بحجة المتعة والتسلية وتضييع الوقت استُغفلنا بعلمنا ومعرفتنا، وصنعنا التفاهة والتافهين بأموالنا ووقتنا.
وللأسف لم يعد متصدِّر المشهد والمدافع عن قضايانا ذو علم أو معرفة، أو منزلة اجتماعية أو حتى صاحبُ درجةٍ أكاديميَّة! بل أناس صُنعوا في وسائِل التَّواصل، واشتهروا بتقديمِ النكت والمواضيع السَّاخرة، ليتطور الأمر وتتكون الحالة النرجسية والخواء العلمي والمعرفي للعبث في قضايا العلم والدِّين والأمة؟ فصاروا يفتون ويقضون ويتحدثون في أمور كبيرة بحجة العلم للجميع، والحرية الشَّخصية.
ولأنَّ بعضهم جاء من واد غير ذي زرع تعدى به الأمر إلى الطَّعن في الله وأنبيائه، ومحكمات الدِّين وشعائر الأمَّة، إلى مخالفة قيم المجتمع، إلى الاستهزاء بالآخرين وسبهم، إلى نشر الإشاعات، إلى التَّقليد والتَّشبه بالنِّساء، إلى الرَّقص.. وهلمَّ جرى، وما الأمر بخفيّ.
وإذا أردت أن تكون مشهورًا فما عليك إلاّ الخوض في أحد هذه الأمور وستجد المتابعين وحتى عروض اللقاءات والإعلانات في القنوات والندوات.
التفاهة بلا حدود، وأصحابها يغزون حياتنا:
استشرت هذه الظاهرة في جميع مفاصل الحياة، ومن عجائب الزَّمان كما في الحديث : “رويبضة يتكلمُّ في أمورِ الأمَّة أو العامة”.
ستجدهم في عالم السِّياسة والثقافة والفن والطب والإعلام والاقتصاد والدين والفلسفة والأخلاق إلخ، متطفلون في كلِّ جانب، حتى صارت التفاهة كما يقول الفيلسوف الكندي (آلان دونو)، في كتابه نظام التفاهة نظامًا اجتماعيًّا، تسيطر على جميع المجالات، وصارت المكافأة على مقدار الرَّداءة والانحطاط وليس الجدية والمثابرة وجودة العمل.
ثمَّ تنظر إلى الواقع الافتراضي وللأسف هؤلاء هم من يتصدرون المشهد، هؤلاء هم القدوة! هؤلاء هم الرُّموز! تستمع لأحدهم فلا تستطيع أن تكمل، رداءة اللغة، هشاشة المواضيع، كلام بذيء، انحدار وسقوط أخلاقي فظيع!
ومقياس النَّجاح بالطبع هو بالأرقام والمشاهدين والمتابعين، ليسقط في هذا الحضيض ليس من يبحثون عن التفاهة فقط، بل جيل بأكمله، الذي تغيب عنه العائلة والمدرسة.
يذكر البروفيسور (آلان دونو) أنَّ وسائل التواصل نجحت في ترميز التَّافهين، أي جعلهم رموزًا وقدوة، وتحضرني مقالة جميلة للكاتب النَّمساوي كرواس: “هوت شمس الثقافة أرضًا، حتى أصبحَ الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة”، وقيل: إذا ظهر الحمار بزيِّ خيلٍ، تكشفَ أمره عند النَّهيق.
التفاهة مصنع
إننا نشبِّه التفاهة كمصنع مادي رأسمالي بحت في إنتاج متواصل، بحيث يصير المال هو الغاية من الإنتاج، والتافهون هم عمَّال المحتوى، والشعوب هي المستهلكة لهذا المنتج أو المحتوى، ويدير هذا المصنع أو المحتوى مجلس إدارة، أو قوى خفية لها أهدافها.
وبالتأكيد لستُ ضد البحث عن لقمةِ العيش، ولكن على حساب القيم والعادات والتقاليد والأعراف، بئست الصَّنْعَة!؟
وتكمن المقدرة الرئيسية للتافهين كما يصفها آلان دونو في العمل مع بعضهم البعض، عملًا بمبدأ: أضئ لي أقدح لك، وانشر لي أنشرُ لك.
وما هؤلاء التافهون إلا نقلةُ أخبار وإشاعات، وفقاعات مثيرة في وسائل التَّواصل، يبيعونَ ذممهم ودينهم وقيمهم وأعرافهم وتقاليدهم في سبيلِ المال والبحثِ عن السَّعادة الموهومة.
التفاهة تسيطر على العقول والشعوب
في البداية شجعت التفاهة على إغفاء العقل، والنوم في سباتٍ عميق، وتلويثه بالاهتمام بسفاسف الأمور وصغائرها، وقد ظهر مفعول ذلك في أبناء الجيل، والفجوة بينهم وبين العلم والمعرفة الحقيقية، وظهرت التفاهة في نقاشاتنا العقيمة حول مواضيع ليست ذا قيمة علمية أو حتى إثرائية، بل غالبها في سفاسف الأمور، وجدال بيزنطي لا فائدة منه.
لا أحد اليوم على استعداد ليفكر في توطين معرفته كما ينبغي، أن يقرأ كتابًا، أن يدرسَ علمًا، أن يعمل على مشروع، بات جلّ وقتنا اليومي في هذه التفاهات التي غزتنا في عقر دارنا.
قوى خفية
هناك رغبة جامحة وراءها قوى خفية لهذا التوجه، بحيث يصير الإدراك والوعي – وحتى الحس النَّقدي – إلى وعي سطحي، وغياب إبداعي، وطمس الهوية، والتشكيك بالثوابت، وابتذال معرفي، لتصير المعرفة مبنية على وسائل التواصل لا على أساس بحث علمي مؤصل.
تحدَّث المفكر الأمريكي ناعوم أو نعوم تشومسكي عن استراتيجيات يستخدمها الإعلام العالمي للسَّيطرة على عقول الشُّعوب تحت عنوان “الأسلحة الصَّامتة لخوض حرب هادئة”، وذكر منها تشجيع الناس على استحسان التفاهة والرداءة، والهدف أن يسيروا رعاعًا كالقطيع نحو كل ما هو تافه ورديء.
وفي الطَّريق إلى ثقافتنا لمحمود شاكر وهي رسالة خفيفة يمكن أن تقرأ في جلسةٍ واحدة، تحدث فيها عن الطرق المتخفية والبعيدة الأمد للاستيلاء على مقدرات الشعوب، واستعمال شتى أنواع الوسائل والأساليب للاحتلال الثقافي كغاية أولى، وكيف أدى ضعفنا إلى الفساد الاجتماعي والديني.
سؤال مهم: لماذا التفاهة؟
والجواب عن السؤال لماذا التفاهة؟ بكل بساطة لأنها سهلة، لا تحتاج إلى دراسة، محتوى فارغ، فقط افتح كاميرا الجوال وتكلم، مفعولها كالمخدر بالجسم، وقد يسأل أحدهم: ولماذا الناس يتقبلونها بهذه السرعة مع أنها تافهة؟ والجواب بسيط: لأنَّ النَّاس تحب السُّهولة، وتركن إليها، تحبُّ التسلية للهروب من الواقع.
وإذا كنا جميعًا ننقد التفاهة فمن في حفلتها إذًا؟ أي إنسان يعيش بلا هدف أو خطة فهو في هذه الحفلة، عرضة للضياع والانشغال العشوائي أو غير الحقيقي، وهو هدف الآخرين، ومن كانَ بلا هدف فهو هدف الآخرين.
العلاج:
برأييِّ للقضاء على التَّفاهة أو محاولة الحد منها، لا يكفي مجرد التَّجاهل وعدم المتابعة في وسائل التواصل فهذا شيء بدهي، بل التعاون بين الإعلاميين والتربويين وعلماء الاجتماع والدِّين، للغوص في هذه الظَّاهرة ووضع حلول علمية عملية تعالجها، وتنظر في أسبابها، وإيجاد رموز وقدوات بديلة عن هؤلاء التافهين قادرة على المنافسة، ولا بد على العائلة أولًا والدولة ثانيًّا من سنّ قوانين وضوابط، وهذا ليس تعديًّا على الحرية الشَّخصية، بل حماية الجيل والنشء من الأفكار والوعي السَّطحي والنظر للأمور من منظورٍ مادي، والتكسب بطرق غير أخلاقية.
والواجب إضافة
أن نشارك أنا وأنت أيها القارئ في الحدِّ من صناعة التفاهة
ابتداءً لا تكن مثلهم ولا تنزل نفسك إلى مستواهم، لا تشاهد ولا تشارك،
ادعم المحتوى الهادف لا التافه، وإن ضاع بسبب كثرة الغث إلا أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، وهذه سنة الله في الكون.
ثقِّف عقلك لئلا يختطفه التافهون، التافهون لهم وسائل وأساليب فلا تقع في شَركهم، كن ذكيًّا قبل أن تقع تافهًا أو عودًا يتكئ عليه التافهون، حرر نفسك وذاتك، أشغل وقتك وعمرك بما يفيد.
كمْ من تافه تصدَّر المشهد وسبَّ واعترض وخاضَ ونم وغاب، ومع ذلك مات وماتت تفاهته وغثاؤه وبقي الخير ورجاله وذكرهم باق كأنهم أحياء وهذه سنة كونية.
وأختم بالمثل الإنجليزي المشهور:
“stop making stupid people famous
توقّف عن جعل الناس الأغبياء مشهورين .”
