ليس المهم أن نطلق على نتائج طوفان الأقصى (نصرًا أم هزيمة) فهذا توصيفٌ للنتائج التي لا تستطيع أن تؤكدها أو تنفيها أقوى جيوش الأرض.
أهل فلسطين ليسوا مطالبين (بالنتائج) بقدر ما هم مطالبين بـ (الإعداد واتخاذ الأسباب)، وقد فعلوا ذلكَ بامتياز، وفاجأوا العالم بقوة تدريبهم وتكتيكهم العسكري، وتفوقهم التقني، وسوف يتم فتح بحوث في الكليات العسكرية تتعلق بهذا الطوفان الذي غَمَرَ العالم، وليسَ أرض فلسطين وحدها!
من الناحية الفقهية: لا ننسَ أنَّ قضيةَ فلسطين هي قضية كل مسلم على وجه الأرض، حيث هو مطالبٌ بدفعِ الاعتداء والاحتلال للأراضي المقدَّسة، يقول العلامة ابن القيم (ت 751ه) في كتاب “الفروسية ص: 188”: (فقتال الدَّفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوبا ولهذا يتعين على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه العبد بإذن سيده وبدون إذنه والولد بدون إذن أبويه والغريم بغير إذن غريمه وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين فكان الجهاد واجبا عليهم لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار).
أما من النَّاحية التاريخية والفعل المجتمعي: فإنَّ الثورات ضد المحتل تبدأ صغيرة ثمَّ تكبر، وتصاب بنكباتٍ ثمَّ يشتدُّ عودها، إلى أن يأذن الله بجلاءِ الاحتلال. وهذا ما حصل في الثورات العربية ضد الاحتلال الأجنبي. عبر التاريخ، شهد العالم العديد من الثورات وحركات المقاومة التي حققت أهدافها رغم الصعاب. على سبيل المثال، الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وكفاح الهند من أجل الاستقلال بقيادة غاندي، والمقاومة الفلبينية ضد الأمريكان. هذه الثورات تظهر كيف يمكن للإصرار والتوحد أن يحدثا تغييرًا حتى في أصعبِ الظُّروف.
فاتورة الحرب:
بالنَّظر في لائحة المصالح والخسائر في هذه للحرب للجانبين، سنجد أنَّ هناك عددًا من المصالح كسبتها المقاومة الفلسطينية، وعددًا من الخسائر مني بها الطَّرف الإسرائيلي، لن نتحدث عن خسائر المقاومة، لأنها معلومة، ولن نتحدث عن مصالح الكيان الغاضب لأنها معلومة أيضًا، مع ملاحظة أنَّ أعظم مصلحة للكيان هي التمكين له في الأراضي المقدسة، وهذه المصلحة بدأت بالتزعزع كما سنرى.
المقاومة الفلسطينية حققت عدة مصالح في حرب الطوفان، وهذه بعضٌ منها:
1. تعزيز الهويَّة الوطنية والإسلامية: المقاومة الفلسطينية أسهمت بشكل كبير في تقوية الهوية الوطنية والتمسك بالحقوق الفلسطينية والتراث الثقافي في وجه محاولات التهميش والإقصاء. وقد برز ذلك جليًّا في تفاعل العالم وانتشار لبس الزي والشَّال الفلسطيني. بل وأكثر من ذلك، فقد اجتاحت موجة ثقافية الشباب الغربي للتعرف على الإسلام، الذي يصنع مثل هذا الصُّمود الأسطوري.
2. لفت الانتباه العالمي: استطاعت المقاومة جذب انتباه المجتمع الدولي إلى القضية الفلسطينية، مما أدى إلى زيادة الوعي بالصراع وظروف الفلسطينيين وحقوقهم. وقد برز ذلك واضحًا في حجم المظاهرات العالمية التي لم يسبق لها مثيل. ومن اللافت بروز الحركات اليهودية المناهضة للصهيونية العالمية والاحتلال.
3. الدعم والتأييد الدولي: نجحت المقاومة في كسب دعم وتأييد عدد من الدول والمنظمات الدولية، وكذلك من المجتمع المدني والحركات الشَّعبية حول العالم.
4. تحقيق الانجازات العسكرية: في مواجهات مختلفة، تمكنت المقاومة من إظهار قدرة عسكرية وتكتيكية متطورة، مما أثبت قدرتها على الصُّمود والرد على الاعتداءات. ولم نسمع إلى الآن عن قدرة الاحتلال على أسر فرد واحد من المقاومة التي يناهز تعدادها خمسين ألف عنصر!
5. إعادة تشكيل النَّظرة إلى الصِّراع: أسهمت المقاومة في تغيير الصورة النمطية عن الشعب الفلسطيني، من مجرد ضحايا إلى شعب يقاوم ويناضل من أجل حقوقه، ومعَ الانحياز الكبير لوسائل الإعلام الغربية ضد المقاومة، إلا أنَّ القضية الفلسطينية استطاعت أن تنفذ إلى العالم عبر الشُّقوق الصغيرة في وسائل التواصل كمِنصَّة إكس وتيك توك، وقناة الجزيرة.
6. إحياء الروح المعنوية والإصرار: المقاومة أعطت الشَّعب الفلسطيني الأمل وأحيت الروح المعنوية بأنَّ النضال ممكن وأنَّ العدالة يمكن تحقيقها. وقد شاهد العالم تحية الجرحى الفلسطينيين ورفعهم شارة النصر وهم تحت الأنقاض. كما شاهدوا قوة وثبات الأسر والعائلات الفلسطينية، مما جعل العالم يتساءل: هل هؤلاء بشر مثلنا؟!
7. تحفيز الحركة السِّياسية: أدت المقاومة إلى تنشيط الحركة السياسية الفلسطينية وحثت القيادات السياسية على اتخاذ مواقف أكثر حزمًا في مواجهة الاحتلال، ورغم المواقف المخذلة للسُّلطة الفلسطينية، إلا أنَّ تداعيات هذا الأمر لم تنته بعد.
8. توحيد الصَّف الفلسطيني: في هذه المعركة توحدت الفصائل الفلسطينية المختلفة حول أهداف مشتركة، على الرغم من التَّحديات والاختلافات. وكانت على قلبِ رجلٍ واحد.
أما على الطرف الآخر، فقد تكبَّد الكيان المحتل خسائر في عدة جوانب، ومن أبرزها:
1. الخسائر البشرية والمادية: تكبَّد الكيان المحتل خسائر بشرية بين الجنود والمدنيين، إضافة إلى الأضرار المادية النَّاجمة عن الصواريخ والهجمات، بحيث لم يسبق لها أن تلقت مثل هذه الضربة الموجعة منذ 1948 ومن المعلوم أنَّ الاحتلال يتكتم على الأرقام الحقيقية للضحايا والخسائر لئلا ينهار ما تبقى من معنويات الشَّعب والجنود.
2. التأثير النفسي والاجتماعي: الصراعات المستمرة أثرت على الوضع النفسي والاجتماعي داخل إسرائيل، مما أدى إلى تزايد الشعور بعدم الأمان والتوتر بين المواطنين. ورحل كثير من المواطنين بالفعل، ومن المتوقع أن تتزايد الهجرة بعد توقف الحرب، وهذا يشكل تهديدًا وجوديًّا للكيان المحتل.
3. السمعة الدولية والعزلة السياسية: تدهورت صورة إسرائيل دوليًّا بسبب الانتهاكات المزعومة لحقوقِ الإنسان واستخدام القوة المفرطة، مما أدى إلى زيادة الانتقادات الدولية والعزلة السياسية. وهناك مبادرات عالمية لمحاكمة مجرمي الحرب.
4. الأمن القومي والتَّحديات العسكرية: واجهت إسرائيل تحديات عسكرية متزايدة من قبل المقاومة الفلسطينية، مما أجبرها على إعادة النظر في استراتيجياتها الأمنية والعسكرية. وقد أذهلت المقاومة العالم في التَّخطيط والتكتيك العسكري، والأهم من ذلك هو قدرتها على تجاوز الحواجز التقنية التي يفخر بها الكيان الصهيوني وبدعم من أقوى دولة في العالم.
5. الاقتصاد والتَّكاليف المالية: الحروب والصراعات المستمرة أثرت سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي، من خلال تكاليف الحرب والأمن المرتفعة، إضافة إلى التأثير على السِّياحة والتجارة. والملف الاقتصادي قد يؤدي إلى مزيد من تدهور سعر الشيكل، والتأثير على طبيعة الاستقرار والرفاهية في الكيان المحتل، وسيكون عاملًا طاردًا للمستوطنين لا عاملَ جذب.
6. الوحدة الوطنية والسياسة الداخلية: تسبب الصراع في توترات داخل المجتمع الإسرائيلي وأدى إلى تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية. ومن المتوقع أن يتم محاكمة نتنياهو وحكومته عقب انتهاء الحرب بقضايا فساد، فضلًا عن النتائج الكارثية لهذه الحرب.
7. العلاقات مع الدول العربية والمسلمة: أثرت الصراعات على العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية والإسلامية، خاصة تلك التي تعتبر القضية الفلسطينية قضية محورية. وجمدت ملف التطبيع إن لم تكن قد قضت عليه تمامًا.
في النهاية، الصراعات المستمرة وتبعاتها تشير إلى حقيقة أن الحلول العسكرية وحدها لا يمكن أن تكون كافية لتحقيق الأمن والاستقرار المستدامين في المنطقة.
الخلاصة: لا ينبغي النَّظر إلى النتائج بمعزل عن البدايات والأسباب، فجهاد أهل فلسطين جهاد مشروع من الناحية الفقهية، ومن ناحية الفعل الاجتماعي، ومن ناحية فاتورة المصالح والخسائر، وبالتالي لا يمكن المزايدة على جهادهم، سواء كانت النتائج ثقيلة أم خفيفة، لأنَّ القتل والتدمير واقع فيهم منذ 1984م، وبدلًا من أن يكون القتل بالتقسيط بدون رد فعل، فليكن بالجملة مع رد الفعل الذي سيضع حدًّا لهذا الاحتلال، ويؤثر في مسارات القضية برمتها.
المطلوب: أن نضمد جراح أهل غزة، بدلًا من توجيه اللوم لهم، فهم أحرى وأجدر بالافتخار والفرح، لا بالتخذيل والتهوين. ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس ٥٨].
نسأل الله أن يرحم الشهداء، وأن يشفي الجرحى، وأن يربط على قلوب أهل فلسطين أجمعين.
