هذه أسحار رمضان تهب فيها نسائم من حول العرش على المخبتين القانتين والساجدين الداعين والعاكفين القارئين فأين قلبك إذن؟
إنها أوقات مباركة ندية تسكب في قلب المؤمن الكرم الإلهي، والود الرباني، والرضى المطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش معها المؤمن في جنابٍ رَضَىٍّ أمين وقرار طيب مكين.
وفي ظل هذا الأنس في هذه الأوقات الجميلة يرقص القلب طربا لجمالها وبردها عليه ويزكو فيها الرشد والهدى والصلاح والاستقامة والقرب من مولاه, والمؤمن في هذه اللحظات ينبسط في حضرة جلال الله ويرفع حاجاته وقائمة مطالبه لأن عينه على: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ..
إن أبواب السماء تطرق في الأسحار والعرش يهتز عند السحر والله جل جلاله في وقت السحر ينظر في وجوه المفتقرين إليه المحتاجين إلى فضله فيعطيه أكثر من مرادهم. فقد سأل داود جبريل عليهما السلام فقال: يا جبريل، أي الليل أفضل؟ قال: «يا داود، ما أدري إلا أن العرش يهتز عند السحر» وقال سفيان: “إن لله ريحًا مخزونة تحت العرش، تهب عند الأسحار فتحمل الأنين والاستغفار”.
فهل لنا أن نحيي هذه الأسحار حتى نحظى بالرضوان؟!
إن وقتَ السحرِ من أفضل أوقات الاستغفار إن لم يكن أفضلها، كيف وقد أثنى الله – عز وجل – على المستغفرين في ذلك الوقت بقوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران: من الآية 17) . وقوله: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 18) .
لقد كان الأوائل لا ينامون في السحر ولقد مر رجل من التابعين على صديق له بجوار بيته في الثلث الأخير من الليل، فما سمع صوتاً، فلما لقيه في الفجر قال: يا فلان أكان البيت نائماً قبل الفجر؟ قال: نعم، ما استيقظنا إلا عند صلاة الفجر، فقلب كفيه وقال: عجباً لمسلمين ينامون طوال الليل.
كلما حدثتك نفسك بالنوم والتكاسل عن العبادة والغفلة في أسحار رمضان، أغمض عينيك وتخيل الجنة وما أعد الله للمؤمنين فيها من ثواب عظيم, وأجر جسيم، وقل لنفسك: أترضين أن أخسر الجنة؟، أأنام وهناك من يسبقني الآن إليها ويعمل لها ويبني فيها ويجهز مشاريعه العملاقة عليها، أما علمت أن فلانًا يتلو القرآن الآن، وفلانًا يصلي من الليل الآن، وفلان في سحره يفعل كذا وكذا من العبادة الآن فماذا سيفيدك النوم إذا سبقك هؤلاء إلى الجنة بدرجات؟
وماذا ستفيدك الغفلة إن ربح القوم غدا وخسرت أنت؟
وفازوا وهلكت؟
وتقدموا وتأخرت؟
إن السحر وقت نبيل لا يحافظ عليه إلا العظماء وهو منجم الهبات وباب القربات من رب الأرض والسماوات وفيه معراج الزلفى إلى ملك الملوك وما طلب أحد في السحر شيئا ففاته فاستثمره في أفضل القرب وتخيل أن تأتي يوم القيامة وعندك في صحيفتك المعروضة عليك أربعين سحرا رمضانيا أو خمسين أو ستين وفي كل سحر من هذه الأسحار عبادة يشرق نورها ويتلألأ ضياؤها أي فرح ستفرحه غدا بهذه الأسحار التي تزين صحيفتك, وتخيل أن هناك سحرا مكانه ظلمة لأنك لم تحييه أي ندم ستندم حينها وأي حسرة ستحلق بك, فأنت ف يهذه الدنيا أيام وعما قليل ينتهي العمر وينصرم الزمن ويحل الأجل فأعد من أسحارك أرباحا ليوم قدومك على الله ..
تقلل من ساعات نومك في ليلك؛ لأنك في حالة طوارئ رمضانية، ولا بأس أن تتعب لأنك تبحث عن تحصيل غاية كبيرة، بل هي أكبر غاية، ولك في النهار سبحا طويلا..
إنه زمان الطاعة، وموسم الربح, وقد يسر الله لك الأمر وأعانك عليه، وأوصلك إليه وتذكر دوما وأبدا خلال كل سحر أنها كما قال الله : {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]، فعظم هذه الأسحار ولا تجترم الآثام، واحذر من قطاع الطريق فيها من وسائل الإعلام وسهرات وتجمعات وغفلات، وتذكر أنك على خطر وأنّب نفسك إلى متى الكدر؟!، أأنت في رمضان كما كنت في صفر؟! ..
إن من خسر أسحار هذا الشهر متى تربح؟!، ومن لم يحيي هذا الوقت المبارك العظيم مسافرا فيه إلى ربه فمتى يبرح؟! ..
إن وقت السحر هو وقت النزول الإلهي – كما يليق بجلال الله وعظمته – وقد ثبت في الحديث: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرُني فأغفرَ له». ألسنا أصحاب حاجات, وعلينا التزامات, وفي قلق من الأزمات, وتحتوشنا السيئات, فأين إذن الدعوات؟
قم في السحر مجيبا نداء حيَّ على الفلاح، واقرأ على أسماع قلبك “الله نُورُ السَماواتِ والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمشكاةِ فيها مِصْباحٌ” واسمع حنين الوالهين وأنين المشتاقين ينادون مولاهم بشفاهٍ ذابلة، ودموعٍ سائلة، وألسنة فِصاح، فإن انقطع قلبك ولا تنقطع في بادية ذنبك فتبقى بمعزل عن أهل الصلاح.
تذكر الجليل وهو ينادي عليك: ما أنصفتني عبدي أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ فتذهب عنّي إلى غيري، وأذْهِبُ عنك البلايا، وأنتَ مُعتكف على الخطايا، يا ابن آدم ما اعتذارك عليّ إذا جئتني؟.
ما زلتَ دَهراَ للقلى مُتَعَرَّضاَ
ولطالما قد كنتَ عنا مُعْرِضا
جانبتَنا دهراَ فلمّا لم تجد
عِوَضاً سوانا صِرتَ تبكي ما مضى
لو كنتَ لازمتَ الوقوفَ ببابنا
لَلَبِستَ من إحساننا خِلَعَ الرضا
لكن هجرتَ حقوقنا وتركتَها
فلذاك ضاق عليك متَّسع الفَضا
سريعة هي الإجابة في السحر فهذا توبة العنبري يقول: عملت ليوسف بن عمر فحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء قال: فرأيت في المنام رجلاً حسن الوجه أبيض الثوب فقال: يا توبة، لقد طال حبسك. قال: قلت: أجل. قال: قل: «اللهم أسألك العفو والعافية، والمعافاة في الدنيا والآخرة». ثلاث مرات، فانتبهت فكتبتها، ثم قمت فتوضأت وصليت، فما زلت أقولها حتى السَّحر، فإذا رسل يوسف قد أخرجوني إليه في قيودي، قال: أتحب أن أخلِّيك؟ قلت: نعم. فأطلق قيودي وخلاني . قال بعض الصالحين: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة. وقال إقبال: كن مع من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل حتى تكون لك أنة في السحر .. إنه – رحمة الله – يريد أن يقول:
كن داعياً ناجحاً .. أو محاضرا بليغا..أو مؤلفا بارعا..أو متكلما فصيحا..أو حافظا متقنا..أو مصلحا مؤثرا كن كما شئت لكن لن تصل إلى مطلوبك إلا إن وقفت في السحر وقفة ذل بين يدي الملك خالعا كل نياشين العز..
عود نفسك القيام بركعتين أو أربعا أو ستا أو أكثر لك أن تطيلها ولك أن تقصرها بحسب طاقتك ثم اقرأ جزءا أو جزأين ثم أتبعها باستغفار بين يدي مولاك بحسب الوقت المتاح لديك مائة أو ألفا ثم اجعل بقية الوقت للدعاء واجعل هذا جدولا ثابتا في سحرك قبل أن ينطلق المؤذن بقول ” الله أكبر”.