صباح ساكنُ وقور، وخيوطُ من الشمس تغازل أديم الأرض، وأنوارُ مشرقة تبدو من ثناياها الجبال والبنايات والطُرق أكثر بهاءً وجمالاً ومهابة.
وفي مكة مساءُ خاشع رهيب، يصدح بالترتيل والابتهال والدعاء، وأمواج الناس تتدفق نحو البيت العتيق، للبحث عن ملاذ يخفف عنهم وجع الأيام وقهر السنين.
تحت سديم البيت المعمور، نبحث عن نقطة التحول الكبرى في حياتنا، وفي أركان البيت والمسعى، نفتش عن لحظة اقتران أزلية .. تجمع أرواحنا بتوبةٍ صادقة وأوبةٍ قدرية شاملة، نكرر المحاولة .. كلما قادتنا الأسفارُ إلى مكة في كل عام وعامين وعشرة أعوام وثلاثين عاما، في كل مرة نحوم حول الحِمى الرباني والرحمات الندية، ننتظر حلولاً واندماجاً بين الذات واليقين، لعل وميضا ينقلنا من الشتات إلى الوحدة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمان.
قد يصادف الإنسان لمعة الاستيقاظ في أي بقعة من مكانه في الأرض؛ لكن مكة مظنة الخير وكنز الدرجات ومرتجي القبول.
بقدر التجرد لله في مناسك مكة، تغيب العوائق والمتاعب، ويتوفر المأوى والطعام والمركب بيسر وسهولة، وكلما تقلص معيار التجرد الصافي يتعقد الحال، ويصبح كل شيء صعب وبعيد المنال، تضيع الأوقات في غمرات البحث عن شربة ماء وموقع صلاة، يتدافع الناس في زحام وتوتر وشجار، ويطول البحث المُمِل المضني عن الأماكن والأصدقاء، ومحطات التنقل ومناطق السكن، لكل شيء ثمن .. ولكل سبب نتيجة.
في رحلات الحج والعمرة، يدفع الناس من عزيز أموالهم وجميل مدخراتهم. ويستدينون فوق مدخلاتهم؛ فإن عادوا بجائزة الاقتران والتحول .. هان عندهم كل غال ورخيص في هذه الحياة، وإن رجعوا كما ذهبوا .. ضاقت نفوسهم على ضياع المال وقسوة الطريق وفقدان السكينة.
من جديد نحث خطانا إلى الله، نتلمس مواطن الخير والبر والمعروف، ونتجنب مزالق الشر والمنكر ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً