بقلم: فرانك فوريدي [1]
ترجمة: أحمد جمال أبو الليل
العنوان الأصلي للمقال Bookish Fools ونشر في مجلة Aeon في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2016
إنه السبت، الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2014. وفيما أنا أتصفح هذا الكتاب وذاك في “بارنز آند نوبل” في “نيويورك سيتي” إذ تجذب انتباهي مجموعة من كتب أنيقة متقنة الصنع. أمعنت النظر لأجد أنها جزء مما يُعرف بـ “سلسلة الكلاسيكيات ذات الأغلفة الجلدية”، حيث أخبرني أحد العاملين بالمكتبة أن هذه النماذج الرفيعة لتسهم في “تزيين مجموعتك الكتبية” ومنذ ذلك الحوار، تعن لذاكرتي بين الحين والآخر أن الكتب -لكونها رمزًا للرقي الثقافي- تعني الكثير. وأنه على الرغم من أنه قد أريد بنا أن نحيا في عصر رقمي، فإن الدلالة الرمزية للكتاب لا تزال تحظى بتقدير حضاري. لهذا، فحين يُجرى معي حوار تلفزيوني في بيتي أو في مكتبي بالجامعة، يُطلب إليّ الوقوف وخلفي مكتبتي والتظاهر بأنني أطالع أحد الكتب التي تحويها.
منذ اختراع الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين نحو العام 3500 قبل الميلاد، والكتابة الهيروغليفية في مصر نحو العام 3150 قبل الميلاد؛ والقارئ الجاد للنصوص المكتوبة يحظى بتقدير ثقافي. إن الألواح الطينية التي نُقشت عليها رموز وعلامات شتى، تلك التي صاغتها يد الإنسان، لتُعّد أعمالًا فنية قيمة، بل في بعض الأحايين مقدسة. فالقدرة على فك طلاسم تلك الرموز والعلامات وفهم ما تعنيه قد عُد إنجازًا خارقًا فذًا. إن الهيروغليفية المصرية قد نُظر إليها على كونها تملك قوى سحرية، وإلى يومنا هذا، فإن قرّاء كثرًا ليعدّون الكتاب أداة للحصول على خبرة رُوحانية. ونظرًا لما للنصوص المكتوبة من دلالات رمزية، فإن ما يقرؤه الناس والكيفية التي يقرأون بها ليُنظر إليهما على نطاق واسع على أنهما ملمحان مهمان من ملامح هُويتهم. وعلى الدوام، فقد ظلت القراءة رمزًا يميز الشخصية، وهذا هو السبب في أن الناس على امتداد التاريخ قد عمدوا إلى الاستثمار في موارد ثقافية عديدة وأحاسيس شتى في تكريس هوياتهم كعاشقين للكتب.
وفي بلاد الرافدين قديمًا، حيث فئة قليلة فحسب من الكتبة قد كان باستطاعتها فك رموز الألواح المسمارية، حظي أولئك الذين أدركوا كُنه العلامات باحترام جم وتبجيل بالغ. وفي ذلك الحين من الدهر، كانت ثمة إشارة من الإشارات الباكرة الدالة على ما كان القارئ يحظى به من مكانة ونفوذ. ومن خلال احتكار ما لديهم من معرفة سحرية، عمد أولئك الكتبة الطموحون إلى حماية نفوذهم الثقافي كقرّاء على نحو أثار حسد من عداهم.
في القرن السابع قبل الميلاد، حين كُتب “سفر التثنية” من “العهد القديم” تحت رعاية الملك “يوشيا” في أورشليم، رُسمت الحدود عاليًا لتبلغ رفرف الجوزاء فيما خص توقير الكتاب وتبجيله. وقد استخدم “يوشيا” اللفائف المكتوبة بواسطة “التثنويين” لتغليظ ميثاق بين اليهود والرب – وفي استراتيجية سياسية ملهمة، لإضفاء الشرعية على إرثه وأحقيته للأرض.
أما في عصر الرومان، بدءًا من القرن الثاني قبل الميلاد، فقد أهبطت الكتب من عليائها في السماء إلى الأرض حيث عُدّت سلعًا ترفيهية ترفد حائزيها الموسرين بمكانة ثقافية رفيعة. وقد أطلق الفيلسوف الروماني “سينيكا”، الذي كان يحيا في القرن الأول الميلادي، سهام تهكمه وسخريته على الولع الشديد بالعرض المغالى فيه للكتب، شاكيًا من أن “أناسًا كثرًا ممن لم يتحصلوا على تعليم مدرسيّ ليستخدمون الكتب؛ لا كمادة للدراسة، بل كزينة يزينون بها حجرات تناول الطعام”. وعن ذلك الذي يجمع اللفائف بنَهَم وإسراف، يكتب “سينيكا” أن “المرء ليرى الأعمال الكاملة للخطباء والمؤرخين على أرفف ترتفع حتى تكاد تبلغ سقف الحجرات، ذلك لأنه بمثل مطارح الاستحمام بالبيوت، قد أضحت المكتبة حلية لا غنى عنها في منازل الأغنياء”.
إن عداء “سينيكا” لجامع الكتب المولع بالتفاخر والتباهي قد كان مرده، على الأرجح، بغضه الشديد لهوس القراءة الموجهة لجمهور العامة، وهو الهوس الذي أصاب الإمبراطورية الرومانية في بواكير نشأتها. إذ شهدت تلك الحقبة بزوغ القراءة الجهرية للأعمال الأدبية على أيدي مبدعيها من كتاب وشعراء، والتي عدّها كثير من المواطنين الموسرين فرصة للترقي الذاتي. وقد نظر “سينيكا” إلى تلك الاستعراضات المبتذلة للغرور الأدبي بعين الازدراء، ولم يكن في ذلك بالأوحد. هذا، وقد أضحت القراءات من قبل أولئك النفر من المختالين الخالعين على ذواتهم أهمية ومكانة، وذلك في روما وربوع أخرى من الإمبراطورية، مرمى لسهام الفكاهة الساخرة والدعابة التهكمية. فالكثير من الكتاب والهجّائين الرومان الرواد، بدءًا من “هوراس” (65 ق.م – 8 م) و”بترونيوس” (27 م – 66 م) إلى “بيرسيوس” (34 م – 62 م.) و”يوفينال” (55 م/60 م – 127 م)، قد أطلقوا سهام حصافتهم وذكائهم صوب تلك الاستعراضات التفاخرية للقراءات الموجهة لجمهور العامة.
ووفقًا للهجّاء الروماني “مارتشيال” (38 م/41 م – 103 م)، فحتى دورات المياه العمومية لم يكن يُحظر فيها أولئك القرّاء المتطفلون في قراءتهم لجمهور العامة. ففي واحدة من قصائده التهكمية القصيرة، يكتب “مارتشيال”:
إنك لتقرأ لي وأنا قائم، وتقرأ لي وأنا قاعد
وتقرأ لي وأنا أركض، وتقرأ لي وأنا أتغوط
إنني لأفر هاربًا إلى أماكن الاستحمام، فيدوِّي صوتك في الآذان
فإذا ما يممت شطر المسبح، لم تدعني أسبح هناك
وإذا أسرعت لأتناول عشائي، قمت بتعطيل مسيرتي
وما إن أصل إلى الطعام، حتى تجعلني كلماتك صامتًا
هذا، وقد كان الهجّاءون الذين سخروا من تلك القراءات الجهرية مدركين أن الشهرة المتولَّدة عن القراءة المصقولة لتمثل مصدرًا مهمًا من مصادر رأس المال الثقافي. أما سهام الحصافة الحادة التي أطلقوها صوب مراميهم فيمكن النظر إليها على أنها ضرب من ضروب الرقابة الأدبية بما لها من قوة المصادرة. فيمكن النظر إلى سخرية “بترونيوس” من “يومولبوس” -ذلك المتحمس المضجر لتلاوة الأشعار- في هجائيته على أنها مثال للرقابة على الذائقة ومصادرتها. فليس أقل من أن وُصف “بترونيوس” من قبل مجايليه بأنه “الحكم على مدى أناقة الذائقة”، وذلك في بلاط الإمبراطور الروماني “نيرون”.
وفي أعقاب سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي، عمد الأوروبيون الذين امتلكوا ثروات مادية، ولكن افتقروا إلى أناقة ورفعة من فاقوهم في مضمار النبالة الاجتماعية إلى إنشاء مكتبات خاصة لاكتساب سمعة مفادها كونهم ذوي تهذيب وصقل. أجل، فمن وجهة نظر كثيرين؛ إن امتلاك مكتبة عامرة زاخرة لهي غاية في حد ذاتها. وبعد قرابة نحو ألف عام، ومع نشأة عصر النهضة وبزوغ موجات التجارة، تنامى حجم امتلاك الكتب وامتد التمايز الثقافي الذي تمنحه القراءة إلى أناس أكثر فأكثر. هذا، ونجد “جيفري تشوسر” (حوالي 1343 م – 1400 م)، في قصيدته “أسطورة النساء الفضليات”، المكتوبة في ثمانينيات القرن الرابع عشر الميلادي، قد مثّل ذلك الاتجاه بالإعلان عن كونه ليعلي من قدر الكتب ويبجلها.
وبحلول القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بزغ القارئ الطنّان الرنّان المغرور إلى صدارة المشهد بكل قوة. وقد قيل إن مقالات “ريتشارد دي بوري” (1287 – 1345م) المُعنوَنة “حب الكتب” والمكتوبة في العام 1345 م. والتي لم ُتنشر إلا في العام 1473 م، هي “باكورة الرسائل الإنكليزية بشأن مباهج الأدب”. بيد أن “حب الكتب” هذه لم تقل إلا النزر اليسير عن تجربة “دي بوري” الفعلية فيما قد خص القراءة. وهو قد كان مولعًا شغوفًا بالكتب حيث كان اهتمامه الحقيقي هو جمع الكتب لا دراستها.
أما كاتب سيرته “ويليام دو شومبر”، فقد زعم أن الكتب قد كانت تحيط بـ “دي بوري” من كل جانب في جميع محال إقامته، وأن ثمة “كتبًا كثيرة جدًا لتتناثر في أرجاء غرفة نومه؛ بحيث كان من الصعوبة بمكان أن يقف المرء أو يتحرك بالغرفة من دون أن تطأ قدماه تلك الكتب”. هذا، ويبدو لزامًا أن كان “دي بوري” قد توقّع أن شهيته التي لا تشبع من اقتناء الكتب كانت لتضحى هدفًا لسهام النقد والسخرية، إذ قد عمد، على نحو صريح، إلى الدفاع عن نفسه إزاء تهمة المغالاة، وذلك في مقدمته لمقالات “حب الكتب”؛ معلنًا أن “حبه المفرط” للكتب قد قاده إلى هجران “جميع الأفكار بشأن أية أمور دنيوية أخرى”. فالغرض من كتابة “حب الكتب” قد كان لجعل الأجيال القادمة تتفهم نيَّته و”لإخراس الألسنة المغرضة لمروجي الشائعات إلى الأبد”، كذا كان “دي بوري” يأمل في أن يكون بيانه بشأن شغفه هذا “ليبرِّئ ساحة ولعنا بالكتب من تهمة المغالاة والإفراط”.
إلا أن اللاهوتي الإنسانوي الألماني “سيباستيان برانت” لم يدرك المعنى، على الإطلاق. إذ تُصوِّر هجائيته “سفينة المجانين” (1494م) 112 نوعًا مختلفًا من المجانين. أما أول من قفز إلى متن السفينة فكان ذلك المجنون المولع بالكتب، الذي كان يجمع الكتب ويقرأ للتباهي والتأثير في الآخرين. فعلى لسانه، يكتب “برانت”:
إذا كنت أول من اعتلى متن هذه السفينة
فلأسباب بعينها قد قُدرّت سلفًا
أجل، إنني الأول هنا كما ترون
ذلك لأنني أحب مكتبتي
إنني أملك كتبًا رائعة تندُّ عن الحصر
إلا أن قلة قليلة منها هي تلك التي يمكنني فهمها
وإنني لأعتني كثيرًا بكتبي قديمها والجديد
فأذبّ عنها الطير كلما عنَّ له أن يحطَّ عليها
وحيث يكون الدرس درس فن وعلم
أقول: لشد سعادتي حين أكون ملازمًا البيت
إذ إنني لا أجد سعادتي أبدًا
بأكثر ما أكون مَحُوطًا بكتبي من كل جانب.
ولقد أضحت هجائية “برانت” تلك من أكثر الكتب مبيعًا، وسرعان ما تُرجمت من الألمانية إلى اللاتينية والفرنسية والإنكليزية. إلا أن محبّي الكتب -مجانينهم والعقلاء- لم يكن ليُحال بينهم وبين ما يشتهون؛ فبحلول القرن السادس عشر الميلادي، بات نهج مثالي علماني “لحب القراءة” وقد ثبّت أقدامه ووطّد أركانه. وأضحت القراءة مجالًا لاكتشاف الذات ولاستقاء بصائر روحانية عن طرائق الحياة ومساربها.
ولربما كانت رمزية القراءة أكبر من فعل القراءة ذاته؛ إذ سعى الأفراد إلى توثيق حبهم الجم للكتب في بورتريهات وتصاوير مرسومة قد جسّدتهم، وهم مستغرقون بالكلية في قراءة هذا النص أو ذاك. هذا، وقد أضحت التصاوير المرسومة لأناس يقرأون، وكذا البورتريهات المجسِّدة لأفراد يحتضنون كتبًا، شائعة ذائعة في فن عصر النهضة. إن مخطوطات تلك الحقبة “لتحفل بتصاوير ليس فقط لكتب، بل لأناس يقرؤون كتبًا”، وذلك وفق ما أوردته “لاورا آمتاور” في كتابها “كلمات فاتنة: ثقافة القراءة في أخريات العصور الوسطى” (بالغريف 2000).
وخلال ما تلا ذلك من قرون متلاحقة، واصل رسّام البورتريه، الواقع تحت إغواء ما للكتاب من خصائص روحانية وفكرية، احتضانه للكتاب كدعامة فنية أساسية. إن تصاوير الشاعر “دانتي” دائمًا ما تُظهره وهو يقرأ. فاللوحة التي رسمها فنان القرن السادس عشر “انولو برونزينو” -والمعنّونة “بورتريه مجازي لدانتي”- تجسّد الشاعر حاملًا نسخة مفتوحة غاية في الضخامة من كتاب “الفردوس” من كوميديته الإلهية. وهذا البورتريه يمثِّل الكتاب بالقدر ذاته من تمثيله “دانتي”. هذا، وإن إمعان النظر في فعل القراءة من قبل “دانتي” ليذكِّر المطلّع على البورتريه بمكانة الرجل في نبوغه الثقافي وسموّه الروحاني.
وبانتشار القراءة بين جموع العامة مع حلول القرن الثامن عشر الميلادي، عمد المثقفون إلى تغيير طرائقهم وذلك لتعضيد مكانتهم الأعلى بأن شدَّدوا على التمايز بينهم وبين من هم دونهم من قرّاء. ففي تلك الآونة، حلّ الناقد الأدبي محل الهجّاء الروماني حيث امتدح القرّاء البارعين ناعتًا إياهم بـ”رجال الأدب”، فيما نعت فرقاءهم بـ”غير المثقفين”.
“فأن تقرأ، ما تلك بفضيلة، ولكن أن تقرأ جيدًا؛ فإن هذا لفن، فن لا يحوزه إلا القارئ المطبوع المجبول بالفطرة”. هذا ما شدَّدت عليه الروائية “إيديث هوارتون” في مقالتها “رذيلة القراءة” (1903)، حيث كتبت أن “القارئ الميكانيكي” ليفتقر إلى “الاستعداد الفطري” وإلى “هبة القراءة”، وأنه لا يمكنه ألبتة أن يحوز فن القراءة.
وبحلول القرن العشرين، فإن القراءة قد ارتُقي بها بأن أضحت شكلًا من الأشكال الفنية، حيث عمد المثقفون إلى رسم خط فاصل يحل في أحد جانبيه ما أُطلق عليه “المُتقارِئ” -أيْ ذلك المتظاهر بالقراءة-، فيما تحّل في الجانب الآخر الصفوة. حتى الروائية “فرجينيا وولف” قد أدلت بدلوها في هذا المضمار. ففي مقالتها المعنوَنة “القارئ العادي” (1925)، وصفت “وولف” القارئ المتوسط بأنه امرؤ “أسوأ تعليمًا” من الناقد، امرؤ “لم تهبه الطبيعة” بقدر “سخائها” حين إكرامها نظراءه الأوفر صقلًا وبراعة. ووفقًا لـ”وولف”، فالقارئ العادي “عجول وغير دقيق وسطحي” وبطبيعة الحال، فإن “نقائصه كناقد لأكثر جلاء من أن يشار إليها”. هذا، وقد أضحى هذا التشبيه متداولًا: إذ لا يزال القرّاء يُصنفّون ويُقيمّون حتى يومنا هذا. أما في كتابه “مباهج القراءة في عصر التشتت” (2011)، فقد جرأ الناقد الأدبي “آلان جاكوبز” على التفرقة ما بين القرّاء الممتدَحين بأكثر مما يستحقون والمتواضعين ذوي القدرات المحدودة من “البشر الذين يقرأون”.
وفي الواقع، فإن فعل القراءة قد أضحى من الرفعة بمكان أن صارت القراءة للطفل تشير إلى الجدارة الأبوية، وذلك في الحد الأدنى، وإلى التفوق الأخلاقي والثقافي في الحد الأعلى. فالأب والأم في قراءتهما للطفل في الأماكن العمومية إنما يبعثان برسالة إلى العالم – ولشد ما هو شامخ فعل القراءة هذا، حد كون الأمهات والآباء ليخصّصون وقتًا وموارد وافرة لتشجيع الأبناء على احتضان الكتاب وضمه إليهم. لذا، فليس غريبًا أن نرى طفلًا قد أُجلس في المقعد المخصص له بالسيارة فيما هو يحتضن كتابًا صغيرًا ممعنًا النظر فيه.
وقد لا يمضي طويل وقت، فيهجر أطفال القرن الحادي والعشرين الاستعراض المبهرج لقراءة كتاب أو آخر في الأماكن العمومية، ويتبّنون عادة مطالعة هواتفهم الذكية بين الفينة والأخرى. فلو كان “سينيكا” أو “مارتشيال” حيينِ بين ظهرانينا اليوم، لكان الأرجح أن يكتبا قصائد موجزة بشأن هذا الاستعراض العمومي على الملأ لقراءة الرسائل الخطية واستعراض مهارات الكتابة باستخدام الهواتف الذكية. والقراءة الرقمية، مثلها في ذلك مثل قراءة اللفائف في الأعصر الغابرة، لتشكِّل صورة مهمة تعكس مَن نكون. فبمثل القرّاء على الملأ في روما إبان حياة “ماريتشال”، فإن القرّاء النهمين للرسائل النصّية وغيرها من أشكال وسائط التواصل الاجتماعي يبدو أنهم منتشرون في كل مكان. وبالرغم من أنه في كلتا الحالتين يكون ممارسو القراءة يبنون صورتهم الذاتية بلا كلل، فإن الهوية التي يطمحون إلى تأسيسها هي جد مختلفة. فالشباب الجالسون في مقهى يطالعون هواتفهم الذكية بشأن نص أو آخر لا يعكسون صورة توضّح مكانتهم الأدبية الرفيعة. إنهم يشيرون إلى كونهم “متصلين” connected وإلى -وذاك الأهم- كونهم منتبهين على الدوام.
ومع صعود التقنية الرقمية وانتشارها، فإن فعل القراءة ذاته قد تبدّل. فالمقابلة بين امرأة مستغرقة في قراءة كتاب في إحدى بورتريهات القرن الثامن عشر وبين مراهقة تحدّق، بوعي ويقظة، في هاتفها الذكي توضّح الطرائق المختلفة التي يبني بموجبها الأفراد هوياتهم من خلال القراءة. ففي عالم اليوم، فإن مستهلك النصوص الرقمية المحنّك ليتنافس مع قارئ الكتب الورقية على الاعتراف به كمثقف. لكن تُرى أيّ من شكلي القراءة هذين يتوجب أن ُيقّدر بأكثر من الآخر؟
ولأولئك الراغبين في الإعلان عن ثقافتهم للعالم، فإن الخيار يبدو واضحًا: إذ لا تُشكّل النصوص الرقمية شواهد على التمايز الثقافي. وربما كان ذلك السبب، وعلى الرغم من الانتشار الواسع للهواتف الذكية، في زيادة حجم مبيعات الكتب الورقية في الآونة الأخيرة. فعلى خلاف الكتب، لا تُشكّل الهواتف الذكية ولا الحاسوب مجالًا لاستعراض الذائقة الرفيعة. وذلك هو السبب في كون مصممي الأثاث الداخلي يستخدمون أرفف الكتب لخلق انطباع بالأناقة والصقل في هذه الغرفة أو تلك. أما الشركات فتنشط في ترويج ملمح الأناقة والفخامة من خلال طرح مكتبات معدَّة سلفًا لأولئك الزبائن المهتمين بالظهور بمظهر الأناقة والذائقة الرفيعة. فشركة Books by the Foot، وهي شركة تمارس نشاطها عبر الإنترنت، تقدّم عروضًا “لتوليف مكتبة توائم ما بين شخصيتك والحيز المكاني المتاح لديك”، حيث تعد بأن ترفدك بالكتب “على أساس لون الكتاب وطريقة تغليفه وموضوعه وحجمه وارتفاعه، فضلًا عن خلق مجموعة من الكتب رائعة وجميلة”. وهاك شركة أخرى تنشط عبر الإنترنت في بيع مكتبات معَدّة وفقًا لما يطلبه الزبون، تشير إلى أنه، حتى ونحن نحيا في العصر الرقمي، تظل المكتبة رمزًا للثقافة الرفيعة.
إن المجانين المولعين بالكتب لا يزالون بين ظهرانينا، بيد أنه، ولحسن الطالع، لا يهتم كثر من القرّاء بشكل ممارسة فعل القراءة في حد ذاته. إنهم لا يزالون يستغرقون في قراءة النص حيث يُشغفون حبًا بالحكايات التي يقرأون. وبغض الطرف عن الشكل الذي تكون القراءة عليه، فإن الأمر المهم هو التوق الإنساني العارم للقيام بالإبحار في رحلة القراءة تلك. إن الأمر المهم ليس هو الشكل أو الأداء، ولا هو المؤثرات البصرية، بل هو خوض غمار تجربة الإبحار صوب المجهول.
الهوامش:
- فرانك فوريدي، هو عالم اجتماع وأستاذ سابق لعلم الاجتماع في جامعة “كنت” في “كانتربري”.
مقال رائع.. وترجمة رائقة.
بارك الله فيكم ونفع بكم