في عالم يزداد فيه الصخب، وتختلط فيه المصطلحات بالمزايدات، وتُستعار فيه الأدوات الفكرية من بيئات لا تؤمن بالوحي، تقف بعض الأقلام شامخة، لا تكتب من فراغ، ولا تُناور بالعبارات، بل تصوغ وعيًا، وتبني موازين. ومن أبرز هذه الأقلام قلم الشيخ إبراهيم السكران، حفظه الله وفكّ أسره، الذي تميزت كتاباته بسمة نادرة: القدرة على توليد المصطلح بوصفه مفتاحًا لفهم الإشكال، وعدسة دقيقة لرؤية الخلل.
سبك المصطلح، وغرز السؤال
فحين يبتكر مصطلحًا مثل “التسْييس” أو “التوفيد”، لا يفعل ذلك بغرض التأنق اللغوي، بل ليفتح بوابة تأمل جديدة في مشهد تداخلت فيه المعاني وتشوّهت فيه الحدود. هذه القدرة ليست وليدة لحظة إلهام، بل هي ثمرة تشرب طويل لمناهج النظر، وفهم عميق للسياق، ودراية دقيقة بأزمات الفكر المعاصر.
ولأن المصطلحات هي أداة ترتيب للوعي، فإن توليدها على هذا النحو ليس ترفًا لغويًا، بل ضرورة فكرية. وهي علامة على أن صاحبها لا يكتفي بالنقل، بل يمارس النقد، ويجتهد في الإنارة، ويملك شجاعة السؤال.
وحقّ للمؤلف أن يبدأ من سؤال يبدو أكاديميًا في ظاهره، لكنه يخبئ وراءه خيوطًا متشابكة من الإشكالات الكبرى:
ما العلاقة بين التأويل الحداثي للتراث، والاستشراق الفيلولوجي؟
إنه سؤال يُعيد ترتيب المشهد من جذوره، لا ليستفز القارئ، بل لينتشله من السطح إلى العمق، ومن الركود إلى التحفز.
وفي واحدة من أبرز لفتاته، يكشف الكاتب عن العلاقة الخفية بين علم الفيلولوجيا ومشاعر الكراهية القديمة تجاه الإسلام، مجليًا أثر “إرنست رينان”، رائد هذا المسلك، الذي وضع بذرة الشكوك، ونقلها إلى أذهان كثيرة، بعضها لا يدرك أن ما يحمله من مواقف تجاه الإسلام ليس رأيًا حرًا، بل رواسب مدروسة موروثة من أعدائه الأوائل.
ثم تأتي المفارقة العجيبة: أن هذه المناهج الحداثية التي تُروّج اليوم في تفسير النصوص، لا يطمئن لها مبتكروها أنفسهم عند تحليل كلام البشر، ومع ذلك، تُفرض علينا لتُفسر بها آيات الله! وهنا ينتفض السكران ممتلئًا بتقديس الوحي، مشبعًا بسلطته، ممتنعًا من أن يُساق النص الرباني إلى مشرحة المناهج المنهارة، بينما الحداثي – الذي جفّت في روحه جذوة التلقي عن الله – لا يتحرّج من ذلك، بل يطرب له. ومع أن أهل هذه المدارس الحداثية لا يثقون هم أنفسهم بنظرياتهم في تفسير نصوص البشر! فكيف – بالله – نرضى أن نجعلها أدوات لفهم كلام الله؟
تحت المعطف
وعبر هذا المسار التحقيقي، لا ينفك المؤلف يُنبه إلى مناطق خطرة في العقل المعاصر. ومنها تلك المتعلقة بكتابات “تأريخ العلم”، التي – وإن بدت محايدة – فإنها تعيد تشكيل التصورات من باطن، فتخفض من شأن رموز، وترفع من أخرى، دون أن يشعر القارئ أنه خضع لإعادة ترتيب قناعاته.
وهذا المشهد شبيه بما تمارسه اليوم آلات الإعلام الحديث؛ حيث لا تحتاج إلى فرض قناعة بعينها، بل تكتفي بضخ الأخبار والمضامين “بكثرة”، ومع الوقت، تبدأ ملامح وعي المتلقي بالتشكل تلقائيًا، وقد تنقلب قناعاته من حيث لا يدري.
ثم يعود المؤلف ليقدّم واحدة من أنضج الملاحظات التربوية:
إن رقة التدين لا تُنتج عقلًا يقظًا، ولا قلمًا غيورًا، بل تُهيّئ صاحبه لأن يمرر الطعون دون مقاومة، وينقل الشبهات في ثوب “العقلانية”، ويُفسح للعدو في صدر الصف الإسلامي، وهو لا يشعر.
ومن ذلك ما صنعه أحمد أمين حين وقع تحت سطوة المستشرق “مكدونالد”، ليس لسطوة الطرح، بل لأنه أول من قرأ له. وهنا تظهر “شرعية الأسبقية”، حيث تملك الفكرة الأولى في ذهن المرء سلطة تتجاوز منطقية الطرح، وتؤثر في قراراته وسلوكياته وإن ظن أنه مستقل.
وفي عرض متماسك لمدرسة “أنثروبولوجيا الإسلام”، يتضح كيف أن بعض المستشرقين لا يُهاجمون الإسلام صراحة، بل يطلبون منه أن يتنازل عن أشرف ما فيه: عن جهاده، وشريعته، وولائه، وعن شخصيته الجامعة. يريدونه إسلامًا مخففًا، مرقّقًا، معدّلًا على هوى المؤسسات الغربية، لا إسلامًا يعتز بنبوته، ويقود العالم من جديد.
من هنا، يُحذر الشيخ بأدب العالم ويقظة الداعية: ألا نغتر بالابتسامات الناعمة التي تطلب منا “تنازلات فكرية” باسم العقلانية والاندماج. فإن من أعظم واجبات المسلم اليوم: أن يثبت على ثوابته، ويزن كل دعوة بعين الوحي، لا بعين السوق.
وفي فصول نقد “الشكوكين”، يكشف الكاتب كيف أن بعض الجدل المعرفي المعاصر ليس بحثًا عن الحقيقة، بل مزايدة، أو شغفًا بإثارة الغبار، أو محاولة لصناعة حضور شخصي على حساب الهدوء العلمي.
السلطان الأعلى
وما من فصلٍ من فصول هذا الكتاب، إلا ويُعيد فيه الشيخ القارئ إلى الأصل القرآني، فلا يكتفي بعرض الإشكالات الفكرية في بعدها الظاهري أو السياقي، بل يردها إلى جذورها العقدية، ويكشف الغطاء عن المشهد كله بمنظار الوحي. كأنما يقول للقارئ: هنا المنبع، وهنا الميزان، وهنا نور الهداية.
فالذي يظن أن المعركة الفكرية اليوم مع مناهج التأويل، أو مدارس الفهم الحداثي، أو أطروحات الليبراليين العرب، هو في الحقيقة لا يرى إلا القشرة. أما لبّ المعركة، فهو ما حكاه الله جلّ وعلا منذ قرون:
(وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).
هي هي، ذات المناهج، وإن تبدّلت الأزياء، وتبدّلت الألسن، وزُيّنت العبارات بطلاء “الحرية”، و”الاختلاف”، و”العقلانية”.
إنها المحاولة القديمة الجديدة: تعطيل سلطان الوحي، وتمرير الغلبة لا بالحجة، بل بالتشويش واللغط والتشكيك.
وفي مواجهة هذا المشهد المعقد، لا يقدّم الشيخ مشروعًا خصاميًا، ولا يكتفي بموقف دفاعي، بل يعيد ترتيب العلاقة بين النص والواقع، بين الفكر والإيمان، بين السجدة والفكرة، ليضعنا أمام مدرسة متكاملة، عنوانها: الرجوع إلى القرآن، لا مجرد الحديث عنه.
مدرسة السكران – كما تتجلى في هذه الفصول – ليست اجترارًا لعلوم محفوظة، ولا استعراضًا لموسوعات غربية، بل قراءة ناقدة تنطلق من محراب الوحي، وتمتد إلى فضاءات الفكر الحديث، بوعي يحسن التفكيك، ويملك الشجاعة للربط، والقدرة على الترجمة بين العالمين: عالم الإيمان، وعالم الأفكار.
إنها مدرسة لا ترى في القرآن مجرد مرجعية ماضوية، بل تراه قائدًا للوعي، ومبصرًا في معترك التغريب، وبوصلة لا تضلّ، مهما ارتفعت أصوات الحداثة، وتكاثرت سُحب التشويش.
وهذا – والله – ما نحتاجه اليوم في زمن الغربة والبلبلة:
أن نرجع إلى الوحي، لا رجوعًا عاطفيًا مبتورًا، ولا رجوعًا تنظيريًا باردًا، بل رجوعًا كاملاً يشمل القلب والعقل، رجوعًا يورث الخشية، ويوقظ الفِكر، ويثبت القدم، ويصنع الموقف.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، فهمًا وتدبرًا، علمًا وعملاً، وبارك في أقلامٍ أعادت للأمة وعيها من مشكاة النبوة، ونبّهت الغافلين إلى سلطان الوحي، وفتحت للناس أبواب الرجوع قبل أن تُغلق.
فك الله أسره. رجل مبارك.
فك الله أسره. رجل مبارك.