمعين في بيوت الله، يرجون فضله وكرمه. ولكن في فلسطين الحال مختلف؛ فالمسلم هناك بين ندائين خالدين: “حي على الصلاة” و “حي على الجهاد”. يستيقظ أشرف ذات يوم وهو يسمع: “خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود”، و”بسم الله الله أكبر بسم الله بسم الله”، و”قد حانت خيبر”، هتافات كزمجرة الأسود معلنة الوقوف أمام المحتل بكل ما يملك من الحجارة الخارقة، والزجاجة الحارقة، والشتيمة اللاذعة؛ مواجهة بين الفتية المؤمنين والقوة الغاشمة، يتسللها أزيز الرصاص ونداء الله أكبر، كانت هذه طفولة فتيان فلسطين، مشبعة بكل قوة ومجد وعزة.
يكبر أشرف فيجد أنه لا بد من العمل لمساعدة أهله في مصروف البيت بعد تكالب الظروف عليهم، فيعمل في “فلسطين المحتلة!” يترك رغد العيش مع أهله ليذهب للعمل في مصنع ليسدّ لقمة عيش أهله، يعيش أنواع الذل والقهر في عمله تحت اليهود، شعور عجيب يراوده: لماذا يستحقروننا؟ لماذا يعاملوننا هكذا؟ فيكون نتيجة تفكيره ثورة من العنف والغضب ضد العدو، فيبدأ بالبحث عن راية وسط الرايات تمثل ما يصبو إليه للقتال ضد العدو، فلم يجد إلا حركة حماس، تلك الراية الخضراء التي طالما أُغرم بطلنا أشرف بمؤسسها الشيخ أحمد ياسين، والذي كان يراه كما يرى القديسين! وقد سبقه أخوه مروان للانضمام إلى الحركة الخضراء.
ينضوي تحت تلك الراية التي يراها هي سبيل الخلاص من حكم المحتل، وهي راية ورثة النبي الكريم ﷺ. في الذكرى الرابعة لتأسيس حماس، يرى البعلوجي أنه من واجبه أن يحيي الحركة بعملٍ بطولي مفجراً أمجاد حماس في نفوس الناس؛ فيعد العدة مستعينًا بالله مستمدًا منه المدد ليغير على جماعة من الصهاينة ويرديهم قتلى برفقة أخيه بسكينهما المباركة، ثأرًا لدمائنا، وتنتهي عجلة هذه العملية بكونه سجينًا يكاد أن يكون منسيًّا لولا كتابة السنوار عنه.
يختم السنوار روايته عن رفيقه باعتذار لأصحابه من المجاهدين، وعلى رأسهم أستاذهم الشيخ أحمد ياسين لأنه لم يدون أخبارهم، وختم بمقابلة أجراها مع البعلوجي في السِّجن، كان في ختامها نصيحة للشباب: “الذبح الذبح فهو الطريق الوحيد مع القرآن”. فخذوا وصية أهل الجهاد؛ فهم خير دليل حين تختل البوصلة.