
جاء الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى – سير أعلام النبلاء: ” ذُكر معروف الكرخي عند الإمام أحمد فقيل: قصير العلم. فقال الإمام أحمد: أمسك وهل يراد من العلم إلَّا ما وصل إليه معروف؟[1].
ومعروف الكرخي هو : أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي كان من المشايخ الكبار، سكن بغداد ومن جملة المشايخ المشهورين بالزهد والورع والتقوى أحد علماء أهل السنة والجماعة، وصفه الذهبي بـ “علم الزهاد بركة العصر صحب داود الطائي ، وسكن بغداد , مجاب الدعوة “
قال عنه إبراهيم البكار: كان رضى الله عنه من السادات الأجلاء، وشيخاً عظيماً مبجلاً، وكان كلامه حِكماً وعِبراً، كلامه في الزهد والتصوف أخذ بالقلوب، وأثرت مواعظه في أفئدة الرجال، ترى في كلامه عبارات إنسان عاقل .[2]
ولأن ثمرة العلم الحقيقة هي معرفة الله والتقرب إليه وتعريف الناس به وتعلق الناس بربهم وعبوديته له
وهي الفارقة بين العارف بالله والسائر إليه والسالك في طريقه وبين غيره.
وتأمل معي هذا الكلام الرصين للإمام العارف ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن الطريق إلى معرفة الله ودونك حال الشيخ المقرمي رحمه الله – وقد أفضى إلى ربه – كيف بدأ وكيف سار وإلى ماذا وصل إليه حاله فاقرأ كلام ابن القيم واستحضر حال المقرمي منذ بدأ تحوله نحو التعبد والمعرفة .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى :
• معرفة الله سبحانه نوعان:
الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس؛ البر والفاجر، والمطيع والعاصي.
والثاني: معرفة تُوجب الحياءَ منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم، وتفاوتُهم فيها لا يُحصيه إلا الذي عرفَهم بنفسه وكشفَ لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم، وكلٌّ أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقامه وما كُشِفَ له منها، وقد قال أعرفُ الخلق به: “لا أُحصِي ثناء عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك”، وأخبر أنه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن.
• ولهذه المعرفة بابان واسعان:
باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله.
والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة، وتأملُ حكمتِه فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه.
وجِماعُ ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر؛ فيكون فقيهًا في أوامره ونواهيه، فقيهًا في قضائه وقدره، فقيهًا في أسمائه وصفاته، فقيهًا في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].[3]
وكأني بالشيخ المقرمي رحمه الله طرق البابين وخرج منهما بالمعرفة التي وصل إليها : باب التفكر والتأمل في الآيات القرآنية، وباب التفكر في الآيات المشهودة ( الكونية ) وما قصة مكوثه الليالي الطوال مستلقيا ينظر إلى السماء إلا دليل على ذلك والله أعلم.
وهل يراد من العلم إلا معرفة الله وخشيته ومحبته وتحبيبه إلى خلقه ودعوة الناس إليه وجعل تعلقهم به وحده سبحانه وقطع تعلقهم بغيره من الخلائق والوسائط ؟!!
وهو ما كان ديدن الشيخ المقرمي رحمه الله وفحوى كلماته وخواطره.
والعارفون بالله السائرين إليه منازل المعرفة والقربات تتشابه أحوالهم وتتوافق مواقفهم مهما تفرقت بهم الأماكن بل وتباعدت بهم الأزمنة
بين يديك جملة من أقوال العارف بالله معروف الكرخي الذي توفاه الله في نهاية القرن الهجري الثاني وما أخالك إلا قد مرت عليك أقوال ولفتات الشيخ المهندس محمد المقرمي رحمه الله وستجد وكأنها خرجت من مشكاة واحدة وانبعثت من منبع واحد ألا وهو معرفة الله والسير إليه
من أقوال الكرخي رحمه الله :
- ما أكثر الصالحين، وأقل الصادقين في الصالحين.
- توكل على الله عز وجل حتى يكون هو معلمك وموضع شكواك، فإن الناس لا ينفعونك.
- الدنيا أربعة أشياء: المال، والكلام، والمنام، والطعام. فالمال يطغي، والكلام يلهي، والمنام ينسي، والطعام يسقي.
- من كابر الله صرعه ، ومن نازعه قمعه ، ومن ماكره ، خدعه ، ومن توكل عليه منعه ، ومن تواضع له رفعه .
- كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله
- إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح عليه باب العملِ، وأغلق عنه باب الجَدل. وإذا أراد الله بعبدٍ شراً، أغلق عنه باب العملِ، وفَتح عليهِ باب الجَدلِ.
- السخاء إيثار ما يحتا ج إليه، عند الإعسار.
- قيام الليل نور للمؤمن يوم القيامة يسعى بين يديه ومن خلفه وصيام النهار يبعد العبد من حر السعير.
- وقال حين سئل: ما علامُة الأولياء؟ فقال: ثلاثٌة: همومهم للهِ، وشغُلهم فيه، وفَرارهم إليه[4]..
حفظ الله لعبده المقرمي بعد وفاته :
نحسب الشيخ المهندس محمد المقرمي توفي على حسن خاتمة والله حسيبه فقد رجع من رحلة دعوية علمية نثر فيها ما فتح الله به عليه وسجلت له حلقات ومجالس مختلفة ثم انطلق إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا لمسجدها ومسلما على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه وعلى أهل البقيع ثم عاد إلى مكة معتمرا ولم تمض ليلته ويطلع فجره يومه الثاني إلا وروحه قد صعدت إلى باريها فكانت خاتمة حسنة في ما ظهر وأمره إلى الله.
والله سبحانه تعالى يكرم أوليائه أحياء وأمواتا ومما نظن أنه أكرم به عبده المقرمي بعد وفاته أمران ظاهران:
الشهرة بعد وفاته :
الشهرة العابرة للقارات التي حصلت للشيخ من خلال المقاطع المسجلة منذ سنوات لكن انتشارها بعد موته شيء يفوق الحسابات والمنطقيات فقد انتشر علمه وكلامه بشكل غير عادي ومن مناطق وجنسيات وبلدان مختلفة ومن لطف الله به أن كانت بعد وافته فلا خوف عليه ولا على إيمانه وإخلاصه من انتشارها بل نقطع جازمين أنها ثمرة إخلاص كان يرافقها يوم تسجيلها فحفظها الله وإن مات صاحبها والله أعلم.
مكان دفنه ووفاته:
إن مثل هؤلاء العارفين الصالحين قد يقع نحوهم من بعض المحبين لهم غلو في محبتهم فيجعل في جنازته نواحا ومن قبره مزارا أو على الأقل يقع حوله ما لا يرضاه الشيخ لنفسه فقد كان ديدنه ربط الناس بربهم لا بأشخاص وليس شيء أشد عليه من تَعلق الناس بغير خالقهم فقد حماه الله من هذه المصيبة فتوفي في غير بلده وبدون مقدمات صحية ودفن في مقبرة يستبعد أن يصل إليها من يريد أن يجعل من قبره مقصدا.
وإنها والله لكرامة يكرم بها الله من يشاء من عباده ويعصم بها من يشاء من خلقه ونرجو أن يكون الشيخ محمد ممن نال ذلك.
رحم الله الشيخ المهندس محمد المقرمي بقية العارفين وعلامة السائرين وآية الله في المتأخرين بأن الطريق مازال مفتوحا والسير فيه ممكن.
ونفعنا الله بعلمه وجمعنا به في جنات النعيم.
وصلى الله وسلم على نبينا الكريم وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
- سير أعلام النبلاء – ط الرسالة (9/ 340)
- https://tarajm.com/people/10129 وفيه شي ء من ترجمة معروف رحمه الله وأقواله .
- الفوائد لابن القيم – ط عطاءات العلم (1/ 248)
- مرجع سابق
- سير أعلام النبلاء – ط الرسالة (9/ 339)
