تمهيد:
كنَّا قد تناولنا في الجزء الثَّاني من هذه السلسلة البراهين القاطعة على حجية السُّنَّة النَّبوية، وفي هذا الجزء نستكمل بقية البراهين القاطعة على حجية السُّنة النبوية، وضرورة العمل به، وكل هذا التأصيل مقدمات لتفنيد نظرية “ساعي البريد” التي يروج لها من يزعمون أنَّ حديث النَّبي ﷺ من التَّاريخ ولا حجَّة فيه.
براهين حجية السنة
3- الآيات الدالة على أنَّ السُّنة وحي:
أجمع أهل الملة على أنَّ الوحي الإلهي المنزل على محمد ﷺ لم يكن محصورًا في القرآن الكريم فقط، بل هنالك وحي خارج نصوص القرآن، وحتى منكري السنة – على الأقل أصحاب السُّنة العملية – لا يجرؤون على إنكار هذه البدهية العقدية، فمن الأشياء التي يقرون بأنها وحي خارج القرآن، قضية ترتيب سور وآيات القرآن الكريم، فهي موقوفة على الوحي، وكذلك عدد الصلوات وهيئاتها وأوقاتها الدقيقة، يقرون بأنها جاءت بوحي منفصل عن القرآن، فإذا ما وصلوا إلى أوامر النَّبي ﷺ رفعوا عنها مصدرية الوحي، وجعلوها من بنات أفكاره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل إنَّ بعضهم يزعم أنَّ القول بأن السُّنة وحي، تقليد لأهل الكتاب من اليهود الذين أضافوا إلى التَّوراة التَّعاليم الشفهية التي أودعوها في التلمود(1)، بل يستدل بعضهم بمقولة منسوبة إلى عمر بن الخطاب: (مثناة كمثناة أهل الكتاب)، وهو أثرٌ لا يصحُّ عن عمر، وقال عنه المحدث المعلمي: (منقطع)(2). وليس فيه ما يمكن أن يسند قولهم بأنَّ الوحي موجود في القرآن فقط.
غير أنّا لو تصفحنا آيات الكتاب العزيز، لوجدنا البيان القرآني يؤكد بأنَّ النبي ينطق عن الوحي، ويصدر عن التوجيه الإلهي، قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴿١﴾ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)النجم:1-4. وقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿٤٦﴾) الحاقة: 44-46. والتقول على وزن تفعّل، من إحداث قول داخل القرآن أو خارجه.
قال ابن حزم: (فيقال [للمخالف]: أيفعل الرَّسول ﷺ أو يقول شيئًا من قِبل نفسه دون أن يوحى إليه به؟ فإن قال: نعم. كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عزَّ وجل {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ }الأنعام:50(3). وحركة الرسول الدينية كانت حسَّاسة ملتزمة باتباع الوحي، وكان يتوقف في كثير من النَّوازل حتى ينزل بشأنها وحي، سواء كان هذا الوحي مما في القرآن أو من خارجه، كما في مسألة المواريث وغيرهما(4)، وقد ورثَ عنه الصَّحابة هذه الحساسية الاتباعية، فإذا نزلت بهم النَّازلة فتشوا عنها في كتاب الله أو سنة رسوله، كما فعل عمر حين حار في أمر المجوس حتى جاءه عبد الرحمن بن عوف بحديث (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)(5), فأخذ منهم الجزية.
فبينت الآيات في كتاب الله أنَّ حركة محمَّد ﷺ الدينية وحي منزلٌ من الله، وحين نقول الدينية، فنحن نتحرَّز من حركته الجبلية الطبيعية كإنسان ينام ويقوم ويأكل.
وشواهد هذا التَّقرير القرآني لوحيانية السُّنة لا حصر لها، فمن أمثلة ذلك قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ) البقرة: 143. فبينت الآية أنَّ المسلمين صلوا إلى غير الكعبة فترةً من الزمن، ثمَّ جاء القرآن وحولهم باتجاه الكعبة، ففي أي قرآن نجد تشريع القِبلة الأولى، وهو حكم جوهري يمسُّ الركن الثاني من أركان الإسلام؟! فتبين لنا أن ثمة وحي غير القرآن كان يتنزل على محمَّد ﷺ م ومنه يشرّع أحكام الدين.
وعدد فروض الصلاة الخمس لم تنزل في القرآن إجماعًا، وإنما جاء بها وحي غير القرآن، والكافة متفقون عليها، فما هو هذا المصدر إن لم يكن وحي السُّنة؟
فعلمنا أنَّ تشريعه ﷺ وحي واجب الاتباع، وأنه لا يأمرنا بشيء، إلا بوحي من الله، فلزمتنا سنته.
4- دور السُّنة في تفسير الكتاب:
ليس من دور ساعي البريد أن يشرح لك مضمون الرّسالة ومقاصدها وفحواها، وإنما عليه أن يسلمك الرسالة ثم ينصرف، وهذا هو الطبيعي في عمله، بل لو تجاوز ذلك لعد نوعًا من الفضول والتطفل والافتئات على المرسِل والمرسَل إليه، هذا ما يلزم من إنكار السنة النبوية، ووضع الرسول ﷺ في مقام التوصيل فقط، وهو مقام نجد عكسه مزبورًا في كتابِ الله، إذ تنتصب الآيات تباعًا لتبين أنَّ دور الرسول ﷺ أنَّ يبين مرامي الوحي الإلهي المزبور في القرآن أو المأتي خارج القرآن، ويشمل ذلك البيان الشق العلمي والعملي، العلمي بالشرح والتفصيل والبلاغ، والعملي بالتطبيق الحرفي والتمثل الحياتي لموجهات الوحي، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الجمعة:2. وقد فطن الصَّحابة لهذا الدور المحوري للرسول ﷺ فكانوا يقتفون آثاره كي تستقيم خطاهم على موجهات الوحي.
وهذا ما قام به النَّبي ﷺ أحسن قيام، جزاه الله خير ما جزى نبيًا عن أمته، واستحقَّ شهادة الأمة في حجة الوداع حين سألهم: (أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ” قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ)(6) صلوات ربي وسلامه عليه، وقد شهد لبيانه الواضح حين قال : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها)(7).
ومن الآيات التي بينت هذا الدور المحوري للرسول ﷺ قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) النحل:44.
وهنا يثور سؤال: إذا كان القرآن مبين ومنفهم في ذاته كونه بلسان عربي مبين، فلماذا يضيف الله جل جلاله هذه المهمة الجليلة لمحمد ﷺ؟ وما فائدة البيان النبوي بجوار البيان الإلهي : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)القيامة:19، وقوله تعالى:(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)الشعراء:195. ؟ ولا جواب محكم إلا أن يكون في بيان محمد نوع تفصيل وفك لمجملات القرآن الكريم، ألا ترى أن كثيراً من الأحكام قد وردت مجملة في كتاب الله، فلم تبين تفاصيلها ومقاديرها وهيئاتها إلا السنة، وقد خرج الإمام الشاطبي بهذا النتيجة بعد استقراء لآيات القرآن الكريم قال عنه: (تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَكْثَرُهُ كُلِّيٌّ لَا جُزْئِيٌّ.. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ الْمُعْتَبَرِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبَيَانِ؛ وإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا هِيَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ)(8). وقال في موضع آخر: (أَنَّ السُنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبِيِّنَةً لِلْكِتَابِ وَشَارِحَةً لِمَعَانِيهِ.. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67]، وَذَلِكَ التَّبْلِيغُ مِنْ وَجْهَيْنِ: تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْكِتَابُ. وَبَيَانُ مَعَانِيهِ.. فَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَوَارِدَ السُّنَّةِ وَجَدْتَهَا بَيَانًا لِلْكِتَابِ)(9). فالصلاة والزكاة جاءت أحكامها في القرآن مجملة، ثم فصلتها السنة وبينت مقاديرها وهيئاتها، وغيرهما من الأحكام الكثيرة.
وقد اعتمد بعض منكري السنة على ندرة روايات تفسير النبي ﷺ لآيات القرآن الكريم، باعتبار أن القرآن مستغن بنفسه عن التفسير والبيان، واتخذوا من ذلك حجة لهم على عدم الحاجة للسنة! وهي وأيم الله حجة عليهم لا لهم لو كانوا يفقهون؛ فإنهم توهموا أن الرسول ﷺ سيكتب ملحقا تفسيريا للقرآن كما فعل الطبري أو الرازي فيبين كل آية ومعناها!! ولم يفطنوا إلى أن البيان المطلوب من النبي ﷺ هو بيان الرسالة، في إطار عمل تكاملي بين وحي القرآن ووحي السنة، فما جاء في القرآن مفصلاً طبقه النبي ﷺ كآيات المواريث، وما جاء مجملاً كالصلاة والزكاة وغيرهن من التشريعات، فصلّته السنة، إذ الهدف بيان الدين، وليس تذييل الكتاب بملحق تفسيري لكل آية كما يفعل المفسرون، إذ القرآن نزل بلسان القوم المبين، ولا يحتاجون إلى تفسير كل آية فيه بحكم سليقتهم العربية، وإنما أجمل القرآن بعض التشريعات، فقام وحي السنة بإكمال مهمة البيان.
وهنا ندرك دور وحي السنة في بيان الرسالة السماوية، سواء جاء أصلها في القرآن، أو استقلت ببيانه(10).
5- آيات الحث على اتباع أمر النبي واجتناب نواهيه
لا تمنح الدساتير حق التقنين الملزم لأحد، إلا لهيئة دستورية عليا هي مظنة الالتزام بروح الدستور وموجهاته، وتكون هذه الهيئة منتخبة من الشعب ممثلة لجمهوره الأغلب، لأن مسألة التقنين من الخطورة بمكان في المجتمعات البشرية، وعلى إثرها يتم تنظيم حياة الناس.
ولله المثل الأعلى، فقد وجدنا القرآن الكريم يمنح الرسول ﷺ حق التشريع بل ويلزمنا باتباع أوامره التشريعية واجتناب نواهيه التشريعية، ونقول التشريعية الدائمة مثل تحريمه نكاح المتعة أو إيجابه قضاء الصيام على النفساء دون الصلاة، احترازاً من أوامره الإدارية التي انتهت في وقتها كتأميره أسامة بن زيد على الجيش، وما كان للقرآن أن يشدد في هذا الأمر، إلا لأن الوحي يتنزل على محمد ﷺ بأوامر إلهية غير التي جاء بها القرآن الكريم، خاصة إذا عرفنا أن محمداً لا يستقل بالتشريع عن ربه، فما هو إلا مبلغ، إذ المشرع النهائي هو الله جل جلاله.
ومن أدل الآيات على هذا المعنى المحوري قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) الحشر:7. وقد حاول بعض منكري السنة تأويل هذه الآية بأنها تتعلق بالغنائم، محتجين أن الآية جاءت في سياق الحديث عن الغنائم، متجاهلين أنه (لا مانع أن تساق قاعدة عامة في سياق خصوصي)(11)، وهذا ما فهمه الصحابة وهم أهل اللسان القرآني الأول فعن عبد الله بن مسعود قالَ: لَعَنَ اللَّهُ الواشِماتِ.. فَقالَتْ امرأة: لقَدْ قَرَأْتُ ما بيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَما وجَدْتُ فيه ما تَقُولُ، قالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لقَدْ وجَدْتِيهِ، أما قَرَأْتِ: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عنْه فانْتَهُوا}؟ قالَتْ: بَلى، قالَ: فإنَّه قدْ نَهى عنْه)(12). وقد نقل القرافي تواطؤ عامة أهل العلم على هذا الفهم فقال: (قال جماهير الفقهاء والمعتزلة يجب اتباعه عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: «وما أتاكم الرسول فخذوه»)(13).
ولو لم يكن أمر النبي ﷺ مصدراً تشريعياً، لبطلت أوامره التي يقبل بها بعض منكري السنة، ممن يؤمنون بالسنة العملية، فالسنة العملية نتاج أوامر نبوية- على الأقل في اتباع هيئاتها لا أصل تشريعها إذ الأصل في القرآن- مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)(14)، أو أمره صلى الله عليه وسلم : (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ)(15). فكيف جاز لكم قبول أوامره هنا، ورفض أوامره الأخرى؟! أليس هذا إيماناً ببعض الكتاب وكفر ببعض؟!
بل تنتقل الآيات إلى رتبة أشمل من رتبة الائتمار بأوامره، فتجعل لأفعاله وتصرفاته مقصداً تشريعيا، فصارت أفعال النبي وسيرته مصدراً تشريعيا خصباً، بموجب حث القرآن على اتباعه قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ) البقرة: 143. ولقد صلى المسلمون على القبلة الأولى بدون قرآن وإنما اتباعا للرسول ﷺ، فكيف اتبعوه من غير قرآن؟! إلا أن تكون سنته حجة عندهم، كما بينته الآية، واعتبرت عصيانه، انقلاباً على العقب.
ثم تختم الآيات بمقام القدوة الكاملة ﷺ، فيقول تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا) الأحزاب:21.
ولذلك ذهب جمهور الأصوليين إلى أنَّ فعل النَّبي ﷺ تشريع يفيد النَّدب أو الإباحة في أقل تقدير، مالم تتعلق به قرينة تنقله إلى الوجوب(16)، بينما يدل أمره على الوجوب مالم تصرفه القرائن ما هو دون الوجوب من الندب، فقوله وأمره آكد في الفرضية من فعله، صلوات ربي وسلامه عليه.
البرهان الثالث: إجماع الأمة :
1- هنالك إشكالية لدى القائلين بعدم محفوظية السنة في فهم طبيعة الخاتمية لهذا الدين، فإن من مقتضيات الخاتمية وعدم إرسال الرسل بعد محمد ﷺ، أن يتولى الله حفظ حجته على البشر، وهذا لا يتمُّ إلا من خلال ثلاثة أشياء ضرورية:
الأولى: حفظ أصول الدين “الكتاب والسُّنة”.
الثانية: حفظ أمة الدين “أمة محمَّد ﷺ .
الثالثة: حفظ الفهم الصحيح لهذا الدين” عصمة الأمة وعدم اجتماعها على الضلال. فلو سقط أحد أركان هذا الحفظ، لارتفعت حجة الله على البشرية، و لاحتاج النَّاس إلى رسولٍ جديد.
والنَّاس يظنون أنَّ حفظ الكتاب هو العناية واللطف الإلهي الوحيد، بينما لا يدركون أنَّ حفظ الأمة حاملة الكتاب ركن أساس في حفظ الكتاب، ولنا أن نتخيل انقراض أمة الإسلام، وبقاء القرآن محفوظًا في أرشيف جامعة أكسفورد أو السوربون، فهل يغني ذلك من شيء؟!
والأدلة على محفوظية الأمة التي تحمل الكتاب كثيرة في كتاب ربنا وسنة نبينا، قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأعراف:181. قال ابن جريج وعطاء: (ذُكر لنا أن نبي الله ﷺ قال: هذه أمتي) .(17)
وقد جاءت الأحاديث لتؤكد هذا المعنى القرآني، منها قول النبي e: ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)(18). وقوله ﷺ: ( لَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)(19)، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( إنَّ اللهَ زَوى لي الأرضَ -أو قال: إنَّ ربِّي زَوى لي الأرضَ- فرَأَيتُ مَشارقَها ومَغاربَها، وإنَّ مُلكَ أُمَّتي سيَبلُغُ ما زَوى لي منها، وإنِّي أُعطيتُ الكَنزَينِ: الأحمرَ والأبيَضَ، وإنِّي سَأَلتُ ربِّي لأُمَّتي ألّا يَهلِكوا بسَنةٍ بعامَّةٍ، ولا يُسلِّطَ عليهم عَدوًّا مِن سِوى أنفُسِهم يَستَبيحُ بَيضتَهم، وإنَّ ربِّي قال: يا مُحمَّدُ، إنِّي إذا قَضَيتُ قَضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ، -وقال يونُسُ: لا يُرَدُّ- وإنِّي أَعطَيتُكَ لأُمَّتِكَ: ألّا أُهلِكَهم بسَنةٍ بعامَّةٍ، ولا أُسلِّطَ عليهم عَدوًّا مِن سِوى أنفُسِهم يَستَبيحُ بَيضتَهم، ولو اجتمَعَ عليهم مِن بيْنِ أقطارِها، -أو قال: مَن بأقطارِها- حتى يَكونَ بعضُهم يَسبي بعضًا، وإنَّما أخافُ على أُمَّتي الأئمةَ المُضِلَّينَ، وإذا وُضِعَ في أُمَّتي السَّيفُ لم يُرفَعْ عنهم إلى يومِ القِيامةِ، ولا تَقومُ السّاعةُ حتى يَلحَقَ قَبائلُ مِن أُمَّتي بالمُشركينَ، حتى تَعبُدَ قَبائلُ مِن أُمَّتي الأَوثانَ، وإنَّه سيَكونُ في أُمَّتي كَذّابونَ ثَلاثونَ كُلُّهم يَزعُمُ أنَّه نَبيٌّ، وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ لا نَبيَّ بَعدي، ولا تَزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي على الحَقِّ ظاهرينَ، لا يَضُرُّهم مَن خالَفَهم حتى يَأتيَ أمْرُ اللهِ)(20).
وأما حفظ الفهم الصحيح للدين، فقد قال عليه الصلاة والسَّلام: (لّا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلى ضلالَةٍ)(21)، وكما هو معلوم فإن إجماع الأمة حجة قاطعة فهي لا تجتمع على ضلالة، ولو اجتمعت الأمة على ضلالة لاندرست معالم الدين، وانتهت حجة الله على البشر، واحتاج البشر إلى رسول ورسالة تقيم عليهم الحجة؛ ولمنكر الإجماع أن يتصور أن الأمة الإسلامية أجمعت على أنَّ الله ثالث ثلاثة، أو أجمعت على إنكار البعث في اليوم الآخر، وأولت اليوم الآخر بأنه يوم من أيام الدنيا، أو أجمعت الأمة على إباحة الزنا مثلاً، وأولت آيات الزنا بشيء معين، فما هي فائدة حفظ القرآن في أمة قد تواطأت على فهمه بغير ما أراده الله! إذا لسقطت حجة الله على الناس، ولما أصبح لحفظ حروف القرآن أي معنى، لأنَّ عصمة الأمة في فهم كليات القرآن وقواطعه ضرورة قصوى للاستفادة من حفظ الحروف. ألا ترى أنَّ أهل الكتاب حين انحرفت مفاهيمهم الكلية في دينهم لم يبق لكتبهم أي دور، حتى أنَّ بعض العلماء كالبخاري كانوا يرون أنَّ التحريف لم يطال أصل الكتب السَّابقة، وإنما لحق بفهم أهل الكتاب، فزعموا أنَّ الله ثالث ثلاثة، فلم يبق للكتب قيمة بجوار تواطؤهم على الفهم الضال.
ولذلك استلزم حفظ القرآن أن تُعصم الأمة في مجموعها من الإطباق على الزلل، فانتقلت العصمة من النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة بمجموعها، فلا تجتمع الأمة على الضلالة، وهذا مدخل ضروري لفهم خطورة وأهمية دليل الإجماع، فإجماع الأمة حول مسألة ما، ينقلها من التداول الاجتهادي الظني إلى مرتبة اليقين، ونحن نمهّد بهذا القول ليعرف غير المتخصص خطورة وأهمية الإجماع في الأدلة الشرعية.
فمن أهم أدلة حجية السنة النبوية إجماع الأمة من لدن سلفها الأول في عهد الصحابة ومن بعدهم على الاحتجاج بالسنة، واعتبارها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.
وعمل الصحابة بالسنة مر بفترتين، فترة الوحي وحينها أقرهم الوحي على عملهم، وفترة ما بعد الوحي وفيها دأبوا على تقفي السنة والاستدلال بها كمصدر ثان للتشريع بعد القرآن، ومن ثم تابعتهم الأمة حتى اليوم.
وقد كان دأب الصحابة أن يفتشوا في السنة عما لم يجدوا له دليلا في القران، في حياة النبي ﷺ فيقرهم القرآن على صنيعهم دون إنكار، إذ لو كان ذلك الحرص الشديد الذي أبدوه لاتباع المعصوم ﷺ في هديه وأمره ينشأ عنه تشريع مواز لتشريع القرآن كما تزعم نظرية ساعي البريد، لنزلت الآيات مستنكرة ذلك الحرص على اتباعه.
وقد قلت ذات مرة لأحد الذين تلبست بهم نظرية ساعي البريد، آتوني بصحابي واحد أو تابعي واحد أو إمام متبوع في العلم والدين، ترك السنة النبوية واكتفى بالقرآن أو بالمتواتر من السنة كما تدعون؟
والحاصل أنه لا أحد من أصحاب رسول الله ﷺ ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أئمة الدين وفقهاء الملة المتبوعين قد انزلق في هذه الهاوية، بل الأمة متفقة على حجية السنة، قال الشافعي: (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ)(22).وقالَ رحمه الله: (وَلَا أعلم من الصَّحَابَة وَلَا التَّابِعين أحدا أخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا قبل خَبره وانْتهى إِلَيْهِ وَأثبت ذَلِك سنة)(23).
وقد استخدم علماء الأصول مصطلحاً محكماً في الدلالة على حجية السنة فقال الشوكاني:( وَالْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلَالَهَا بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا حَظَّ لَهُ في دين الإسلام)(24). وعندما استخدم الشوكاني مصطلح (الضرورة الدينية) فهو يشير إلى معنى حيوي قرره علماء الأصول، وهو أن مناقشة حجية الكتاب أو السنة ليست من مباحث أصول الفقه، وإنما من مباحث أصول العقيدة لأن منكرها نحتاج معه إلى أن نعلمه أصول الإسلام من جديد، وإلى هذا المعنى أشار الكمال بقوله: (إن حجية الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، من علم الكلام [أي علم العقيدة]، لكن تعرض الأصولي لحجية الإجماع، والقياس؛ لأنهما كثر فيهما الشغب من الحمقى؛ من الخوارج، والروافض: خذلهم الله تعالى. وأما حجية الكتاب والسنة: فمتفق عليها عند الأمة: ممن يدعى التدين كافة فلا حاجة إلى الذكر)(25).
ولذلك جزموا بكفر منكر السنة جملة، قال ابن حزم: (ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة )(26) وقال إسحاق بن راهويه: (من بلغه عن رسول الله ﷺ خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر)(27). وقال السيوطي: (من أنكر كَون حَدِيث النَّبِي ﷺ قولا كَانَ أَو فعلا بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوف فِي الْأُصُول حجَّة، كفر وَخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام)(28). وقال المعلمي: (منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً تقام عليه الحجة، فإن أصرّ بان كفره)(29).
الهوامش:
- العودة إلى القرآن، قاسم أحمد، عن كتاب: حجية السنة، حب الله، ص77.
- الأنوار الكاشفة، ص ٣٩.
- الإحكام(4/111).
- عن جابر بن عبدالله: جاءَتِ امرَأَةُ سعدِ بنِ الرَّبيعِ بابنَتِهِما إلى رسولِ اللهِ فقالَتْ: هاتانِ ابنَتا سعدٍ قُتِل أبوهما معَكَ يومَ أحُدٍ شهيدًا وإنَّ عمَّهما أخَذ مالَهما فلم يَدَعْ لهما شيئًا مِن مالِه ولا يُنكَحانِ إلّا بمالٍ فقال: يَقضي اللهُ في ذلكَ، فنزَلَتْ آيَةُ المَوارِيثِ فدَعا النبيُّ عمَّهما فقال: أَعطِ ابنَتَي سعدٍ الثُّلُثَينِ وأَعطِ أُمَّهما الثَّمَنَ وما بَقِي فهو لكَ). سنن أبي داود، حديث رقم: الصفحة أو الرقم: 2891، وحسنه الألباني.
- الشوكاني، السيل الجرار (2/253) صحيح. ابن حجر، فتح الباري (6/302) منقطع مع ثقة رجاله.
- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع (5/176).
- أبو داود (٤٦٠٧).
- الموافقات(4/180) بتصرف يسير.
- الموافقات(3/230)بتصرف يسير.
- هنالك خلاف بين الشاطبي وجمهرة الأصوليين حول استقلال السنة بالتشريع، يراجع في مظانه.
- حجية السنة، حب الله، (ص:123).
- صحيح البخاري (7/166)، صحيح مسلم (3/ ١٦٧٨).
- شرح تنقيح الفصول (ص: 290) بتصرف يسير يحافظ على سياق الاستدلال دون الإخلال بقصد المؤلف.
- صحيح البخاري (8/9).
- صحيح مسلم (2/ ٩٤٣).
- ينظر: الموافقات، الشاطبي (4/ 420)، الإحكام، الآمدي (1/174)، أفعال الرسول، الأشقر (1/139).
- تفسير الطبري (13/286).
- صحيح مسلم (3/ 1523).
- صحيح البخاري (9/101).
- صحيح مسلم (4/ 2215).
- السلسلة الصحيحة، الألباني (3/319) وحسنه.
- إعلام الموقعين1/6.
- السيوطي، مفتاح الجنة،ص:34.
- إرشاد الفحول 1/97.
- فواتح الرحموت (1/16)، التقرير والتحبير (1/35).
- الإحكام (2/80).
- الإحكام (1/99).
- مفتاح الجنة، ص5.
- الأنوار الكاشفة، ص81.