يثور جدل بين حين وآخر حول اختيارات فقهاء الإسلام، ويتمايز الناس ما بين مقلد تابع جامد، و مزدر لتلك الاجتهادات، ويكاد الموقف الوسطي المعبر عن روح الشريعة ومرونة الفقه أن يضيع وسط الزحام، وسنحاول في هذه السطور أن نتأمل مسألة الخلافة العظمى، وهل شرط القرشية (أن يكون الخليفة من قريش) فرضا سرمديا، أم أنه وصية زمنية انتهت في وقتها؟
ومدخلنا إلى فهم أبعاد النص النبوي، يبدأ من فهم السياق الاجتماعي والسياسي الذي جاء فيه النص، فذلك ضروري لفهم مقاصده، فالذين يستمسكون بأهداب الآثار دونما فقه بعللها ومقاصدها، ولا تبصّر بسياقها الذي وردت فيه، يخرجون بصور شوهاء عن تلك الآثار. إذ الفرق بين القرشية والإسلامية فرق هائل بين خطاب عالمي يتعالى عن معايير القومية، وخطاب إقليمي يراعي توازنات اجتماعية زمنية. بل ينعكس إحدى الخطابين على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، ما بين من يجعله رحمة للعالمين، وآخر يقدمه على صورة شيخ قبيلة يحتكر السيادة والشرف لقبيلته من بعده! حاشاه ربي وصلى عليه في كل وقت وحين.
وسؤال خلافة النبي لم يكن وليد لحظة الرحيل إلى الرفيق الأعلى، بل طرحته القبائل العربية في الفترة المكية، عندما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم الحماية، فقالوا له : لمن الأمر بعدك؟ وكان جوابه حاسما : (الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) سيرة ابن هشام (2/272). حتى جاء الأنصار وطرحوا نفس السؤال وإن بصيغة أخرى: (فما لنا يا رسول الله؟) فقال لهم رسول الله: (لكم الجنة) مجمع الزوائد( 6/51). فقبلوا الصفقة، ووفوا بها رضوان الله عليهم.
وسنحاول في النقاط التالية الوقوف على معالم ذلك الجدل الفقهي التاريخي.
1- لكل أمة مركز حضاري منه ينطلقون، وفيه يحسم أمرهم. فقد كانت روما معقد اجتماع الروم وكان عرب الجنوب “اليمانيون” ينظرون إلى ” حِمْيَر ” باعتبارها درة التاج وموطن الحل والعقد قبل سقوط دولتهم على يد الحبشة، وكان عرب الشمال “العدنانيون” ينظرون إلى قريش باعتبارهم سدنة الحرم، ومهدهم الأول، ثم جاءت حادثة الفيل لتعلي من شأنهم. وقد أمتن الله في سورة قريش عليهم بذلك الإمكان والمكان.
هذه المكانة لقريش عند عرب الشمال، هي التي شكّلت موقف القبائل من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون له ننتظر ماذا تقول قريش، كما عبر عن ذلك أبو الجهم الضبابي -حين عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام- : (رأيت قومك قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك فانظر ما تصنع فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك)سنن أبي داود. وكذلك كان ديدن تلك القبائل إذ يعلّقون على دعوة النبي بقولهم : (قومُ الرجلِ أعلم به)، فكانت( الْعَرَبُ تَنْظُرُ إِسْلَامَهُمْ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَفُتِحَتْ مَكَّةُ تَبِعَهُمُ النَّاسُ) شرح النووي على مسلم (12/ 200).
أما القبائل اليمنية فقد اتخذت موقفاً مغايراً من دعوة النبي، موقفاً يترجم نزعة الاستقلالية عن هيمنة قريش، فقد عرض قيس بن مالك الأرحبي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى قبيلة أرحب “اليمانية” فتحمي النبي كي يبلغ دعوته، وكذلك عرض الطفيل بن عمرو الدوسي على النبي أن يهاجر إلى قبيلة دوس اليمانية كي تنصر النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ دعوته، ولكن الوحي كان يوجه النبي لاختيار المدينة حيث تقطن قبائل الأزد اليمانية ” الأوس والخزرج” لحكمة أرادها الله.
ولا يمكن فهم مواقف القبائل اليمانية الثلاث تجاه النبي ومغايرتها لمواقف قبائل الشمال التي تلكأت في نصرة النبي، دون أن نستحضر أهمية موقف قريش لدى قبائل الشمال، وهامشية هذا الموقف عند القبائل اليمانية.
وقد أودع النبي خبرته السياسية على شكل وصايا لتلاميذه فقال لهم وهو يلمح إلى ظاهرة مركزية قريش لدى قبائل الشمال: (الناسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ في هذا الشأن، مسلِمُهم تَبَعٌ لمسلِمِهِمْ، وكافِرُهُم تَبَعٌ لكافِرِهِم)صحيح البخاري. أَيِ الْوِلَايَةِ وَالْإِمْرَةِ.
ولذلك تركزت استراتيجية النبي -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة، لأن فتحها يعني إذعان قبائل الشمال، وبفتحها يكون النبي قد تسلم عاصمة التوحيد الإبراهيمية. وأما قبائل الجنوب اليمانية، فقد اكتفوا برسالة برهنت على صدق النبي فانعطفوا نحو الإسلام.
2- لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، تداعى الأنصار لتنظيم أمر المدنية، وكانت الأنظار متجهة إلى زعيم الأغلبية “سعد بن عبادة – رضي الله عنه- شيخ الخزرج، غير أن الصديق والفاروق وأبا عبيدة تداركوا الموقف، ونظروا للأمر من زاوية أبعد، إذ أن إمرة المدينة لا تنظِّم شؤون المدينة وحدها، فيُختار لها أنصاري من الخزرج، وإنما هي عاصمة لدولة تمتد إلى أطراف الجزيرة العربية، ولأن عاصمة الدولة تتموضع في جغرافيا قبائل الشمال، فلا بد من مراعاة العرف السياسي بتنصيب رجل من قريش كي تجتمع عليه الكلمة، وتخفّ نوازع العصبية عند عرب الشمال.
فاختار الناس أبا بكر الصديق، لسابقته وظهور فضله عليهم، وراعوا قرشيته لأجل هذا المعنى الذي ألمحنا إليه، وجاءت به الوصية السياسية للنبي.
3- ولما توسعت الدولة الإسلامية، واستغنت عن العصبية القبلية، بظهور أهل الإيمان، بدأ الفاروق عمر بتغيير العديد من السياسات التي كانت تراعي العرب، فأوقف سهم المؤلفة قلوبهم الذي كان يُعطى لمشايخ العرب تأليفاً لهم وجلباً لحمايتهم، إذ قال عمر لعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وهما من مشايخ العرب : (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَأَلَّفُكُمَا وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ ذَلِيلٌ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ فَاذْهَبَا) سنن البيهقي (7/ 32).
وقد نظر الفاروق عمر في مسألة الخلافة فقال: (إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيٌّ، اسْتَخْلَفْتُهُ، فَإِنْ سَأَلَنِي اللهُ: لِمَ اسْتَخْلَفْتَهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَمِينًا، وَأَمِينِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ” فَأَنْكَرَ الْقَوْمُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا بَالُ عُلْيَى قُرَيْشٍ؟! – يَعْنُونَ بَنِي فِهْرٍ – ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي، وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ، اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ: لِمَ اسْتَخْلَفْتَهُ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْعُلَمَاءِ نَبْذَةً )مسند أحمد (108)، قال عن سنده ابن حجر رجاله ثقات، وحسنه الحافظ ابن كثير في مسند الفاروق، و قال عنه المحقق شعيب الأرناؤوط حسن لغيره، وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: ” إسناده رجاله ثقات” أضواء البيان 1/74.
من سياق الحديث نرى الصراع بين المنظور القرآني الذي يترجم عنه عمر، والمنظور القبلي الذي يأنف من أبي عبيدة لأنه ليس من أعالي قريش! فيجبههم عمر برجل أنصاري من غيرهم.
وجاء في رواية الطبري: ( أن عمر بن الخطاب لما طُعن قيل له: يا أمير المؤمنين، لو استخلفت! قال: من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله) تاريخ الطبري (4/ 227).
فأبو عبيدة قرشي، ومعاذ بن جبل أنصاري يماني، وسالم مولى أبي حذيفة فارسي الأصل؛ وهذه الرؤية العمرية منسجمة مع المنظور القرآني الذي يجعل الاستخلاف لعموم المؤمنين قال تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)النور:55. فالوعد الإلهي بالاستخلاف لعموم المؤمنين، وليس لقريش أو للبطنين كما تزعم النظرية الهادوية.
وقد علق الحافظ ابن حجر على حديث عمر آنف الذكر، بقوله: ( وَيَحْتَاجُ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ إِلَى تَأْوِيلِ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ.. فمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنْصَارِيٌّ لَا نَسَبَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ بَعْدَ عُمَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ قُرَشِيًّا أَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ) فتح الباري (13/ 119). ولست أدري لماذا تكلف الحافظ – عليه شآبيب الرحمة – هذا التأويل، فالمعلوم أن عمر لم يتغير رأيه وقد ردد نفس القول وهو مطعون على فراش الموت كما في رواية الطبري التي أوردناها قبل قليل، وأما أن يكون الإجماع قد انعقد بعده فسنبين عدم وقوع ذلك.
4- إن مسألة الخلافة محل نظر سياسي نسبي وليست من قواطع العقيدة، فالحكومة وسيلة لإقامة العدل بين الناس، ولم تؤسس على أساس سلالي أو قبلي، وإنما تركت شورى بين الناس.
والناس لا يصدرون فيها عن وحي قاطع، وما ثم إلا وصية سياسية زمنية أفاد منها الصحابة في أول الأمر، ولو كانت من القواطع لما نشب الخلاف عليها أول الأمر في السقيفة، ولما قال الأنصار (منا أمير ومنكم أمير)، إذ لا يمكن أن يخفى عليهم قطعية أمر جلل كهذا، وما ثم إلا نظر مصلحي أذعنوا له لما رأوا رجحان نظر الصديق والفاروق، وإخراج نقاش السقيفة من دائرة الاجتهاد السياسي إلى دائرة التقرير العقدي، مجافاة للحقائق وغلو في الدين إذ الخلافة من الفروع كما قرر أهل السنة بخلاف الشيعة الذين يعتبرونها من الأصول، وهذا الاجتهاد الذي قرره الصحابة انطلق من تعليلات مصلحية بحتة أشهرها ما جاء على لسان أبي بكر بقوله للأنصار : (ولن تعرِفَ العربُ هذا الأمرَ إلَّا لهذا الحيِّ مِن قريشٍ هم أوسطُ العربِ نسبًا وداراً) صحيح ابن حبان (414).
5- الذين يقولون بالإجماع يستندون إلى إجماع أهل السقيفة، كما ذكر النووي : ( وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ والتابعين) شرح النووي على مسلم (12/ 200). ودعوى الإجماع لا تصح، لأن أول من خالف إجماع الصحابة في السقيفة، الصحابي الجليل سعد بن عبادة، فقد رفض بيعة أبي بكر وعمر وهاجر إلى الشام بعد ذلك، ولم يبايعهما، ورواية رفض سعد بن عبادة لمبايعة الشيخين معروفة مشهورة أخرجها ابن سعد في الطبقات (3/ 463)،وقال ابن تيمية : (وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ إِلَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)منهاج السنة(8/330). وهو اجتهاد يخرم دعوى الإجماع على القرشية، إلا أن يقول قائل إن سعداً لا يعتد به! ودون ذلك خرط القتاد.
6- نقل الإمام النووي – قدس الله سره – أن التابعين أجمعوا على قرشية الخلافة، وهي دعوى لا تثبت عند التحقيق العلمي، فقد خرج جمهور التابعين على عبد الملك بن مروان القرشي، وبايعوا عبد الرحمن بن الأشعث الكندي اليماني خليفة للمسلمين، وكان من رؤوسهم، الإمام الشعبي والإمام سعيد بن جبير ، والإمام عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومسلم بن يسار ، وأبو إسحاق السبيعي، وَعبد اللَّه بْن شَدَّاد، وَعقبَة بْن عَبْد الغافر، وغيرهم من أجلة التابعين، وكانت لهم كتيبة خاصة تسمى كتيبة القراء في معركة “دير الجماجم”، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش قَالَ : ( كَانَ الْعلمَاء يحدثُونَ أَنه لم تخرج خَارِجَة خير من أَصْحَاب الجماجم والحرة). العلل (3/ 168).
وبايعوا ابن الأشعث بديلاً لعبد الملك بن مروان على: (كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين) تاريخ الطبري (6/ 338). تاريخ الإسلام(6/3)، الكامل في التاريخ٣/٤٩٠، البداية والنهاية(12/307)،أنساب الأشراف 7/314، المستخرج(3/63)،الوافي (18/134).
ولم تقف القرشية عائقاً أمام تنصيب خليفة ارتضاه جمهور التابعين في العراق، حتى أن الحافظ ابن كثير تعجب من إغفالهم لشرط القرشية فقال : (وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ) البداية والنهاية (12/ 355)! والعجب كل العجب ليس من صنيع جمهرة علماء العراق وأئمة التابعين وتلاميذ الصحابة الكبار أمثال الشعبي وابن جبير وأضرابهم، وإنما العجب من هيمنة التقليد على العقل الإسلامي، حتى غطت مسألة القرشية على عالمية الخطاب القرآني الذي يجعل معيار الأفضلية في التقوى لا الأنساب والسلالات إذ يقول تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) !
ولنا أن نسأل، هل يعقل أن يجهل أئمة التابعين حكماً مثل هذا؟ وهل تصح مع تطبيقهم العملي لإسلامية الخلافة، أي دعوى للإجماع بعد ذلك؟!
7- وقد حشد مؤيدو النظرية القرشية مجموعة من الأحاديث الصحيحة، مثل حديث «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ»صحيح البخاري، والأمر هنا إما أن يكون أمر الخلافة وقد ذهبت من قريش في القرن السابع الهجري، وإن حاول بعض شراح الحديث أن يتمحلوا لها التأويلات. وإما أن يكون أمر الدين؛ وفي الحديث بشارة بثبات أهل قريش على ملة التوحيد ما بقي منهم اثنان، وهذا الذي نرجحه ويؤكده خبر التاريخ. وما يعزز هذا الرأي حديث النبي: (كان هذا الأمرُ في حِمْيَرَ فنزعَه اللهُ منهم وصيَّرَه في قريشٍ وسيعودُ إليهم) السلسلة الصحيحة 5/34. وفي الحديث دليل إلى ما ذهبنا إليه من زمنية الخلافة القرشية، وأن أمر الخلافة جار على سنة التداول بين الناس، وقد فهم ذلك قديماً الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص فروى أنه (سيكون ملك من قحطان) صحيح البخاري.
ومن الأحاديث التي استدل بها القوم، قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ» صحيح البخاري. فإما أن يكون أمر الدين فقد سبق تأويله، أو يكون أمر الخلافة، فلا إشكال، إذ بقيت الخلافة فيهم أيام الراشدين، فلما زاغ المتأخرون من أئمة قريش ولم يقيموا الدين، خذلهم الله ونزع منهم الخلافة.
8- ونحن نتفهم تواطؤ الفقهاء في العهد العباسي على مسألة القرشية، فذلك راجع لعدة أسباب من أهمها الحفاظ على وحدة الأمة تحت رمز واحد، فإن استقلال بني أمية في الأندلس عن خلافة بغداد، ثم ظهور حالات النزوع والاستقلال في بقية الأقاليم كان يمكن أن يذهب بالوحدة السياسية للأمة، فرأى الفقهاء مسوغية تفرد الحكومات المحلية والإقليمية بالنفوذ في إقليمها شريطة الاعتراف بالرمز الجامع في بغداد، وهكذا نشأت الدول الإسلامية تحت التاج العباسي، دولة بني ساسان والبويهيين والغزنويين والخوارزميين في الشرق، ودولة بني أيوب وابن طولون والإخشيد في الشام ومصر وغيرهن من الدول، وقد وجدنا القاضي عبد الجبار يقول بالقرشية، وكان حري به وهو معتزلي أن يتابع أقوال مشايخه في إسلامية الخلافة، لكن اقترابه من المطبخ السياسي فرض عليه فقه الموازنات فمال إلى القرشية.
9- مشكلة كثير من المسائل الفقهية تكمن في التقليد وجفلة الفقهاء عن الخروج من مقررات المذهب، فيردد العشرات منهم تقريرات السابقين دونما نظر واجتهاد واستقلال، وهذا التكرار يفزع القارئ ويلقي في نفسه الروع فيحجم عن مفارقة الجمع الغفير من الفقهاء ولو كان الدليل في غير صفهم.
غير أن أساطين الفقه السياسي قد أعادوا النظر في ذلك الاختيار السني، ومالوا إلى رأي جمهرة التابعين وهو كذلك رأي الخوارج والمعتزلة في إسلامية الخلافة(أي أن يتولاها أي مسلم كفء لها)، فقد قاد الاستقراء الفقهي لإمام الحرمين الجويني إلى تأسيس قاعدة كلية في التعامل مع الفقه السياسي أودع فيها نتائج استقرائه قائلاً : ( مُعْظَمُ مَسَائِلِ الْإِمَامَةِ عَرِيَّةٌ عَنْ مَسْلَكِ الْقَطْعِ، خَلِيَّةٌ عَنْ مَدَارِكِ الْيَقِينِ)الغياثي(ص: 75). ومن هنا جاء اجتهاده في مسألة القرشية منسجماً مع رؤيته الكلية لطبيعة الحقل السياسي، وهو حقل خاضع للمبادئ الكلية، عري عن التفصيلات المتروكة للبشر، فلم ير العمل بحديث «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»، وعلق عليه قائلاً: ( وَهَذَا مَسْلَكٌ لَا أُوثِرُهُ، فَإِنَّ نَقَلَةَ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْدُودُونَ، لَا يَبْلُغُونَ مَبْلَغَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّا لَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا ثَلَجَ الصُّدُورِ ; وَالْيَقِينَ الْمَبْتُوتَ بِصَدَرِ هَذَا مِنْ فَلْقٍ فِي رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَمَا لَا نَجِدُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَإِذًا لَا يَقْتَضِي هَذَا الْحَدِيثُ الْعِلْمَ بِاشْتِرَاطِ النَّسَبِ فِي الْإِمَامَةِ) الغياثي(ص: 80).
وقد تطابق اجتهاد الإمام الجويني مع اجتهاد الإمام الباقلاني الذي قال عنه الدارقطني : (هذا إمام المسلمين والذّاب عن الدّين). فقد ذهب الباقلاني إلى أن (ظَاهر الْخَبَر لَا يَقْتَضِي ذَلِك وَلَا الْعقل يُوجِبهُ وَظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَئِمَّة من قُرَيْش) يُوجب كَونهَا شائعة فِي سَائِرهمْ) التمهيد:(ص475).
10- ثم أضاف الفقيه المالكي وأبو علم الاجتماع العلامة ابن خلدون بعداً آخر في فهم مسألة القرشية، وهو بعد يتسق مع التحليل الاجتماعي الذي مهدنا به هذا المقال، فهو يؤكد أن مقصد الشارع تحقيق الاستقرار وذلك عائد للعصبية التي تشتد حول الملك ولما كانت قريش ذروة عصبية مضر في عهدها فقد كانت الوصية لها، فلما ذاب ملك العرب وظهرت عصبيات أولى بحماية الدين منهم وأقوى، انتقلت الخلافة إليهم، تحقيقا لمراد الشارع في تحقيق الاستقرار، يقول ابن خلدون: (فإذا ثبت أنّ اشتراط القرشيّة إنّما هو لدفع التّنازع بما كان لهم من العصبيّة والغلب وعلمنا أنّ الشّارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمّة علمنا أنّ ذلك إنّما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلّة المشتملة على المقصود من القرشيّة وهي وجود العصبيّة فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبيّة قويّة غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية) المقدمة (1/ 245).
11- أما الأحرار من فقهاء اليمن، فقد انحازوا إلى إسلامية الخلافة، وكان في مقدمتهم أشجع مجتهدي اليمن وأجسرهم على مصاولة الأفكار ومنازلة الأقران، الإمام صالح المقبلي، فقد قال : ( وأما ما يدعونه من إجماع الصحابة على المنصب فغير صحيح.. والذي وقع من الصحابة تولية قرشي ولم يذكر أحد منهم أن ذلك شرط.. والحاصل أن الصحابة فعلوا فعلاً وجدوه أقرب شيء في تلك الحادثة إلى تحصيل المقصود، فأخذ الناس الواقعات شروطاً، ولا يلزم من الوقوع الوجوب. ثم عمود ذلك بعد، إجماع الصحابة، ودون الإجماع الذي يكون حجة خرط القتاد) المنار(2/464). وهو رأي العلامة نشوان الحميري إذ قال: (من كان أتقى الناس وأكرمهم عند الله وأعلمهم بالله وأعلمهم بطاعته كان أولاهم بالإمامة، والقيام في خلقه، كائناً من كان منهم عربيا أو عجميا ) (قرشية الخلافة، ص: 123). وممن قال بإسلاميتها العلامة المجتهد أحمد بن حسن الجلال، وهو ورأي الإمام الزيدي أحمد بن يحيى المرتضى “صاحب متن الأزهار، إذ قال: (جواز نصب كل من صلح للقيام بالمقصود منها، ويحصل العلم بذلك، قرشياً كان أو غيره، هاشمياً كان أو غير هاشمي) الإصباح (1 / 149). ومن فقهاء الزيدية الذين آبوا إلى إسلامية الخلافة، الإمام عز الدين بن الحسن الذي خاض تجربة سياسية قصيرة مطالبا بالإمامة لنفسه، ثم ما لبث أن خذلته القبائل فعاد أدراجه إلى الدرس العلمي، ثم خرج من تجربته المريرة بخطورة النظرية القرشية والعلوية منها على وجه الخصوص، فنادى بإسلامية الخلافة في كل من يصلح لها. (قرشية الخلافة ص:142).
12- وقد ذهب جمهرة فقهاء النظرية السياسية الإسلامية اليوم إلى إسلامية الخلافة، وطرحوا فكرة القرشية جانباً، ومنهم الفقيه محمد أبو زهرة، والمحدث السوري محمد المبارك، والمجتهد السوداني حسن الترابي، والعلامة عبد القادر عودة، والأصولي عبد الوهاب خلاف، وأحمد شاكر، وعبدالحميد متولي، وياسين عبد العزيز، ولؤي صافي.. ومن فقهاء الشيعة المعاصرين العلامة محمد حسين فضل الله، الذي تنكر لولاية الفقيه ونادى بولاية الأمة. وجمع ممن لا تتسع المقالة لحشد أقوالهم.
13- وقد كفى الله المؤمنين القتال، فقد جرت سنة التداول على العرب وقريش بوجه الخصوص، فقد تلاشت القبضة العباسية عقب مقتل المتوكل العباسي سنة 247هـ، إذ هيمن على أمور الخلافة الترك والفرس، وكان الخليفة رمزاً لا يملك من أمر السلطة شيئاً، ثم ما لبث هذا الرمز أن جرفته جحافل التتار عام 656هـ، ثم نصب المماليك رمزاً آخر لاستكمال مسرحية القرشية، ولكنها انتهت على يد السلطان سليم القاطع عام 923هـ، حين أخذ الخلافة من آخر رمز عباسي، فصارت الخلافة رمزاً وحقيقة لدى العثمانيين الأتراك حتى سقطت دولتهم. وأما في المغرب العربي فقد سقطت دولة بني أمية، ثم نهض بعد ذلك الموحدون البربر، وكانوا يعتبرون أنفسهم خلافة إسلامية، وأميرهم أمير للمؤمنين، ولم يتلفتوا للنظرية القرشية، وهم مالكية المذهب. وقد فعل حكم التاريخ وسنتة في التداول على النظرية القرشية، مالم تفعله أقلام الأحرار من الفقهاء.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صورة من مفاعيل سنة التداول فقال : (كان هذا الأمرُ في حِمْيَرَ فنزعَه اللهُ منهم وصيَّرَه في قريشٍ وسيعودُ إليهم) السلسلة الصحيحة 5/34. وفي الحديث دليل إلى ما ذهبنا إليه من زمنية الخلافة القرشية، وغيرها، فمقتضى عدالة الله أن يداول الأمر بين الأمم، وأن يعطي لكل أمة فرصتهم في الاختبار.
وتلك وأيم الله من مزايا حضارة الإسلام العظيمة، فقد حكمت كل الأمم التي دخلت الإسلام باسمه، ولم تكن القيادة حكراً على جنس دون جنس، فقد ساد العرب والفرس والترك والبربر والكرد باسم الإسلام، فكانت واحدة من تجليات عالمية هذا الدين العظيم.
14- ومما يحسب للنظرية القرشية أنها لا توجب الخروج بالسيف لأجل تحقيقها كما تفعل نظرية البطنين المتوحشة، بل يرى أرباب النظرية القرشية قبول تغلب المفضول وغير القرشي، وجريان أحكامه، وهذا ما يسر تكييف ظهور العديد من الدول التي حكمت باسم الإسلام.
15- ومرادي من هذه المقالة المطولة تلخيص أسفار النزاع القديم الحديث بين أنصار القرشية وأنصار الإسلامية، خاصة في أيام يتعرض ديننا لغمز من أهل الأهواء الذين يزرون على الفقهاء اجتهادهم، أو أنصار نظرية البطنين(الهادوية ترى الحكم في ذرية الحسن والحسين) الذين يجعلون من النظرية القرشية متكأ لهم، وكلا الطرفين جاف وغال.
والأيام تؤكد لنا الدرس القديم الجديد: ما لم يفيء الناس إلى شورى تحكمهم، وشرعة غير شرعة الاستبداد القبلي والسلالي والفئوي، فلا أمل بخروج الأمة من أزمتها المزمنة.. والله الهادي إلى سواء السبيل.
جزاكم الله خير الجزاء على هذه المحاضرات القيمة وفقكم الله لما يحب ويرضى
ومن العلماء الذين لم يقولوا بشرط القرشية سيف الدين الآمدي الحنبلي ثم الشافعي في غاية المرام ونجم الدين الطرسوسي الحنفي في تحفة الترك.
أيضاً لم ينتقد السلف ثورة القراء ومبايعتهم لابن الأشعث بسبب عدم القرشية وكذلك مخالفيهم الذين كانوا مع عبدالملك بن مروان لم يثيروا المسألة مع حاجتهم لها وهذا يدل على ان اشتراط القرشية قول محدث.
والأئمة أبوحنيفة ومالك وأحمد لم يشترطوا القرشية في كتبهم ولم ينقلها عنهم تلاميذهم وإنما نسبها إليهم فقهاء متأخرين بدون إسناد.
ومن العلماء الذين لم يقولوا بشرط القرشية سيف الدين الآمدي الحنبلي ثم الشافعي في غاية المرام ونجم الدين الطرسوسي الحنفي في تحفة الترك.
أيضاً لم ينتقد السلف ثورة القراء ومبايعتهم لابن الأشعث بسبب عدم القرشية وكذلك مخالفيهم الذين كانوا مع عبدالملك بن مروان لم يثيروا المسألة مع حاجتهم لها وهذا يدل على ان اشتراط القرشية قول محدث.
والأئمة أبوحنيفة ومالك وأحمد لم يشترطوا القرشية في كتبهم ولم ينقلها عنهم تلاميذهم وإنما نسبها إليهم فقهاء متأخرين بدون إسناد.