المسلم السَّائر إلى الله والسَّالك سبيل المصلحين المتخذ العلم والدَّعوة وسيلة يتقربُ بها إلى الله تعالى تعترضُ طريقَه محاذيرُ تؤثر في سَيْره وتكاد تُخرجه من الطَّريق أو تعيده إلى الوراء وكلُّ بحسب قوة تأثير المحاذير أو قوة المقاومة لديه فغالب ومغلوب نسأل الله السَّلامة والعافية.
ومن أخطر هذه المحاذير: (نفق مظلم) يراه السَّائر وطالب الدار الآخرة أمامه فينشغل به عن العمل ويدور حوله ليل نهار فيضعف سيره، بل قد يتوقف ويجعله قضيته ويوليه اهتمامه ويشغل به الـآخرين كلما وجد فرصة لذلك، بل قد يحشره حشرًا في غير مناسبة ولا اتفاق.
والنَّفق المظلم عبارة عن سوء أو خطأ يراه عند الآخرين ممن حوله ومن السَّائرين معه، وممن يرى فيهم الخير ويحسبهم من الصَّفوة أو يحسن بهم النَّاس الظن؛ فيجد خطأ ما؛ فردي أو مؤسسي؛ فيجعله قضيته يقوم ويقعد لأجلها ويصرف الوقت والجهد فيها؛ كمن يترك طلب العلم بسبب الخلاف بين العلماء وكالذي يترك الدعوة بدعوى كثرة الجماعات واختلافها ومثل الذي يترك الصَّلاة في المسجد بسبب صوت الإمام أو شيء في أسلوب تعامله أو يخرج أبناءه من حلقات التحفيظ بسبب خطأ عند المدرِّس أو يتخذ موقفًا من جماعة طويلة عريضة بسبب سوء خلق بعض من عُرِفَ من المحسوبين عليها أو المنتمين إليها…وهكذا.
وقد يكون الخطأ صحيحًا وقد يكون متوهمًا أو مبالغًا فيه أو لا يوجد أصلًا؛ لكن على أساس أنه صحيح فينسى الشَّخص نفسه وواجباته وما يتعين عليه وما يحتاج إليه في سيره وينبغي أن ينشغل به ويبقى حامل لواء النقد والتحذير من هذا الخطأ ومن فلان المخطئ وإن لم يتغير شيء بسبب موقفه أو يصلح فيه شيء فقط مجرد تناقل الكلام وتوسيع دائرة النشر وإيغار صدور جديدة في أشخاص أو جهات لم تكن تعرف عن هذا الخطأ شيئًا.
هذا النَّفق المظلم لا تُعلم نتيجته ولا نهايته فإن لم يقف صاحبه وينتبه لنفسه فقد يصل به الأمر إلى ألا يعجبه عجب ولا يرضيه عمل وينتهي به الحال إلى رد الحق وغمط الناس وإن لم يشعر ويصل الحال به فلا يجد من يحسن الظن به فالكل عنده متهم.
ولولا فضل من الله ورحمته على النَّاس بما يستره من الأخطاء والعيوب عن بعضهم لما جلس اثنان ولا التقى شخصان.
من الآثار والنتائج:
للنَّفق المظلم آثار خطيرة ونتائج وخيمة إذا لم يغادره صاحبه؛ منها أثار عاجلة أقلها: سوء علاقته مع محيطه – وإن لم يشعر – وفرار الناس منه وخشيتهم من الحديث معه وتجنبهم القرب منه وإن ضحكوا له أو صفقوا.
وهناك آثار بعيدة المدى، لكنها مدمرة كأن يتعرض سيره إلى الله إلى انقطاع، وثباته إلى اهتزاز، فالجزاء من جنس العمل فقد يصل بسوء فعلته إلى مرحلة تتبع العورات ” فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه ، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه ، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه”(1) كما جاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد يؤدي الاستمرار في هذا النفق إلى الانحراف والعياذ بالله والسقوط كما قال بكر بن عبد الله: رحمه الله تعالى: “إذا رأيتم الرجل موكّلًا بعيوب الناس، ناسيًا لعيوبه ـ فاعلموا أنه قد مُكِرَ به”(2).
ومن أخطر النتائج: الاستهانة بهذا الأمر وجعل الحديث عنه فاكهة مجالس وأنس لقاءات ورفيق مفازات فيقع في الغيبة قطعًا وكفى بالغيبة إثمًا يهلك صاحبه وينسف حسانته فكيف إذا رافق الغيبة: سوءُ الظن وتشويهُ السمعة وربما الافتراء والكذب وشهادة الزور.
صورة قبيحة :
قد يحاول بعض من اُبتلي بهذا الداء: أن يلبسه لباسَ النصيحة وجلبابَ الحرص وأنّى له ذلك؟ فالنصيحة طرقها معروفة وشروطها مشهورة، والحرص أقل درجاته السِّتر؛ لكن الإصرار يفسد الاقرار؛ والبعض يرفع شعار المصلحة العامة حال إصراره على الغوص في هذا النفق والحقيقة أن مصلحة خاصة أو خلاف شخصي وراء الأكمة تظهرها فلتات لسان أو لحن قول، بل ربما أحيانًا صريح القول ومدلول الإشارة وتناقض الموقف من حين لآخر أو مع شخص وآخر.
والنفق المظلم أوله نقطة صغيرة، لكن عدم الخروج منها يجعلها كالبحر عمقًا واتساعًا وظلمة لا يدري صاحبها إلا وقد غاص في وحلها فيصعب عليه الخروج ويرجو النَّجاة فلا يجدها فما تركَ لنفسه بابًا ولا نافذة للعودة فقد شرق وغرب بأعراض الناس.
ومن بديع ما ينسب للإمام الشافعي- رحمه الله تعالى – في هذا الشَّأن :
المَرءُ إِن كانَ عاقِلاً وَرِعاً
أَشغَلَهُ عَن عُيوبِ غَيرِهِ وَرَعُه
كَما العَليلُ السَقيمُ أَشغَلَهُ
عَن وَجَعِ الناسِ كُلِّهِم وَجَعُه
وقول الآخر:
لا تَلتَمِس مِن مَساوي الناس ما سَتَروا
فَيهتِكَ اللَهُ سَتراً عَن مَساويكا
وَاِذكُر مَحاسِنَ ما فيهِم إِذا ذُكِروا
وَلا تَعِب أَحَداً مِنهُم بِما فيكا
وَاِستَغنِ بِاللَهِ عَن كُلِّ فانٍ بِه
غِنىً لِكُلّ وثق بِاللَهِ يَكفيكا
ومرة سمع أعرابي رجلًا يقع في النَّاس، فقال: “قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأنَّ الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها”.
فليس علاجًا له إلا فورَ الفرار منه والتوقف عن المشي فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن النجاة، قال: “أمسِكْ عليك لسانَك ولْيَسَعْك بيتُك وابْكِ على خطيئتِك”(2) .
ولا شك أنَّ الصادق في طلب العلاج يحرص على أن يصلح ما أفسد ويتحلل ممن ظلم ويداوي من جرح ويستغفر لمن أساء إليه ويقلع فورًا ويندم دهرًا ويهجر كل ما يكون سببًا لعودته إلى ذلك النفق أو معينًا عليه أو مشجعًا أو حتى موافقًا ومؤيدًا.
اللهم عافنا واعف عنا واستر عيوبنا واشغلنا بما ينفعنا
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
- ) صحيح الجامع رقم : 7984
- أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه الصمت (ص132) وفي ذم الغيبة (ص23)
- صحيح الترغيب رقم2741.