تناولنا في الأجزاء السابقة للسلسلة براهين حجية السنة، البراهين القطعية من القرآن والإجماع والعصمة، ثم البراهين الثانوية من السنة وعمل الصحابة، وسنبدأ من هذا المقال بعرض أبرز شبهات نظرية ساعي البريد، ويأتي في مقدمة أدلتهم على إنكار حجية الحديث النبوي، زعمهم أن تدوينه قد تأخر. إذ يزعم أصحاب نظرية ساعي البريد ومن لف لفهم من الحوثيين، أن الله تعهد بحفظ القرآن ولم يتعهد بحفظ السنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتدوين السنة، لكفاية القرآن الكريم، ولو كانت السنة بتلك الأهمية لأمر بتدوينها، ثم يعود الحوثي ويتناقض مع نفسه، ويستثني السنة التي جاءت عبر علي بن أبي طالب فهي السنة التي يجب أن يتبعها المسلمون، وأما ما ورد في كتب الحديث الصحيحة، فلا اعتبار لها، وسننقل طائفة من أقواله تؤكد هذه الخلاصة المستلة من أحاديثه الكثيرة:
ماذا قال حسين الحوثي في السنة النبوية؟
أ- يقول حسين الحوثي:( ونعتقد أنه صحيح فعلاً أنه نهى عن كتابة الأحاديث، عن كتابة كلامه، وهذه القضية معروفة، أن هذا الحديث ما بدأ تدوينه إلا من بداية القرن الثاني؛ …. لكن هنا عن طريق التدوين غير المحكم سطروا لنا فخلدوا كذباً، وباطلاً، وضلالاً إلى الآن، إلى الآن ما يزال)(1) .
ب- يقول حسين الحوثي:(أن رسول الله عندما كان يتحدث مع الناس هو يعتبر كلامه نصوص كنصوص القرآن يجب أن تدوّن للأمة؛ لكان هو أول من يجب عليه أن يقوم بهذه المهمة)(2).
ت- ويقول حسين الحوثي:( والمطلوب الإلزام بها نصياً على هذا النحو لوجب أن تكون محفوظة كما حفظ القرآن، وإلا فجوب علي(3) عندما أقول لك: لماذا احتاج كلام الله إلى أن يحفظ؟ أما كلام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فليس بحاجة إلى أن يحفظ! أين أحكم كلام الله، أو كلام رسوله؟. ألم يكن كلام رسول الله هو أحوج إلى أن يحفظ؟ وهو الذي يمكن أن يتطرق إليه الخلل؟)(4) .
ث- وقال أحد مروجي نظرية ساعي البريد:( وهذا لا يعني أن الكتابة في حد ذاتها هي المشكلة التي يخشاها النبي و صحابته, لأنه لا معنى للنهي عن (الكتابة) ما دامت الرواية الشفاهية جائزة, و إنما كان النهي قراراً تكتيكياً من النبي ﷺ قصد به إبطال حركة التدوين الرسمي للحديث في عهده, لأنها الذريعة التي ستحول كلامه إلى دين يؤاخذ عليه الناس).
وشبهة تأخر تدوين السنة النبوية، يرددها الحوثي، ويرددها جمع من المستشرقين والحداثيين العرب، ومنكري السنة النبوية ممن يطلقون على أنفسهم (القرآنيين)، ومن العجيب أن نجد الحوثي يلتقي معهم في أغلب أطروحاتهم.
وكلهم يزعم أن تدوين السنة النبوية قد تأخر إلى القرن الثاني الهجري، وهذا التأخر جاء تماشياً مع التوجيه النبوي بمنع تدوين السنة، لأنها تجربة زمانية انتهت في وقتها، وعمدتهم في ذلك حديث النبي ﷺ: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني فليمحه). وروايات ينقلونها عن الصحابة في منع كتابة الحديث، وكلام كثير حول تأخر التدوين، وهي شبهة قد شوشت على بعض من لا خبرة لهم بتاريخ تدوين السنة، ويلزمنا أن نمر عليها بشيء من الاقتضاب العلمي:
لماذا نهى الرسول ﷺ عن كتابة الحديث؟
أما حديث نهي النبي ﷺ عن الكتابة: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، ومَن كَتَبَ عَنِّي غيرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وحَدِّثُوا عَنِّي، ولا حَرَجَ)(5)، فقد أخرجه الإمام مسلم في باب التثبت في الرواية، فلم يفهم منه حرمة كتابة الحديث وإلا لما تجرأ إمام ثقة كمسلم أن يدون الحديث النبوي في كتابه الصحيح وهو يقرأ نهي النبي، إذا لعُد ذلك غفلة من الإمام، ولكن لو افترضنا غفلة مسلم، فهل كل من دوّن الحديث من جهابذة الأمة كانوا غافلين ولم يقفوا عند النهي النبوي!
لقد وفق العلماء بين حديث النهي وأحاديث الأذن بكتابة الحديث بأقوال لخصها ابن حجر فقال: (وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِوَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ وَالْإِذْنَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالْإِذْنَ فِي تَفْرِيقِهِمَا أَوِ النَّهْيَ مُتَقَدِّمٌ وَالْإِذْنَ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ وَهُوَ أَقْرَبُهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِيهَا)(6). أما الإمام البخاري فقد أعلّ الحديث وقال الصواب وقفه على أبي سعيد الخدري(7).
وقد أعرضت صفحاً عن مناقشة بقية الأحاديث التي يستدلون بها، لأنها لا تصح عن النبي وقد فندها أهل العلم في كتبهم، واكتفينا بالرد على أصح ما يستدلون به، وبسقوط استدلالهم في الصحيح لا تقوم لهم حجة في الضعيف.
وعلى افتراض أن النبي نهى عن كتابة الحديث ولم يأذن به، فهل في ذلك حجة لهم على نفي حجية السنة؟ لا شيء من ذلك، فلم يكتب الصحابة هيئات الصلوات حتى تتحول إلى شريعة ملزمة، وإنما جرى نقلها بالتواتر، فعرفنا أن الكتابة إحدى وسائل حفظ المعلومات، وليست في حد ذاتها دلالة على حجية السنة أو عدمها، فبان لكل ذي لب أن الاحتجاج بالكتابة من عدمها لا علاقة له بمسألة حجية السنة أو عدمها.
هل أذن الرسول ﷺ بكتابة الحديث النبوي؟
ثبت أن النبي ﷺ أذن في كتابة حديثه بأحاديث عدة منها قوله ﷺ : (اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ)(8) . وهو رجل من اليمن طلب كتابة خطبة النبي ﷺ، واستدل به جمهرة العلماء على كتابة حديث النبي، وكتب النبي ﷺ (لعمرو بن حَزْمٍ كتابا إلى أهلِ اليمنِ فيه: الفرائضَ والسننَ والدِّياتَ)(9) ، وأذن لعبد الله بن عمرو بن العاص في كتابة الحديث فقال له: ( اكتُب فوالَّذي نَفسي بيدِهِ ما يَخرُجُ منهُ إلّا حقٌّ)(10)
من هم الصحابة الذين كتبوا الحديث النبوي؟
من هم الصحابة الذين كتبوا الحديث النبوي؟ تتبع العلماء عمل الصحابة فوجدوهم متوافرون على كتابة الحديث النبوي، وقد جمع العلامة محمد مصطفى الأعظمي أسماء 52 صحابياً كتبوا حديث النبي ﷺ، منهم:
أ. أبو بكر الصديق الذي كتب حديث الصدقات وأرسله إلى عامله في البحرين ليعمل به(11) .
ب. عمر بن الخطاب الذي كتب عدة أحاديث منها رسالته لعتبة بن فرقد وفيها نهي النبي عن لبس الحرير(12). .
وممن كتب الحديث النبوي الخليفة الراشد عثمان بن عفان.
وممن كتب الحديث علي بن أبي طالب، فقد كانت لديه صحيفة فيها جملة من أحاديث النبي ، ( فقد سُئِلَ عَلِيٌّ، أَخَصَّكُمْ رَسولُ اللهِ ﷺ بشيءٍ؟ فَقالَ: ما خَصَّنا رَسولُ اللهِ ﷺ بشيءٍ لَمْ يَعُمَّ به النّاسَ كافَّةً، إلّا ما كانَ في قِرابِ سَيْفِي هذا، قالَ: فأخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيها: لَعَنَ اللَّهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ…)(22) .
موقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه من السنة النبوية:
– وقد نُقلت مرويات عن عمر تزعم أنه نهى عن كتابة الحديث النبوي منها أنه:( أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله). وهذا الأثر معضل لا ينهض للاحتجاج(13) .
ورواية (واللَّهِ لا أشوبُ كتابَ اللَّه بشيءٍ أبدًا). وقد علق العلامة المعلمي على هذا الأثر بقوله: (الخبر منقطع لأن عروة لم يدرك عمر)(14)، وقال عنه الألباني: (ضعيف منقطع)(15).
وما روي عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق الأحاديث وقال: ( مثناة كمثناة أهلِ الكِتابِ).وهو أثر لا يصح عن عمر، قال المعلمي : (منقطع)(16).
وكل الأخبار التي رويت عن موقف عمر من منع التدوين أو إحراق الصحف أو قوله مثناه كمثناه أهل الكتاب، لا تصح وفقاً للسند، فهي كلها مراسيل، (والغريب أن العمدة في هذه النصوص هو الخطيب البغدادي وابن عبد البر، وهما من أبناء القرن الخامس الهجري، ولم نعثر على هذه النصوص في مصادر الحديث والتاريخ الأساسية عند المسلمين، سوی نص واحد في طبقات ابن سعد)(17).
وأما ما صح عنه من طلب الشهود على رواية الحديث، فذلك حجة لنا لا لهم، فعمر يحتفي بالحديث النبوي ويعتبره حجة، ولكنه يتثبت من القائل ويتشدد في النقل عن رسول الله، وتلك وأيم الله فضيلة عمرية تقدمه في موقع الاهتمام العالي بحديث النبي. فانظر يا رعاك الله كيف عمد القوم إلى روايات لا تصح عن عمر وتركوا ما صح عن عمر من احتفائه بحديث النبي مثل عودته في طاعون عمواس لحديث عبد الرحمن بن عوف: (إذا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه)(18)،
وكذلك أخذه الجزية من المجوس لحديث عبد الرحمن بن عوف: (أنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ أخذَ الجِزْيةَ مِن مَجوسِ هَجَرَ)(19).
وغيرها من المواضع التي تزخر بها كتب السنة، وكيف تتسق الروايات التي تجعل من عمر صداً منيعاً أمام رواية الحديث النبوي مع المرويات الصحيحة التي تؤكد اهتمامه في نشر السنة فقد كان يرسل علماء الصحابة لتعليم الناس القرآن والسنة كما أوضح في خطبته إذ قال: ( اللَّهمَّ إنِّي أشهدُكَ على أمراءِ الأمصارِ، فإنِّي بعثتُهُم يعلِّمونَ النّاسَ دينَهُم وسنَّةَ نبيِّهم)(20)،
وبحسبه أنه روى عن النبي ﷺ 539 حديثاً(21)، ولا يمكن لرجل يهتم بحديث النبي كل هذا الاهتمام، ويكون رأساً في رواية الحديث النبوي، ثم تصدر عنه تلك الروايات، إلا أن تكون في سياق ترتيب الاهتمام بالقرآن أولاً وبالسنة ثانياً، ومن خلال هذا الفهم يمكن أن نفهم تلك المرويات التي لا تصح سنداً إليه، ولو صحت فلن تبارح دائرة ترتيب مصادر التلقي عند الفاروق.
فهؤلاء الخلفاء الأربعة الذين نُسبت لبعضهم روايات منع التحديث عن رسول الله، نجدهم على رأس رواة الحديث النبوي، ولا يغرنك قلة الرواية عنهم مقارنة بغيرهم، مثل أبي بكر الصديق، فقد كانت مدة خلافته يسيرة، وكانت مشحونة بالأحداث الجسام من حروب الردة ومقارعة فارس والروم، ورغم ذلك فقد روى عنه جمع من الصحابة، ولولا أنهم كانوا يرسلون عن بعضهم البعض دون أن يذكروا اسم الراوي، لكان أكثرهم رواية، فهو أعلم الصحابة بلا منازع.
ومن الذين كانت لهم صحيفة بأحاديث النبي ﷺ الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص فقد كان له صحيفة أسماها الصادقة تحتوي على 400 حديث نبوي، وكان يقول: ( ما يُرَغِّبُني في الحَياةِ إِلا خَصْلَتانِ: الصّادِقَةُ والوَهْطَةُ ، فَأَمّا الصّادِقَةُ: فَصَحيفَةٌ كَتَبْتُها عَنْ رَسولِ اللهِ ﷺ)(23) ، وقد أذن له الرسول بالكتابة وكذلك ( صحيفة “أبي هريرة” التي نقلها عنه تلميذه همام بن منبه المتوفى سنة إحدى ومائة, وقد نقلت إلينا هذه الصحيفة كاملة واشتملت على مائة واثنين وثلاثين حديثا)(24) (وكان لسعد بن عباده صحيفة ولجابر بن عبد الله ولسمرة بن جندب صحائف، ولأنس بن مالك صحيفة كان يبرزها إذا اجتمع الناس)(25) فهذه الآثار وغيرها عشرات جمعها الأعظمي في كتابه، تدل على أن الصحابة كانوا يكتبون الحديث النبوي.
وكذلك سلك التابعون طريق الصحابة في اهتمامهم بالحديث النبوي، وكتابته، وقد أحصى العلامة الأعظمي أن عدد التابعين الذين كتبوا الحديث النبوي قد بلغوا 152 شخصاً، وهو رقم ضخم قياساً على الحالة الحضارية في ذلك الزمن.
وبالجملة فإن الإحصاء الرياضي لعدد الذين كتبوا الحديث النبوي في القرن الأول الهجري ومنتصف القرن الثاني، أي حتى عام 150هـ قد بلغوا 204 شخصاً.(26) من الصحابة والتابعين، وهو عدد وافر لحفظ السنة كتابة بجوار الحفظ في الذاكرة، فبان لكل واع أن شبهة تأخر التدوين لا قيمة علمية لها، ولا حظ لها في خبر التاريخ.
لماذا لم تدوْن السنة النبوية في كتاب منفصل؟
قد يتساءل سائل ولماذا لم يدون الصحابة السنة في كتاب مستقل كما دونوا القرآن، والجواب أن ذلك عائد إلى طبيعة التعلم في البيئة العربية الأمية آنذاك، التي قال عنها الرسول ﷺ: ( إنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ)(27). فقد ذكر ابن سعد في الطبقات أن قبيلة كبيرة مثل قبيلة (بكر بن وائل) لم يكن لديها رجل واحد يعرف القراءة والكتابة، وحين أرسل لهم النبي ﷺ كتابا استعانوا برجل من بني ضبيعة بن ربيعة فقرأ عليهم كتاب رسول الله ﷺ(28). أما مكة فقد قال البلاذري: (دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب) (29)، ولم يكن الحال في المدينة بأحسن حال من مكة، إذ كان الأنصار أهل زراعة ولا حاجة لهم إلى الكتابة إلا قليلاً، فقد كان عدد الذين يكتبون لا يتجاوزون أحد عشر رجلاً، يوم هاجر إليها النبي ﷺ(30). ثم شجعهم النبي على تعلم الكتابة فارتفع العدد قليلاً، ومهما بلغ عدد الذين كسروا أمية الحرف فلن يمثلوا أية نسبة مئوية من إجمالي المجتمع آنذاك، فقد أحصى المؤرخون عدد الذين كتبوا للنبي فبلغوا 42 كاتباً في أعلى تقدير(31)، ولذلك بقي الاعتماد على الذاكرة والتكرار والتثبت والنقل الشفاهي هو مستندهم الأول في نقل القرآن والسنة.
ما هي أدوات تدوين السنة النبوية؟
ثم إن وسائل الكتابة المتوفرة لهم لا تعدو أن تكون وسائل بدائية، ولك أن تتأمل فيما وقع لزيد بن ثابت وهو يجمع القرآن الكريم إذ قال: ( فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ واللِّخافِ، وصُدُورِ الرِّجالِ)(32)، وهذه إشارة لشحة أدوات التدوين فلم يكن ثم أوراق ولا أقلام، خلا وسائل بدائية يكتبون عليها أهم وثيقة في تاريخ الدنيا كلها.
وبسبب بدائية وسائل التدوين والكتابة، فقد اعتمدت العرب على ذاكرتها لحفظ المعرفة، واحترفت التكرار والمذاكرة، وساعدها خلو حياتهم من الملهيات، فلم يكن يشغل الصحابة شيء غير القرآن وحديث النبي، وشيء من ديوان العرب يروحون به بين الحين والآخر.
ولذلك لم ينقلوا إلينا القرآن إلا بالراوية الشفاهية المتواترة، ولجؤهم لكتابة القرآن لأجل حفظ رسمه الإعجازي وترتيبه التوقيفي، ولصغر حجم القرآن في عصر يندر فيه القرطاس والقلم، بينما يصعب عليهم تدوين حديث النبي، وكذلك لمنع الاختلاف في قراءته وجمعهم على مصحف واحد. وهذه مسألة فنية يدركها المتخصصون في علوم القرآن، فأن عمدة النقل القرآني هو الرواية الشفاهية من فم النبي وليس الكتابة؛ فإن عدد المصاحف التي كتبها عثمان لا تتجاوز سبعة مصاحف(33)، فكانت الأمة تعتمد على حفظها، ولذلك بقي الاعتماد على الرواية الشفاهية هو الجاري في الأحاديث مع كتابة ما يحتاجون إليه، بل أن بعضهم كره الكتابة لهذا الغرض كما قال ابن حجر: (كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ حِفْظًا كَمَا أَخَذُوا حِفْظًا)(34).
وإذا فهمنا هذا السياق الحضاري نستطيع عندها أن نفسر لماذا لم يكتب الصحابة السنة في كتاب مخصوص، بل لماذا لم تدون العرب شعرها إلا العشر المعلقات، بينما بقيت الذاكرة العربية تتناقل مئات القصائد العربية شفاهة، فلم يعرف العرب التدوين إلا بعد اختلاطهم بالأمم المتعلمة كالفرس الذين اقتبسوا منهم تدوين الجند في الدواوين.
ولذلك أكد عليهم النبي ضرورة الضبط في نقل الحديث النبوي فقال: (نَضَّرَ اللهُ امرَأً سَمِعَ مَقالَتي، فَوَعاها، ثم أدّاها إلى مَن لم يَسمَعْها)(35).
وحتى طريقة التعليم لم ينتظم الدرس إلا في العهد المتأخر بعد تعرفهم على الحضارات، وكان التعليم عفوياً في البيوت، وقد برز الأذكياء من غلمان وعبيد الصحابة الذين أخذوا العلم من البيوت(36).
وأما ما ذكره أحدهم من أن الصحابة لو قرروا السكوت لما منعهم أحد وطلب منهم التحديث، فهذا القول ناشئ عن جهل بدور الصحابة في تبليغ دين الله، وحرصهم على ذلك أيما حرص مع العناية الشديدة والتثبت والتيقن، ومن له أنسة بعلم الحديث يعرف أن ثمة أحاديث نقلت عن عشرات من الصحابة، وقد وجد أهل الحديث أن مفردات الصحابة أقل من الأحاديث التي رويت عن أكثر من واحد، ثم إن هذا النقل المستفيض عن الصحابة منهم إن دل على شيء فإنما يدل على شغفهم بنقل الدين كما بلغهم إياه محمد ﷺ، وحرصهم على نيل ثواب ذلك وإبراء الذمة، وهو شغف قوبل بشغف مقابل لمسناه عند التابعين الذين أقبلوا من كل فج ملتمسين العلم عند الصحابة، فكان التابعون أوفى الأمة للصحابة في التتلمذ والنقل واقتفاء الأثر، فصدق فيهم حديث النبي ﷺ: ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(37)، وقد رأينا بعض الصحابة يتحرج في نقل بعض الأحاديث المشكلة على الناس ثم يتذكر خطورة كتمان العلم والعهد الذي أخذه الله على العماء في البيان فيحدث، مثل حديث معاذ بن جبل أنَّ النبيَّ ﷺ، قالَ:( يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ، قالَ: لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ، قالَ: لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ ثَلاثًا، قالَ: ما مِن أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِن قَلْبِهِ، إلّا حَرَّمَهُ اللَّهُ على النّارِ، قالَ يا رَسولَ اللَّهِ: أفلا أُخْبِرُ به النّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قالَ: إذًا يَتَّكِلُوا. وأَخْبَرَ بها مُعاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.(38) ( فبالرغم من أن النبي نهاه عن التحديث بهذا الحديث في ذلك الزمن كون الناس حديثي عهد بإسلام ولم يتشربوا معانيه، إلا أن معاذا حدث بهذا الحديث في وقت رآه الأنسب للعمل بوصية النبي، وكذلك خروجاً من تبعة كتمان العلم. وهذا أبو هريرة يقول: ( لَوْلا آيَتانِ في كِتابِ اللَّهِ ما حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى}البقرة: ١٥٩)(39). فبان لنا حرص الصحابة على نقل الدين كما جاءهم عن رسول الله، وقبل ذلك وبعده، شملهم لطف الله في عصمة وحيه من الضياع والنسيان.