أ.د مختار الغوث
جمع وتلخيص: أحمد نبيل الشويطي
تحت هذا العنوان المثير لكلّ من له أدنى اِنتماء لأمته وهويته ولغته كان هذا اللقاء الحافل بالأفكار الثرّة والإجابات النَّادرة حول كثيرٍ من الأسئلة والاستفسارات، وعبر ساعة وربع من الزَّمن اِستطاع الأستاذ اللغوي البارع الغيور على لغةِ القرآن الدكتور مختار الغوث حفظه الله تعالى أن يُجَلّي لنا كثيرًا من الحقائقِ حول الأخطار المحدقة بلغتنا، وما يميز الأستاذ المبارك هدوءه وحسن سبكه وعرضه للأفكار مع نَفَسٍ أكاديميٍّ عالٍ..
ومن الأدلة الواضحة على اِهتمامه البالغ بقضية اللغة والغيرة عليها ما أودَعهُ في موسوعته المميزة المسماة:
(الحرب الباردة على الكينونة العربية) وسيأتي شيء من الكلام عنها أثناء عرضِ أهم ما جاء في اللقاء من أفكار وإجابات، وها هي بين أيديكم أهمّ الأفكار التي دونتها من اللقاء المبارك، عسى أن ينفعني الله بها وإياكم.
- العناصر الأساسية لهويَة العربي المسلم، ثلاثة:
(الإسلام، التَّاريخ، اللغة).
– من الواجب اليوم أن تلتزم الفصحى من قبل الإعلاميين، وهم يقدمون بذلك خدمة جليلة للعربية؛ لأنَّ الحاصل من ذلك أن يكون الكلام مفهومًا بين العرب من المحيطِ إلى الخليج.
– لقد تعود النَّاس العامية حتى صار كثير منهم لا يفهم غيرها، وعندنا اليوم من الطلاب من لا يفهم من الكلام العربي إلا ما يوافق العاميَّة وخطورة الأمر أنَّ ذلكَ سيضطرنا أن نكتب العلوم بالعاميَّة يومًا ما، وسيصير لكلِّ بلد أو كل إقليم لغة خاصة به.
– طبيعة اللغة اليوم في الجزيرة العربية أنه يندر أن تجد كلمة ليست فصيحة.
– السَّبب الرئيسي في حفظِ اللغة العربية حتى اليوم هو القرآن الكريم، ولولا القرآن لاستقلَّ كل بلد بلغةٍ خاصة.
– العربية من حيث الوجود لغة ساميّة، وهي أقدم لغة مُتَكَلَمٌ بها.
– الانكليزية متفرعة وناشئة عن اللغاتِ الأوروبية الهندية، فهي ليست قديمة، وهي متغيرة غير ثابتة، فاللغة التي كان يتكلم بها شكسبير لا تُستخدَم اليوم، ولا يفهمها الكثير من الإنكليز.
- هل يمكن أن تموت لغة ما؟!
الجواب: نعم، وكثير من اللغاتِ ماتت بموت أهلها أو إعراضهم عنها واستبدالهم بها لغة أخرى.
وكمثال على ذلك: كانت سنغافورة تتكلم اللغة الملاوية (الماليزية) ثمَّ هجرها أهلها وصارت الإنكليزية بديلة عنها.
- ما الذي نفقده لو ماتت لغتنا العربية؟!
سوف نفقد القرآن الكريم، والحديث الشريف، والعلوم والآداب الموجودة في ملايين الكتب من إرثنا وثقافتنا الممتدة عبر مئاتِ السِّنين.
– أتاتورك غيَّر الخط من العربيةِ إلى اللاتينية، وأخرج من اللغةِ التركية العثمانية ما كان منها من كلماتٍ عربية وفارسية فماتَ كثيرٌ من اللغة بذلك. فالتركي اليوم لا يستطيع قراءة الصَّك الذي كتبه جده قبل مائة عام.
– من آثار موت اللغة أن تنقطع الصِّلة بين الأقطار العربية، وكمثال على ذلك:
المؤتمرات اليوم في البلاد العربية لا تحتاج إلى ترجمان؛ لأنَّ اللغة ما زالت حيَّة، أمَّا في أوروبا فتحتاج المؤتمرات عندهم لترجمان وتكلفة ذلك باهظ جدًّا، تقدر بـ(١٢٠) مليون لكلِّ مؤتمر.
– اللغة في تطور ولا يحافظ عليها إلا الكتابة.
– عندما أرى طفلًا عربيًّا يعيش في بلده، لكنه يتكلم الإنكليزية ينتابني شعوران:
أولًا: أخجل من نفسي وأتألم؛ لأنَّ الآخرين من الإنكليز يشعرون أننا نرفعهم فوق أنفسنا وأننا نجلهم ولا نحترم أنفسنا.
ثانيًا: أنَّ الطِّفل قد مسخ نفسه وسقطَ بينَ بين، فلا هو عربي إذ هجر لغته ولا هو إنكليزي عندما تكلم بلغتهم.
– إنَّ العالم كله اليوم يتكلم الإنكليزية، لكنه لم ينسَ لغته وهو لا يتكلم الإنكليزية خارج السِّياق الذي ينبغي أن يكون فيه.
– لابد من الحرص على تعلم الإنكليزية، لكن نستعملها في البحثِ العلمي وعند الضرورة وبذلك نحتفظُ بلغتنا وهُويتنا.
– الهويَّة: الخصوصية التي تميز شعبًا عن شعب كالأشياء التي يتميز بها العرب عن غيرهم ومن ذلك الثَّقافة، وهي كل ما يتعلق بالحياةِ والدِّين والعلوم والفنون والعادات والأذواق وغير ذلك.
– العربية هي الصندوق الذي يحفظ الثقافة، فاللغة هي التي حفظت الفنون، والأفكار، والعلوم، فإذا اِنتهت اللغة انتهت الهوية.
– الثَّقافة لها جانب روحي ونفسي، فاللغة التي تشكل هوية لك هي ما تستثير فيك الأشجان وتحرك الروح.
– في الهند: الانكليزية مستعملة وبكثرة، ولكنها ليست لغة الهويَّة لديهم؛ لأنهم يستخدمونها استخدامًا ماديًّا.
– في اللغةِ العربية حمولة ثقافية ونفسية، كلمة غزال مثلًا:
تدلُّ على الجمال والرشاقة والانطلاق، فهي كلمة واحدة، لكنها تثير في النَّفس معانٍ كثيرة؛ لأنَّ الكلمة في لغتنا محشوةٌ بالثَّقافة.
يؤكد الأستاذ الدكتور مختار الغوث: أنَّ الإنسان لا يجيد لغة أجنبية إلا إذا أجاد لغته الأم، لماذا؟
لأنَّ النِّظام اللغوي الذي يسبق إلى عقل الشَّخص يجعله يفكر من خلال هذا النظام، عندما يتعلم الطفل الإنكليزية وتكون لغته العربية قوية فإن كل ما سيتعلمه سيحاكمه إلى العربية، فإن كان ضعيفًا فيها لم يجد ما يقيس عليه ولا يستطيع ترجمتها للعربية.
– العربي الذي يتكلم الانكليزية في بلده من غير حاجة يحصل له ما يسمى بالهجرة الذِّهنية، وذلك بأن يكون عقله متعلقًا دومًا باللغةِ الجديدة حتى أن بعضهم يلمح أنه لا يعرف العربية مفتخرًا بذلك! والعربية إضافة لكونها لغة هي تاريخ وثقافة وهُويَّة، لذا، فمن أصيب بمثل هذا الدَّاء يعيشُ بينَ بيْنَ ليسَ بأمريكي ولا عربي؛ لأنه أضاعَ لغته، ولن يستطيع أن ينفعل بالإنكليزية كالأمريكي مثلًا؛ لأنَّ اللغة أدخلت إلى عقله بطريقةٍ آلية.
– الانكليزية موجودة اليوم في طريقة التعبير العربية:
مثال على ذلك عندما تقول في خطابك: سيداتي سادتي، هذه المقدمة هي نوعٌ من التَّرجمة، وهي ليست بثقافةٍ عربية. فتقديم السَّيدات هنا تسرّب من ثقافة غير ثقافتنا، فاللغة تغزو مضمون لغة أخرى بحمولتها الثَّقافية.
- موسوعة (الحرب الباردة على الكينونة العربية):
سميتُ موسوعتي بهذا الاسم؛ لأنَّ الحرب الباردة لا تكون بوسائل قتال معروفة، وإنما بالمكائد والمؤامرات وإرهاب النَّفس، والعربية اليوم يتم حربها بسلاح المؤامرات عبر حرب باردة.
ومن عرف حقيقة الأمر أدرك أنَّ حربًا حقيقية بدأت منذ دخول المستعمِر في أكثر الدول المستعمرة عندما ألزم المستعمِر أهل الأرض المحتلة بلغته؛ لأنَّ اللغة هي وعاء الهويَّة، والهوية هي مركز الممانعة والمستعمر تقلقه وتخيفه فكرة الممانعة.
– التُّراث الذي في جوف اللغة ينهضُ بي لقتال المستعمِر.
– اللغة مرتبطة بالاقتصاد ومثال على خطورة ذلك:
طلب (شارل ديغول) ميزانيَّة هائلة لتعليم الفرنسية في إفريقيا، رفضت الجمعيَّة الوطنية الفرنسية واعتبرت ذلك إهدارًا للمال، لكن ديغول قال: سنعلِّمُ الفرنسية؛ لأنَّ كل فرنك ندفعه سنكسب منه ست فرنكات، وكانت فكرة ديغول:
إذا أردتَ أن أشتري بضاعتك فلا بد أن أتعلم لغتك.
– ما تكسبه فرنسا اليوم من المغربِ والجزائر والدول المستعمرة لو خسرته لأصبحت من دول العالم الثالث، لذا فإنَّ فرنسا لها في المغرب ما يسمى بحزب فرنسا وهو مجموعة من الجمعيات المكونة تكوين فرنسي خاص من أجل الإبقاء على تجارتها مع أنها لا تقدم ربحًا جيدًا للمغرب وهي شركات نهبٍ واستغلال واحتكار للمغرب، وهذا الحزب يمنع المغرب من الاستفادة من ثرواته مع الدول الآسيوية؛ لأنَّ اللغة هي العائق.
– لولا الله ثمَّ العربيَّة لكانت الجزائر إحدى ولايات فرنسا.
فعلماء الجزائر كانوا يقولون: الفرق بيننا وبين فرنسا: العربية والإسلام.
العولمة:
القضاء على الهويات وإحلال الثقافة الأمريكية مكانها، ولا يقبل العولمة ويجعلها ميزةً إلا من هانت عليه نفسه.
يقول البروفيسور الغوث:
– لا شك أنَّ الانفتاح على العالم لا يكون بدون العلم ولا شك أيضًا أنَّ لغة العلم اليوم هي الانكليزية، ولكن لابد أن نحافظ على هويتنا مع هذا الاِنفتاح؛ لأنَّ العلوم محايدة، فلا مشكلة أن ننتفعَ بما عند الأمم الأخرى لكن من منطق قوة لا من منطق ضعف، وهكذا كنَّا قديمًا.
– عندما كانت اليابان قديمًا تبتعث طلابها للدراسة في الغرب كانت تختار الطلاب المتعصبين لليابان والثَّقافة اليابانية، وكانوا يوجهونهم قائلين لهم: إنما ابتعثناكم لتأتونا بالتقنية لا بالثقافة، أي بالعلم الذي يطور ويرفع من شأن بلدنا، لا بهويتهم وطريقة حياتهم وثقافتهم، وكان الصينيون ينبهون أبناءهم عند ابتعاثهم على ذلك أيضًا.
– لقد تكلم مالك بن نبي المفكر العبقري واصفًا الفرق بيننا وبين تلك الشعوب في التَّعامل مع الغرب، فقال ما معناه:
(إنك إن ذهبت إلى باريس ستجد الطلاب العرب في الشانزيليزيه والحي اللاتيني والأماكن الثقافية الفرنسية، أمَّا الطلاب الصينيون فأغلب أوقاتهم في المصانع يتعلمون وينهلون من أسرار الصِّناعة والتقنية، والنتيجة: رجع الصينيون فبنوا المصانع ورجع العرب فترجموا المسرحيات والأدب الفرنسي وصاروا يقلدون المذهب الفرنسي في الآداب.
– سافر توفيق الحكيم وعبد الرزاق السنهوري لدراسة القانون في فرنسا وسكنا في شقتيْن متقابلتيْن في باريس. كان السَّنهوري مهتمًّا بدراسته، ولم يُضِع وقتًا في غير ذلك، فكانت النتيجة أن عاد إلى مصر وقد حصل على الدكتوراه في القانون وصار أكبر فقيه قانوني في الوطن العربي، أمَّا توفيق الحكيم فاعتنى بالآدابِ والثَّقافة الفرنسية وشراء الصور وعاد إلى مصر ببكالوريوس حقوق فكان أهله يقارنون بينه وبين السنهوري ويقولون: يا حسرتا على ما أنفقنا عليك…!
– الهزيمة الثَّقافية اليوم واقع، ولكن ليس كل واقع نستسلم له، وبداية التغيير تكون بالوعي.
– من مظاهر الهزيمة الثَّقافية أنَّ العلوم في البلاد العربية تعلم بالإنكليزية وخاصة علم الطب، فهل كان هذا مجديًا؟ هل سألنا أنفسنا عن نسبة الخريجين من الأطباء الذين درسوا بالإنكليزية وتتبعنا نجاحهم في عملهم فيما بعد؟ النتيجة وبصراحة كانت كارثية، وما زلنا مصرين عليها، في روسيا يدرس الطب بلغتهم، وفي كوريا بالكوري، وفي اليابان كذلك. ومما يحسب لسوريا أنها ما زالت إلى اليوم تدرس العلوم بالعربية ومنها الطب، وقد خرجت للعالم أطباء ناجحين.
– هناك خرافة تقول: إنَّ اللغات لا تستطيع تحمل العلم وخاصة أنَّ المصطلحات العلمية والأبحاث الحديثة كلها بالإنكليزية؟!
والجواب: هذه خرافة صدقناها والأمر على العكس تمامًا.
أمَّا التعامل مع البحوث العلمية الحديثة التي تصدر بالإنكليزية فيكفي أن نقول: إنَّ اليابان المتقدمة والمتطورة جدًّا تدرس بلغتها وعندها قانون وسياسة بأن لا يخرج كتاب أو بحث بغير اليابانية إلا ويترجم خلال أسبوعين كحد أقصى ليتم الاستفادة منه.