Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
المدونة

لماذا لا نستعد؟

في لحظة من لحظات الصحو من سكر الدنيا الطويل يولد فكر بالحياة، جوّاب في آفاقها الرحبة، يبحث عن فَنن يستقر عليه بعد طيرانه؛ ليرسل منه رسل التفكير إلى هذه الحياة الدنيوية القصيرة، التي تبدو للعين كمرآةٍ تتوزع عليها أغشية من الأكدار والآلام، فلا يظهر عليها رونق الصورة وسطوع بهائها، وكلما حاول الناظر فيها أن يجلو جانبًا منها وينتقل إلى الجانب الآخر لصقله يعود الكدر سريعًا.

إن اللب عندما يحدِّق في هذه الحياة المشوبة المتقلبة يرى أنها لا تستحق هذا اللهث المستمر وراءها، ولا تستأهل هذا الزحف المتواصل فوق حراشفها، ولا طلب الرِّي من سرابها الخادع.

أيامًا معدودات يقطعها الإنسان على متنها المضطرب، حتى يأتيه الأمر بالنزول ليمتطي صهوة الأبد.

هذا إذا كانت حياة ذلك المعمّر ساكنة الجانب وادعة المرور، لا يعصف فيها صرير الرياح العتيّة يمنة ويسرة، ولا تفزعها قعقعة رعود التغيرات الحزينة.

دعوني اليوم أقول الحقيقة مجلوّة عن الجَمجمة، ومعزولة عن التفاؤل المنبتِّ عن العمل بالأسباب، لنكن جميعًا صرحاء لا نكذب على أنفسنا ولا نغر غيرنا حين نقول: إننا في واقع لا يسر الخاطر، ولا يبهج الناظر، ولا يستريح فيه الضمير المرهَق من كثرة وقع حوافر الأزمات الممضّة على صدره؛ فسدفات الليل الأليل تمد خيام وحشتها على جوانب الحياة فيه، وتبثّ فيها أصوات الرعب المختلفة بمكبرات الصوت التي يسمعها كل أحد.

إن واقعنا الذي نعيشه اليوم مليء بالغصص، متخم بالجراح، مخنوق بالأنين، ثائر الرأس من شدة هبوب رياح المآسي وقتامها المتطاير من آفاق شتى عليه.

والزمان في هذا الواقع تحت سقف سماءٍ كثيرة الغيوم التي لا تنقشع إلا لتحل على أفقها غيوم أكثر كثافة وظلمة؛ لتنذر بمستقبل مفعَم بالمواجع، مضطرب بالزلازل التي يبلغ صداها أسماع البسيطة.

في تلك الأحوال القاتمة يأفل بريق الآمال، وتتساقط أعلام الرؤى المتطلعة، وينكفئ التفكير الإنتاجي على دكة الفتور، وتتراجع خطوات التقدم إلى وراء سحيق.

لهذا نقول: علينا أن لا نقعد عن بناء الحياة الدنيا وإصلاحها مهما كثرت العقبات، ولكن لنستعد استعداداً صادقًا بالعمل لحياة أفضل من حياتنا هذه، مع أننا مكلّفون بهذا الاستعداد في أحسن أحوال دنيانا، وترامي نطاق الراحة فيها، فكيف وحال حياتنا المعاصرة ما وصفت!

لقد مضى الكثير من رصيد العمر القصير، وكم قد جاءتنا رسائل التنبيه بأنه لم يبق من رصيدنا إلا القليل، بيد أنا نقرأ تلك الرسائل المنبهة قراءة عابرة، وننتقل عنها إلى صفحات دنيوية أخرى تنسينا تلك الرسائل الصادقة.

ها هي الحياة اليوم تضيق بعد اتساعها، وتجدب بعد خصبها، وتمسك بعد عطائها، وتتنكر لنا بعد وصلها، وتجف بعد دفقها، وتكشر نحونا بعد طول ابتسامها؛ فالحروب المتنوعة تمتد لظاها، ويلج شررها كل بيت مع تفاوت في مدى اللفح واثره، ويتطاول دخانها في كل ناحية، وحبال القطيعة والعداوات البينية تشتد على أعناق الحياة الاجتماعية الطليقة، ومصانع الآلام تزداد منتجاتها يومًا بعد يوم، فلماذا نظل نحاصر أنفسنا في طفولة الفهم، وشيخوخة الوهم، والأرض من حولنا مليئة بالعِبر؟!

كم سبقنا إلى المقابر من أحباب وأقارب وناس نعرفهم وآخرون لا نعرفهم طحنتهم طاحونة الحروب ومشائيم أولادها، ولو كانت للراحلين أصوات مسموعة لوعظونا وقالوا لنا: لمثلِ ما صرنا إليه فأعدّوا، ألا يكفيكم الركض في الحياة الفانية كما تركض الوحوش في البراري، ألسنا لكم واعظين، وقد كنا مثلكم لاهين، أليس من الحمق الكبير أن يقترب موعد الرحلة ولستم في مطارها منتظرين، وقد قيل: ” أغبى النَّاس من ضل فِي آخر سَفَره وَقد قَارب الْمنزل”(1).

إن أيامنا هذه مثقلة بالمفاجآت المؤلمة، والتبدلات القاسية المتلاحقة، ورب لحظات تبغت فتنهي كل شيء؛ من حياة جامعة سعيدة، وظروف دنيوية صالحة، ورزق واسع هنيء، وأمن وارف الظلال.

وفي أثناء هذه الحياة غير المطمئنة نرى من الناس من يستعدون فيها لأسواء الاحتمالات؛ فيعد المال الكافي، وخطة النجاة المرسومة، وجيدٌ هذا، ولا عتبَ على من فعله. وقد قالت العرب في أمثالها في الاستعداد للنوائب: ” قَبْلَ الرِّمَاءِ تُمْلأ الكَنَائِنُ”، وقالوا: ” قَبْلَ الرَّمْيِ يُرَاشُ السَّهْمُ”. أي: قبل حلول الأمر يجب الاستعداد له، وقالوا: ” دَمِّثْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّوْم مُضْطَجَعا”، وقالوا: “عِنْدَ النِّطَاحِ يُغْلَبُ الكَبْشُ الأجَمّ”. أي: عند المكافحة يُغلب من لم يكن ذا عدّة. والأجمّ: الّذي لا قرن له(2).

لكن أليس من الحكمة والعقل أن نستعد لأسوأ الاحتمالات في الآخرة؟ فإذا كان ينجي المرءَ في المكاره الدنيوية المحتملة إعدادُ المال وخطة السلامة المحكمة؛ فإن النجاة من مكاره الآخرة قائمة على إيمان صادق، وعمل صالح خالص، وانشغال بالباقية عن الفانية.

وهذا هو الحزم الذي لم يحتزم به كثير من عُمّار الدنيا، قال تأبط شراً:

وَلَكنْ أَخُو الحَزْمِ الَّذِي لَيْسَ نَازِلًا 

 بِهِ الخَطْبُ إِلَّا وَهُوَ لِلقَصْدِ مُبْصِرُ

فَذَاكَ قَرِيْعُ الدَّهْرِ مَا عَاشَ حُوَّلٌ 

  إِذَا سُدَّ مِنْهُ مِنْخَرٌ جَاشَ مِنْخَرُ(3)

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عمر رضي الله عنه: “كان والله أحوذيًا، نسيجَ وحدِه، قد أعد للأمور أقرانها”(4).

وأما من لم يستعد لآخرته في رخاء دنياه وشدتها، ولم يتعظ بعبر الزمان ونوائبه، واتكل على تسويف هواه، وأعمى طغيانه بصيرته؛ فسيرد المعاد أعزل لا سلاح له يدفع به عذابه، قال أمية بن أبي الصلت:

ولكنّ مَنْ لمْ يَلْقَ أمراً يَنُوبُهُ 

  بعُدَّته يَنْزِلْ بهِ وهْو أعْزَلُ (5)

إن النجاة في الآخرة، ونيل رضوان الله، ودخول الجنة؛ تستحق والله الاستعداد بتجهيز حقيبة السفر المملوءة بالصلاح والتقوى، فإذا طرأ أي طارئ لم يذب حاملها ندما، ولم يتقطع حسرة وألما.

ولكن هذا يعسر على أرقاء الشهوات، وأسراء الخذلان والموبقات.

فيا دارَها في الخُلْدِ إنّ مزارَها 

 قريبٌ ولكنْ دون ذلك أعمالُ

تحثُّ بطيءَ السَّيرِ كيْ يُسرعَ الخُطَى 

 ففي الدربِ أهوالٌ وللعمرِ آجالُ

فمن كان مشتاقَ الفؤادِ لدارِها 

 له في تُقى الرحمنِ همٌّ وإقبالُ

4/4/1446هـ، 7/10/2024م.

الهوامش:

  1. الفوائد لابن القيم (ص: 107).
  2. ينظر: الأمثال للهاشمي (1/ 183، 162)، مجمع الأمثال (1/ 265)،
  3. التذكرة السعدية في الأشعار العربية (ص: 3). ينظر شرح البيتين في: شرح ديوان الحماسة (ص: 58).
  4. زهر الأكم في الأمثال والحكم (2/ 243).
  5. ضرائر الشعر (ص: 179).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى