المدونة

هل نفرح بالنصر في غزة ؟!

أمام وحشية وهمجية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأمام تكرار نقضه لاتفاقياته وعهوده، وخرقه لأي اتفاقية سلام، وأمام جبروت العالم المادي الذي وقف حصنًا يدافع عن القاتل ويُلمِّع وجهه الوحشي، يأتي توقيع أول مرحلة لوقف الحرب في غزة كضماد يُخفِّف عن الغزيين دماءهم النازفة، ويمنحهم فسحة أمل يتنشّقون من خلالها بعض هدوء طال انتظاره على مدى عامين، ويستعيدون بها رباطة جأشهم التي أثبتت صلابتها وأصالتها وفرادتها.
لا تزال دماء الشهداء طرية فوق أنقاض كانت مدنًا وأحياءً عامرة، ولا تزال أضرحة القبور مبتلة لقرب عهد دفنهم، ولا تزال قوائم الأسماء – من أطفال ونساء، وصحفيين، وأطباء، وشباب، وفتيات، ومجاهدين – تزدحم عن بَكْر أبيها في ذاكرة الأيام.
ولا يزال ضمير العالم فزعًا من مشاهد دموية لم تَحدُث قط في تاريخ الإنسانية، كما لا يزال يقِظًا يُحرّك سفنه وصوته لتقديم أقل ما يمكن لوقف الحصار في غزة.
ولا يزال الصراع قائمًا بين الحق والباطل رغم توقيع الاتفاقية، إذ لا يزال الظالم يناور ليبحث عن مخرج يستر به عورة فشله، رغم تقدّمه بالوسائل المادية، ولا يزال أصحاب الحق متمترسين بقيمهم ورؤاهم، متمسكين بعقيدتهم وحقهم، لا يضيرهم دعم صديق أو تخاذله.
لكن، هل انتصرت غزة حقًّا؟!
ماذا بقي فيها ليُحتفل بالنصر؟! ماذا بقي فيها غير جراح مفتوحة، ودمار مهول، وفجائع لا تطيقها ذاكرة التاريخ ولا سعة التحمّل؟!
هل انتصرت حقًّا وقد خسرت المقاومة فيها ما خسرت من قياداتها؟!
وهل يمكن لبنود الاتفاقية أن تُصلح ما دمّره جبروت المادية الأمريكوصهيونية؟
ثم، من يُعيد للأم أطفالها؟ ومن يُعيد للأطفال والديهم؟ ومن يُعيد للحياة في غزة طبيعتها السالمة؟!
حتى وإن استُبدلت البنايات والطرق، وحلّ السلام السياسي، سيبقى وجع هذه الحرب خالدًا في ذاكرة الغزيين، وفي ذاكرة العالم.
كثيرةٌ تلك التساؤلات التي تؤرّق المرء وتُفسد عليه فرحته العابرة بهذه الاتفاقية، وكثيرةٌ تلك المشاعر المتضاربة بين فرحٍ لحقٍّ استُحق، وحزنٍ لم يتوارَ بعدُ عن فقدِ قيادات خالدة، لكأنّها جاءت من تاريخ عزّتنا كأمةٍ مسلمة، ولم تعِش قط في زمن الخنوع والذلّة هذا!
رغم تلك التساؤلات المُؤرِّقة، والمشاعر المتضاربة، تطلّ علينا آية من سورة الروم، تُعيد فينا إحياء معاني النصر وأُسُسه، وتُزيح عنّا وهم التشكك والخوف والتردّد.
يقول الله عز وجل: ﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ﴾ (سورة الروم: 4). من يتأمل في هذه الآية يجد حلاوة الطمأنينة، ويدرك أن القَرْح ما أصاب القوم وما أصابنا إلا ليوقظ فينا معانيَ قتلتها ثقافةُ السلطةِ الماديةِ الغالبة، إلى درجة أننا تعلّقنا بالأسباب ونسينا ربّ الأسباب، وظننا أن القوم أقدموا على فعل متهور، إذ لم يوازنوا بين الممكن والمعقول.
لكن في حقيقة الأمر، لم يتهوّر القوم، بل أعادوا ترتيب أبجديات حروف الإيمان في ضمائرنا، وأعادوا لنا تعريف القضية الفلسطينية بعد أن تحولت إلى خيال مآتة، يتحجج بها كل صاحب سلطة أو طَمَع، كما أعادوا رسم الخرائط ليتجاوزوا سايكس بيكو، ويضمّوا قطاعات عالمية ربما لم تسمع من قبل عن القضية الفلسطينية أو عن الهزل العالمي القائم فيها.
توقيع هذه الاتفاقية – وإن بدا مجرّد ضرورة لوقف الحرب – إلا أن في حقيقة الأمر يوم نصرٍ عظيم، يومٌ انتصرت فيه قيمُ العدالة والإنسانية، ويومٌ انتصرت فيه عقيدةُ المسلم، عقيدةٌ تقوم على قاعدة:
﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ (سورة الأنفال: 60)، كما تقوم على قاعدة: ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ (سورة آل عمران: 160).
وهي عقيدةٌ أثبتت قوات النخبة – التي نفّذت عملية السابع من أكتوبر – أنها قواعد واقعةٌ صارمة، تتفوّق على القوانين السببية، وتتفوق على العُدّة والعتاد، وتتغلّب على خرائط القوانين الوضعية وتهديدات قدرات القوى المادية المتغلبة، لتُصبح تلك الثلة القليلة غالبة في المشهد السياسي والعسكري والإنساني.
كما يُعَدّ توقيعُ هذه الاتفاقية يومَ نصرٍ لمفهوم الشجاعة؛ ذلك المفهوم الذي اختُزِل في بُعدٍ ماديٍّ مُسطَّح، روّجت له الثقافة الاستهلاكية بشخصياتٍ خيالية، بدءًا من سوبرمان، إلى سبايدرمان، وغيرهم من الشخصيات التي تُغذّي روح الخيال لدى المشاهد وتُلغي قدرته على تخيّل إمكانيات قدراته.
بدا أبطال السابع من أكتوبر كشخصيةٍ خرافية، وهي مُتشحِّة بشجاعتها وإقدامها، ورغم افتقارهم للأدوات، بدَوا مُستكفِين بإمكانياتهم التي تندرج ضمن قاعدة: ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ (سورة الأنفال: 60)، لتسقط أقنعةُ الزيف التي تعلو وجوهَ كلّ القادة العرب بشكلٍ خاص، وكلّ المسلمين بشكلٍ عام؛ فالوُسْع يحتمل كلّ الإمكانيات إذا صدقت النية.
تلك الشجاعةُ أحيت في ضمائرنا مقولةَ خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي قال على فراش موته: حضرتُ كذا وكذا زحفًا في الجاهلية والإسلام، وما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وها أنا ذا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء.”
مقولةٌ جسّدها أبطالُ غزة بإقدامهم ابتداءً، وصمودهم واستبسالهم، وعدمِ تردّدهم أو تنازلهم عن حقّهم رغم إتاحة الفرصة واشتداد الأمر عليهم؛ وهو استبسالٌ وصمودٌ يُسقط حجج الجبناء، ويُثبت أن السلامة والسِّلم لا يكونان إلا في الإقدام، وأنّ الضعف والخَوَر لا يوقِف عدوًّا ولا يُنقذ أمةً.
هل ينبغي أن نفرح بهذا النصر المؤقت، في حين أن جُلّ الأرض لا تزال منهوبة؟!
نعم.
من واجبنا أن نفرح بنصر الله، النصرِ الذي خُضِّب بالدم، وسطّر أمثلةَ العزّة في زمن الذلّ؛ نصرٌ يُبشّر بنصرٍ قادمٍ بإذن الله، وما استبسالُ القوم إلا خطوةٌ في إحياء النموذج الذي نفتقده ونتطلّع إليه.
وعسى أن تكون هذه الاتفاقية هدنةً تُشبه صلح الحديبية؛ صلحٌ كان ظاهرُه علوّ مَن كانت سلطته غالبة، لكن تمرّ الأيام لتُثبِت أن الله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نفرح بهذا النصر لأنه أعاد ترتيبَ المشهد برمّته، وأعاد صياغةَ الرواية الفلسطينية، ليس بلسان مُغتصبها، بل بصوتِ صاحب الأرض؛ صاحبِ الأرض الذي بقي واستمات وهو يُدافع عن حقّه وأرضه، واستبسل في الدفاع عن كرامة أُمته بأفرادها الكثر في شتّى أنحاء الأرض، وكلما زاد الضغط عليه ازداد استبسالًا وشموخًا.
نفرح بهذا النصر لأنه أعاد إلينا حاسّة الإيمان، الحاسّة التي نتميّز بها على غيرنا من الأمم؛ وهي حاسّة لا ترتبط بالحواسّ الفطرية فقط، بل ترتبط بالمعاني السامية التي تُحرّك تلك الحواس، والتي تنسجم مع مقدّرات وسعةِ الكونِ المخلوق، وتَدرِك – دون شكّ أو تردّد – أن الكونَ، بقوانينه السببية، مخلوقٌ مُسخَّر لصاحب الحق ولصاحب القضية ابتداءً؛ فالله لا يُحبّ الظالمين، فكيف إن كان صاحبُ القضية مؤمنًا متوكّلًا مُقدامًا؟
لله دَرُّكم قادتَنا، لله دَرُّكم يا من أعدتُم إحياءَ قيمٍ وبطولاتٍ – لطول عهدنا بها نسيناها، وظننّا أنها حكايا من التاريخ، وظننّا أننا بعيدون عنها كلّ البعد – إلى درجة أن ظهوركم في واقعنا عُدَّ شُهبًا فوق سماء دهشتنا؛ لكن أثرَ التماعِكم لن يزول، بل سيبقى أثرُه خالدًا يُلهب في أفئدتنا ألفَ التماعٍ لمَعركةٍ قادمة بين حقٍّ وباطل، وبين عدلٍ وظُلم، وبين إيمانٍ وكُفر.

إلهام الحدابي

إلهام الحدابي باحثة - وحدة الدراسات والأبحاث في مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى