مصطفى محمود (1921- 2009) الطبيب المثقف، والعالمُ الأديب، صاحب أكبر الانفعالات والانتقالات الفكرية التي شهدها الجيل السَّابق، كاتبُ القصص وعاشق الموسيقى، والمتمثل للمذهب المادي في بدايةِ حياته، والمؤمن المناضل بعد ذلك، رائد أدب العلم في روايته الشَّهيرة “رجل تحت الصِّفر”، ورائد تقريب المعارف التَّخصصية لغير المختصين، وصاحب الحديث الرَّصين عن الإسلام السِّياسي والمبين لمزالقه وثغراته، والموضح لخطر الإسلام الطقوسي وأنَّ المسألة كلها حربٌ بين حقٍّ وباطل ليس فيها محل للمسامحة والموادعة، وصاحب السَّبْق في قضايا الإعجاز القرآني في علومِ الحياة، وصاحب الدَّعوة إلى تأسيس علم نفسٍ قرآني، وصاحب كثير من النَّظرات الاستشرافية التي صدَّقها الواقع، وبينتها الأيام.
عرفناه في كتبٍ كثيرة، من أبرزها “رحلتي من الشَّكِ إلى اليقين”، و”حوارٌ معَ صديقي الملحد”، و”الإسلام السِّياسي” و”الله والإنسان”، و”إبليس”، و”لغز الحياة”، و”آينشتاين والنسبية” ونحوها من الكتبِ الكثيرة، وكذلك في برنامجه الشَّهير “العلم والإيمان”.
عشنا معه في الأرضِ والسَّماء، في الجمالِ والجلال، سامرنا معه النُّجوم والكواكب، وأدركنا معه أسرار البحار والمحيطات، عرفنا معه أنَّ العلم بحرٌ واسعٌ ومجالات رحبة، فمتى امتلكتَ الهمَّة والقدرة كان لك في كل باب من الحياة سبيلًا من سبل التحصيل، وطريقًا من طرق الترقي في مدارج العلم، رأينا منه خطابًا تحفيزيًّا ممزوجًا بالعلم، منافيًا للجهل، يتحدثُ بوعي العالم، وحماس الشَّباب، وحرص المشفق المحب، ولغة الأديب المدرك لسرِّ اللغة وحتمية اختيار اللفظ كما يقول الأديب يحيى حقي.
بدأ حياته باحثًا متسائلًا متشككًا في كلِّ شيء، فلما انعتقَ من أسْرِ الطفولة وبدأت تدبُّ في جسمه روح الشَّباب، اتفقت عليه شكوكه وأوهامه ومجتمعٌ ثقافيٌّ كان يعبدُ المادية ويؤثر التَّنكيل بالدين، فعاشَ في غيابةِ الشَّك، وضاع في فيافي الظلام، يقول –رحمه الله-: “إنَّ زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح، وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها، كان هو الحافز، وكان هو المشجع، وكان هو الدافع، وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب، لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي، وأعجبت بومضة النُّور التي بدأت تومضُ في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصَّحوة من مهد الطفولة”[1]، وهذه مرحلة مهمَّة من تاريخه، بل ومن تاريخ جيلٍ بأكمله تجد تفاصيلها في طيات كتبه، لا سيما كتابه “رحلتي من الشَّك إلى اليقين”، ولو أردنا اختزال تلك المرحلة من حياة مصطفى محمود الفكرية لقلنا بقول الشَّاعر كامل الشناوي(ت 1965م): “إذا كان مصطفى محمود قد ألحد، فهو يلحد على سجادةِ صلاة”[2].
وليس الهدف في هذه الإضاءة، الحديث عن تفصيلاتِ حياته، بل الغاية بيان أثره والإشارة إلى ملمحٍ من ملامحِ ذلك الجيل، فلستُ أذكره اليوم إطراءً لما كتب أو مدحًا لقامة من قممِ عصرنا السَّامقة، بل أذكره لأنه علامة مهمة من علامات تاريخنا الثقافي، ودليل بارز من دلائل اهتمامات كثير من شباب تلك الفترة، فهو إشارة صريحة لهذا الجيل أنَّ في أجيالنا السَّابقة محل للاقتداء وفيهم مثال الصبر والتعلم والمجالدة، وأنه لا يجدر بنا أن ننتهب أوقاتنا في التَّفاهة.
وبالعودة لعَلَمِ مقالنا، فحين تقرأ له تشعر أن كتاباته عصارة الذهن، وثمرة العقل، وخلاصة العمر، كان حديثه يحرك الأفئدة القلقة، ويخاطب العقول المتطلعة، فكان متعة النفوس وطمأنينة القلوب وإجابة لما يشكل في عقول الناشئة، وكانت مؤلفاته نجعة كل مريد للعلم باحث عن الحكمة والمعرفة.
وكان علمه حيًّا، فكان يعمد إلى المعارف الجديدة في عصره في مجالات العلوم الطبيعية فيسهم في تقريبها لعامَّة القرَّاء، وهو في نقله هذا صادحٌ بشخصيته معبرٌ عن ثقافته فلم تكن كتاباته يومًا أصداء لغيره، وهذه هو الصوت الحي الذي نرتجيه.
ولو أردت أن أقول في وصفه شيئًا لقلت: إنه كان مرساة الشباب الباحثين عن المعرفة الحقة في موج العلوم المتلاطمة، فكانت كتبه الأكثر مبيعًا وبرامجه الأكثر ذيوعًا، وكان أول المهتمين بتقريب المعرفة المتخصصة لغير المختصين، فكان نجاة وغوثًا.
ومع ذلك، غفر الله له ما أورث الناس من طريقة البحث في الإعجاز العلمي في القرآن، وليت من أتوا بعده وقفوا حيث وقف، واكتفوا بما ذكر، فقد قطعوا مفازات غريبة في هذا الباب، أزْرَت بالدِّين والعلم معًا، وأحسب أنَّ مصطفى محمود لو رأى نتاجهم وكلامهم اليوم، لكان من أبرز المنكرين لفعلهم.
وإن عرفه النَّاس ببرنامجه الأشهر “العلم والإيمان” الذي وصل تعداد حلقاته حوالي 400 حلقة، إلا أنه كان ذا همٍّ نهضوي تنموي، فقد أنشأ “جمعية محمود” تشمل مسجدًا ومستشفى، وله أيضًا المسجد المشهور في القاهرة “مسجد مصطفى محمود” وقد أنشأ تبعًا له ثلاثة مراكز طبية، وكذلك فيه أربعة مراصد فلكية ومتحفًا جيولوجيًا، وهو مع كل ذلك أديبًا يملك أزِمَّة الكلمة، فيدرك بها غايات البلاغة، ومن رواياته رواية “المستحيل”، التي أُنتجت فيلمًا، اختاره النُّقاد من بين أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية في استفتاء سنة 1996م.
فحين يكتب الرواية والمسرحية ترى غايات خيال الأديب، وحين يكتب أبحاثه ودراساته ترى فيه روح العالم وجلد الباحث في البحث والتنقيب، وليس كل ما يردنا من أبحاثه يصادف قبولًا، فله كلام في الإعجاز العلمي لا أرتضي أكثره، وله كلام في الشفاعة لا نقبله، وهذا ديْدَن العلم وسبيل تحصيل الحكمة الإنسانية، فكلٌ يقبل من قوله ويُرد.
وهو مع حرصه على الأسلوب العلمي المتأدب، يقرب لك المعرفة بأسلوبٍ آخاذ، ولغة سهلة، وروح متشككة في أي مسلَمَّة يدعيها العلم سوى الله، يقول في كتابه إنشتاين والنسبية: “الحقيقة المطلقة لا سبيل إلى إدراكها، العلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء، إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشيء في ظروف معينة، ويستطيع أن يكشف علاقاته مع الأشياء، ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو، لا سبيل أمام العلم لإدراك المطلق. العلم يدرس كميات، ولكنّه لا يدرك ماهيات، العلم لا يمكنه أن يعرف ما هو الضوء، ولا ما هو الإلكترون….. والقوانين العلمية أشبه بالإحصائيات التي يمسح بها الباحثون الاجتماعيون المجتمع لتقرير أسباب الانتحار، أو أسباب الطلاق، أو علاقة السرطان بالتدخين، أو الخمر بالجنون، وكل النتائج تكون في هذه الحالة نتائج احتمالية وإحصائية لأنها جميعها متوسطات حسابية عن أعداد كبيرة”[3].
وإن كانت مي زيادة (ت: 1941)[4] قالت إنَّ ذوي المواهب البارزة ينقسمون إلى قسمين: قسم يشذ عن محيطه ويسبق جيله بإدراكه وفطنته وابتكاره، والقسم الثاني: ابن محيطه وابن يومه تتلخص عنده مدركات جماعته وعواطفها فيحدثهم عنها بلهجة بليغة قريبة المنال، فإن مصطفى محمود قد جمع القسمين معًا، فحين حدثت أزمة كتاب الشفاعة في أخريات حياته، وحين أصدر كتابه الله والإنسان في نهاية الستينات، كان من القسم الأول، وحين أنتج كتبه الأخرى وبرنامجه الشهير كان يراوح بين القسمين، فهو معبرٌ عن مدركات جماعته وعواطفها، وهو سابق لجيله بإدراكه وفطنته وابتكاره، وإن لم يضيق عليه هنا كما ضيق عليه في بداية حياته وختامها.
وفي الأستاذ مصطفى محمود ثورة على كل ضعف ينتاب الأمة أو يسيطر على كتابها ومثقفيها فنجده في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم يزري بصنيع الكتَّاب الجدد الذين يكتبون السِّيرة فيجردون النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما هو سماوي غيبي، ويرى أنَّ هذا من مداهنة الكفار ومصنعته وتألفه بالكذب والتزييف، ينزل بالنبي إلى درك السياسيين المغامرين، ويجرده من العصمة والقداسة.
وفي كتابه “رأيت الله” يظهر الأثر الصوفي الكبير في تكوينه الفكري والنفسي، وهو يمتح من معين الصوفي الشَّهير محمد بن عبد الجبار النفري (ت: 354) في المواقف والمخاطبات، ولهذا حديث لا ينبغي له أن يأتي عرضًا، إذ حقه أن يكون غرضًا مستوفيًا حقه من الشرح والبسط في موضع آخر إن شاء الله.
وختامًا: خير ما أنت محصل من كتبه وكلامه الوقار، ففيه وقار العالم، وعظة الصوفي، وأناة العالم، ونباهة العبقري، واستشراف الحكيم الخبير، ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن كتبه ليست الغاية في مجالاتها من العلم، فقصاراها أن تكون مرقاة لمجالات رحبة من العلم، فهو يغرس في ذهنِ القارئ بَدَائِه العلم، وينمي فيه ملكات التفكير والتأمل، ويعزز فيه القدرة على السؤال والاستشكال، فمن يقرأ مصطفى محمود بحقه سيكون باحثًا عن الحقيقة مرتادًا للبحث في المناطق المتقاطعة من المعرفة الإنسانية حيث الإبداع وإمكانات الإضافة العلمية والأدبية.
وما أردنا قوله: إنَّ هذا الكاتب كان جزءًا من حياتنا وفكرنا شكل ملامح فترة مهمة من فترات الأمة، استثمر الناس كتاباته وتسجيلاته في حق وباطل، غير أن هذا لا يضيره فقد كان ملهمًا ومبدعًا ومنتجًا للمعرفة، جدير بكل ناشئ أن يجعل من بعض كتبه عدته لاقتحام دروب المعرفة المختلفة، وأن تكون كتيباته الصغيرة مطيته لبلوغ مراحل متقدمة من العلم والمعرفة، وكفى بمثله دليلًا وحاديًا.
وليس من خاتمةٍ نختمُ بها هذا المقال أجمل من قوله –رحمه الله- : “لقد مررتُ بمراحل كثيرة في حياتي والآن لا أريد شيئًا… فأنا لا أريد أن أقابل الله بصفة الفنان، أو الصحفي، أو المؤلف أو المفكر.. لكن أريد أن ألتقي بوجهه عزّ وجلّ كجندي من جنود كلمة لا إله إلا الله، كخادم لكلمة لا إله إلا الله وأن يتقبلني إنه الغفور الرحيم”[5].
رحمه الله وبلَّ بوابل الرحمة ثراه،
الهوامش:
- رحلتي من الشك إلى الإيمان، مصطفى محمود، دار المعارف، مصر. ص7-8.
- اعترافات مصطفى محمود، محمود فوزي، دار النشر هاتييه، طــ4، صـــ 30.
- أينشتين والنسبية، مصطفى محمود، دار المعارف، طــ7، صــ 27-29.
- وردة اليازجي، لمي زيادة، مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، طــ3، 1980، صـــ15.
- اعترافات مصطفى محمود، محمود فوزي، دار النشر هاتييه، طــ4، صـــ 191.