حفريات معرفية

معاني مادة “الصناعة” في القرآن الكريم

يساعد التفسير الموضوعي في تجلية معاني القرآن بطرائق مختلفة، ومناهج متنوعة. منها ما يدور -إجمالًا- على الموضوع نفسه، ومنها ما يدور حول السورة القرآنية، ومنها ما يتمحور حول المفردة القرآنية. وفي الأخير منهما تتمُّ تجلية المعاني المختلفة من خلال تحديد مفردة واحدة وردت في القرآن الكريم، أو مصطلح خاص، وتتبُّع هذه المفردة في كامل النص القرآني؛ بحصر مواطن وُرُودها، وحصر معانيها في اللغة، وتحديد صوغ المفردة وتشكيلها في النص، ثم التركيز على الحكمة في الصوغ الخاص من حيث سبك البناء القرآني، وكذا من خلال تتبع المظان التي استُخدمت فيها المفردة، خُلُوصًا للمعاني الكلية لهذه المفردة من جهة، ولدقة الاستخدام القرآني من جهة أخرى.

ولا يغيب عن الذهن المُنقدح بالفكر ما لهذا المنهج من قيمة كبيرة في مجال التفسير القرآني، وتجديد البحث فيه. فمن الجهة الأولى (المعاني الكلية للمفردة) نستقرأ معاني النص القرآني بصورة أخرى تبدو رأسيَّةً، خلاف الصورة الأفقية الممتدة التي تستعرضها التفاسير التحليلية أو الإجماليَّة. ومن الجهة الأخرى (دقة استخدام القرآن للمفردة في موضعها) نتنبه لميزات جديدة في مسائل الإعجاز القرآني. لذا وجب على الباحث الإسلامي في العصر الحديث موالاة هذا المنهج التفسيري مزيد اهتمام، ومديد مُعالجة في استقراء كافة المفردات القرآنية التي تصلح للدخول تحت هذا المنهج التفسيري.

وبناءً على ما تقدم، اخترت أن أستجلي مادة “صنع” في القرآن الكريم، لما لها من أهمية خاصة ودلالة على الفعل الإنساني؛ حيث هي منصبة على معاني الفعل والعمل. وتتبدى أهمية الموضوع أكثر متى علمنا أن العمل هو المناط الأول للشريعة في توجيه خطابها لبني البشر.

وقد استجليت الموضوع بمنهج استقرائي تحليلي؛ حيث جمعت المواطن التي وردت فيها المادة في القرآن فوجدتها عشرين موضعًا، موزعة على تسع عشرة آية كريمة. وقد أتيت بالمعاني اللغوية للمادة، فوجدتها على خمسة من المعاني. أمهِّد لتوالها بمعاني مادة “صنع” في اللغة والقرآن. وقد استعنت في تجلية معاني الآيات بتفاسير، أهمها تفسير الكشَّاف للزمخشري، وهذا لأنه عُمدة تفاسير الرأي، وأعقبته -غالبًا- بتفسير الرازي لسُنِّيته؛ ثم أعقبتهما -غالبًا- بتفسير ابن كثير لتتميم الرؤية بالمأثور. وما اعتمادي على تفاسير الرأي إلا لأن التفسير الموضوعي يحتاج للتأمل في النص القرآني والتدبر فيه. وسيجد القارئ أن التفاسير الإسلامية تتعاضد، بل تتكامل؛ رغم تقسيمها المدرسي.

مادة الصناعة في القرآن الكريم 5 معاني مادة "الصناعة" في القرآن الكريم

معاني مادة صنع في اللغة والقرآن

تتمتع اللغة العربية بغنى شديد في المفردات؛ حيث تبلغ كلمات اللغة 12 مليون كلمة. ويتكاثف هذا المبلغ من الكلمات بشدة؛ متى راعينا الاختلاف الدلالي لهذه الكلمات، والتنوع الدلالي الذي تصنعه عناصر الصوغ والتموضُع والسياق حين تركيبها. وقد أورد معجم “لسان العرب” الكثير من المعاني لمادة “صنع” في اللغة. بعضها أصيل وممتد، وبعضها الآخر معان تفريعية ذات دلالات اجتماعية حديثة، مثل: “امرأَة صَناعٌ إِذا كَانَتْ رقِيقةَ الْيَدَيْنِ تُسَوِّي الأَشافي وتَخْرِزُ الدِّلاء وتَفْرِيها”؛ أو معانٍ فرعية تمامًا، مثل: “والصَّنَّاعةُ: كالصِّنْع الَّتِي هِيَ الخشبَة”.

· معاني مادة "صنع" في اللغة

وتأتي المعاني الرئيسية في أقواله: “صنع: صَنَعَه يَصْنَعُه صُنْعاً، فَهُوَ مَصْنوعٌ وصُنْعٌ: عَمِلَه … واصْطَنَعَه: اتَّخَذه. والطاءُ بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ لأَجل الصَّادِ … واسْتَصْنَعَ الشيءَ: دَعا إِلى صُنْعِه”.

وتأتي بمعنى الحرفة: “والصِّناعةُ: حِرْفةُ الصانِع، وعَمَلُه الصَّنْعةُ”. وبمعنى التكوين والإنشاء والإبداع الإنساني: “والصِّناعةُ: مَا تَسْتَصْنِعُ مِنْ أَمْرٍ؛ ورجلٌ صَنَعُ اليدِ وصَنَاعُ اليدِ من قوم صَنَعَى الأَيْدِي وصُنُعٍ وصُنْع”. وكذا: “يُقَالُ: رَجُلٌ صَنَعٌ وامرأَة صَناع إِذا كَانَ لَهُمَا صَنْعة يَعْمَلانِها بأَيديهما ويَكْسِبانِ بِهَا”.

وقد تأتي بمعنى حُسن العمل والقيام على الشيء وترتبيته: “وصَنْعةُ الفرَسِ: حُسْنُ القِيامِ عَلَيْهِ. وصَنَعَ الفَرَسَ يَصْنَعُه صَنْعاً وصَنْعةً، وَهُوَ فَرَسٌ صنِيعٌ: قَامَ عَلَيْهِ”. وقد تأتي بمعنى المهارة والحذق في تدبيج الشيء وتصنيعه: “وامرأَة صَناعُ اليدِ أَي حاذِقةٌ ماهِرة بِعَمَلِ الْيَدَيْنِ .. وامرأَة صَناعٌ: حاذقةٌ بِالْعَمَلِ: وَرَجُلٌ صَنَعٌ”.

“والصَّنِيعةُ: مَا اصْطُنِعَ مِنْ خَيْرٍ. والصَّنِيعةُ: مَا أَعْطَيْتَه وأَسْدَيْتَه مِنْ مَعْرُوفٍ أَو يَدٍ إِلى إِنسان تَصْطَنِعُه بِهَا، وَجَمْعُهَا الصَّنائِعُ”، “والمُصانَعةُ: أَن تَصْنَعَ لَهُ شَيْئًا ليَصْنَعَ لَكَ شَيْئًا آخَرَ، وَهِيَ مُفاعَلةٌ مِنَ الصُّنْعِ”، “والتَّصَنُّعُ: تكَلُّفُ الصَّلاحِ وَلَيْسَ بِهِ.  والتَّصَنُّعُ: تَكَلُّفُ حُسْنِ السَّمْتِ وإِظْهارُه والتَّزَيُّنُ بِهِ والباطنُ مدخولٌ”.

· معاني مادة "صنع" في القرآن الكريم إجمالًا

يُفرِّق “معجم ألفاظ القرآن الكريم” بين الصنع والعمل والفعل، في الآتي: “وجُملة الفرق بين الصنع والعمل والفعل -كما بينه غير واحد من اللغويين- هو: أن الصنع أخص المعاني الثلاثة؛ إذ يكون من الإنسان دون غيره، ويكون بإجادة، وعن ترتيب وإحكام، لما تقدم العلم به، ليُوصل إلى غاية مُرادة منه. وأما العمل فأوسط الثلاثة؛ إذ يكون من الإنسان والحيوان، ويكون بقصد وعلم. وأما الفعل فآخر الثلاثة وأعمها؛ إذ يكون من الإنسان والحيوان والجماد جميعًا، ويكون بإجادة وبدونها، ويكون بقصد وبلا قصد”(1). ثم يقرر: “وما ورد منه في القرآن الكريم يُفهم بهذا التخصيص المميز للمادة”(2).

· المواطن التي وردت فيها المادة في القرآن الكريم

وردت مادة “صنع” في عشرين موضعًا، في تسع عشرة آية من كتاب الله، على الوجه الآتي:

(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(3).

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(4).

(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ)(5).

(إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ)(6).

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(7).

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)(8).

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(9).

(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(10).

(لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(11).

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(12).

(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)(13).

(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)(14).

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)(15).

(فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)(16).

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)(17).

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)(18).

(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(19).

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(20).

(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ)(21).

(وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)(22).

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد11 معاني مادة "الصناعة" في القرآن الكريم

الصناعة بمعنى الفعل الاعتيادي

وردت المادة في القرآن تحت هذا المعنى في تسع آيات بينات، دارت جميعها حول الفعل الإنساني؛ لا باعتبار مطلق الفعل، بل باعتبار الفعل محلًّا للثواب والعقاب، ومناطًا للتكليف في الدنيا، والحساب عليه في الآخرة. ونرى الآيات منقسمةً إلى نوعين:

الأول منصرف للفعل التكليفي دون ربطه بثواب أو عقاب. وعدتها آيتان، تدور حول تسجيل أعمال الإنسان، وعلم الله بها، وأنه -سبحانه- لا ينسى، ولا يعزب عن علمه شيء -مهما دقَّ- من أفعال العباد؛ بل هو الخبير العليم بها.

والآخر منصرف لوصف لحق بالفعل التكليفي؛ وهو وصف السوء والخسران. وعدتها سبع آيات، تدور حول آثار التقريع واللوم والتوبيخ للأمم والأفراد الذين أساءوا الفعل، واختاروا غير طريق الإيمان، وخالفوا أمر الله فيهم، وتتوعدهم الآيات بالعذاب الشديد في سياقها العام.

· آيات النوع الأول

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(23). والآية الكريمة هنا رغم وقوعها بين آيات تتحدث عن قوم غضب الله عليهم؛ إلا أنها آية عبرة، فكأن الآية تشير بضرورة الاعتبار بهؤلاء القوم الضالين، والاستقامة على طريق الحق، بتلاوة القرآن (رغم أن الخطاب لسيدنا محمد ﷺ)، وإقامة الصلاة، وذكر الله. فنجد الزمخشري يقول في تفسيرها: “وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- ولذِكرُ الله إياكم برحمته أكبرُ من ذكركم إياه بطاعته {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب”. ويوضح الإمام الرازي العلاقة بينها وبين سابقتها بقوله: “يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتلُ ما أوحي إليك لتعلم أن نوحًا ولوطًا وغيرهما كانوا على ما أنت عليه”. ويفسر ابن كثير (تَصْنَعُونَ) خاصةً بقوله: “أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم”. أيْ دون اختصاص هذا الصنيع بوصف لاحق يمثل حُكمًا عليه.

(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)(24) تأتي الآية موجهةً المؤمنين للغضّ من أبصارهم عن أي منكر ومُحرَّم، وأن يحفظوا أنفسهم عن الزنا بدرجاته المختلفة، ثم ختمتْ بما يليق بالفعلين؛ حيث النظر إلى المحرم وفعل الزنا يكونان في الخفاء، ومن وراء حجاب عن الناس؛ فإذا بالآية تأتي بما يليق بالخفاء والستر؛ حيث يظنُّ العبد أنه مستور، لتؤكد أن الله خبير بكل فعل العباد -مهما خفي-. وفي هذا من المناسبة اللطيفة ما فيه.

يقول الزمخشري في جزء الآية الأخير: ” ثم أخبر أنه {خَبِيرٌ} بأفعالهم وأحوالهم، وكيف يجيلون أبصارهم؟ وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم؟ فعليهم -إذا عرفوا ذلك- أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون”. ويأتي مُجاريًا للزمخشري قول البيضاوي: “{إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون”.

· آيات النوع الآخر

(لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(25). الآية الكريمة تحمل توبيخًا لأحبار اليهود على التقصير في إقامة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أقوامهم. يقول الرازي: “والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه”. وقد فسَّرَ الزمخشري هذه الآية في الكشاف بنكتة لطيفة تتعلق بالصناعة والفرق بينها والعمل، فقال: “كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كل عامل لا يسمى صانعًا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالًا من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقد السامع وينعي على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي أشدّ آية في القرآن. وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها”. ولعلَّ هذا التشديد من الزمخشري في الآية نابع من أصل “الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر” الذي يتشدد المُعتزلة في الأخذ به.

وأكَّد الرازي هذه النكتة بقوله: “والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرًا راسخًا متمكنًا، فجعل جرم العاملين ذنبًا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبًا راسخًا”.

(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(26). وهذه الآية الكريمة تتناول ما خالف فيه أتباع النصرانية الحق، وحادوا عنه إلى غيره؛ فما كان من الله إلا أن أغرقهم في العداء والخلاف، وأورثهم البغض في قلوبهم. يقول الرازي في تفسير الجزء الأخير: “{وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيدٌ لهم”. ويقول القرطبي: “وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ} تهديدٌ لهم أي سيلقون جزاء نقض الميثاق”. ويزيد ابن كثير الأمر تفصيلًا: “{وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب -عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا- من جعلهم له صاحبة وولدًا. تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد”.

(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(27). قال الزمخشري في الكشاف: “يعني لم يكن له ثواب؛ لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا. وقد وفَّى إليهم ما أرادوا”. ويؤكد هذا المعنى ما أورده ابن كثير في تفسيره الآية من روايات: “وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين، وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد. وقال أنس بن مالك والحسن نزلت في اليهود والنصارى. وقال مجاهد وغيره نزلت في أهل الرياء. وقال قتادة من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطىٰ بها جزاء، وأما المؤمن، فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة”. وصرَّح البيضاوي بمراد الآية في قوله: “لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإِخلاص”.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(28). يتوسط ذكر الصناعة في هذه الآية الكريمة الإنذار الشديد المُوجَّه إلى الكفار بالعذاب في الدنيا والآخرة. قال الزمخشري في (بِمَا صَنَعُوا): “من كُفرهم وسوء أعمالهم … من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم”. بينما زاوَجَ الرازي أن يكون المقصود بالكفار في الآية عموم الكفار أو كفار مكة خاصةً؛ وأن يكون العقاب عقابًا عامًّا أو المقصود به فتح مكة. يقول في الفرض الأخير: “ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله ﷺ من العداوة والتكذيب قارعة، لأن رسول الله ﷺ كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم، أو تحل أنت يا محمد قريبًا من دارهم بجيشك كما حل بالحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك”.

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(29). ويحلل الإمام الرازي هذه الآية تحليلًا منطقيًّا، أوجزه في الآتي: “هذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئًا مفروضًا، ويحتمل أن تكون قرية معينة … ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات: … قوله: {آمِنَةً} إشارة إلى الأمن، وقوله: {مُّطْمَئِنَّةً} إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائمًا لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه، وقوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} إشارة إلى الكفاية … أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله … يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد ﷺ فكفروا به وبالغوا في إيذائه، فلا جرم سلط الله عليهم البلاء … فلا جرم قال في آخر الآية: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}”.

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(30). وقد دار حول تفسير هذه الآية نقاش حول المقصود فيها؛ هل هم اليهود والنصارى أم الخوارج. وأجاد الإمام ابن كثير في عرض الأمر. يقول في تفسيره: “وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد هم الحَرُوريَّة، ومعنى هذا عن علي -رضي الله عنه- أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود”. ثم ثنَّى بالموضع نفسه قائلًا: “{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون”.

(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)(31) تتصدى الآية الكريمة للتعليق على مصائر الكافرين والمؤمنين، والمقارنة بينهما؛ مصرِّحةً أن الكافر الذي زُين له سوء عمله، ليس كالمؤمن الذي هو في نور الله محفوظ. ثم تقرر الآية أن كل الأمر بيد الله، وتُصبِّر النبي ﷺ على ما يلقاه من الكفر، وما يُشقي نفسه فيه كي يردَّ الكافرين مؤمنين، في معنى الآية الكريمة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(32). ثم تختم بوعيد خفي لما يصنع الكافرون.

يقول الزمخشري: “{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وعيدٌ لهم بالعقاب على سوء صنيعهم”. ويقول الرازي: “فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد إيمانهم وإحسانهم لصدهم عن الضلال وردهم عن الإضلال، وإن كان لما به منهم من الإيذاء؛ فالله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعون”.

مادة الصناعة في القرآن الكريم 2 معاني مادة "الصناعة" في القرآن الكريم

الصناعة بمعنى التكوين والإنشاء

أما ثاني معاني مادة الصناعة في القرآن الكريم؛ فهي المختصة بالفعل البشري التكويني، أيْ تدل على ما يصنعه الإنسان في غيره، لا في نفسه، وتتخذ الصناعة فيها معاني الإرادة والتجهيز والقصدية والتدبير والتجويد، كما تكتنف هذه المصنوعات معاني الفخر والعزة، بوصفها رمزًا لتلك المعاني السابقة في نفس صانعها. وقد دارت هذه المعاني في سبع آيات من القرآن الكريم. وهي الآتية.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)(33). والآية الكريمة تتوسط قصة سيدنا نوح، وصناعته السفينة التي تنجيه من الطوفان. وفيها يأتي معنى الصناعة متلبسًا بروح العناية الإلهية، والنفحة الربانية، لنبي صالح ينفذ أمر الله وسط مقاومة واستهزاء من قومه الكافرين. وقد ركَّز المفسرون في الموضع لا على معنى الصناعة، بل على اكتناف الكلأ الإلهي لهذه الصناعة، مع الالتفات لحل إشكال الصفة الإلهية “بأعيننا” في ضوء تفسير الصفات الإلهية.

يقول الزمخشري: “والمعنى فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم {بِأَعْيُنِنَا} في موضع الحال، بمعنى اصنعها محفوظًا، وحقيقته ملتبسًا بأعيننا، كأن لله معه أعينًا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع”. بينما ركَّز الإمام الرازي على نكتة أصولية تتمحور حول الأمر بالصناعة؛ هل هو للإيجاب أم للإباحة. ثم التفتْ إلى معنى عقدي متعلق باستحالة إجراء الصفات على حقيقتها. كذا يتابعه ابن كثير فيُؤول قائلًا: “{وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ} يعني السفينة {بِأَعْيُنِنَا} أيْ بمرأى منا {وَوَحْيِنَا} أيْ تعليمنا لك ما تصنعه”. ويعزز البيضاوي المعنى قائلًا: “مُلتبسًا بأعيننا، عبر بكثرة آلة الحس الذي يحفظ به الشيء ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل. {وَوَحْيِنَا} إليك كيف تصنعها”.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(34). ثم تكمل الآيات في سورة “هود”، لتُورد جذر الصناعة لكنْ بفعل المضارعة “يصنع” حاكيةً حال النبي نوح في صناعته السفينة. واستخدام الآية للفعل المضارع الذي يدل على التجدد والاستمرار يليق بمعنى المُجاهدة النبوية في الآية؛ حيث تبين استهزاء الكافرين به، ورغم هذا يثابر النبي نوح على عمله المأمور به من ربه. وقد أورد المفسرون هذا المعنى البلاغي باصطلاح خاص هو “حكاية حال ماضية”.

يقول الزمخشري في الكشاف: “{وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ} حكاية حال ماضية {سَخِرُواْ مِنْهُ} ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له يا نوح، صرت نجارًا بعد ما كنت نبيًا {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} يعني في المستقبل {كَمَا تَسْخَرُونَ} منا الساعة، أي نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرُّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا”.

ويلتفت بعض المفسرين لمسائل مثل وصف السفينة طولًا وعرضًا، ومدة بنائها، ويعلق الإمام الرازي على هذه الاهتمامات من بعض المفسرين قائلًا: “واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلًا. وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح”.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)(35). والآية الكريمة تتناول قصة بني إسرائيل في مصر؛ حيث كانوا مستضعفين في الأرض. وجذر الصناعة فيها تشكل في صورة المضارعة، وفارق الآيتين السابقتين، فصار يدل على أفعال الظالمين الكافرين في الأرض، وما ألحق الله بها من دمار.

يقول الزمخشري في الكشاف: “{ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. والأرض أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة … {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الجنات”. ويقول الرازي: “{وَدَمَّرْنَا} قال الليث: الدمار الهلاك التام. يقال: دمر القوم يدمرون دمارًا أي هلكوا، وقوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} قال ابن عباس يريد الصانع {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} قال الزجاج: يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني، قيل: وما كانوا يعرشون من الجنات”.

(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ)(36). الآية الكريمة هي الوحيدة التي تكرر فيها جذر الصناعة. وتدور في قصة سيدنا موسى -كالسابقة-، ويأتي جذر الصناعة فيها بالفعل الماضي، في وصف أفعال الظالمين من الساحرين المصريين أتباع فرعون. وتأتي هنا في سياق وصف أفعال باطلة، تريد إيهام الناس بمُحاكاة الفعل الإلهي من الخلق والتسيير -خلق الثعابين وتسييرها- كما يبث الخالق في خلقه الرُّوح التي يمشون بها. يقول الزمخشري: “{صَنَعُواْ} ههنا بمعنى زوَّرُوا وافتعلوا”. ويقول الرازي: “وصنعوا ههنا بمعنى اختلقوا وزوروا. والعرب تقول في الكذب: هو كلام مصنوع وموضوع”.

(إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ)(37). وفي جزء الآية هذه يسأل الإمام الرازي أسئلة قيّمة: “لِمَ وحَّد الساحر، ولم يجمع؟ الجواب: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد؛ فلو جمع تخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله: {وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ} أي هذا الجنس. السؤال الثاني: لم نكَّرَ أولًا ثم عرَّفَ ثانيًا. الجواب: كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر. وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه. ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ. السؤال الثالث: قوله: {وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ} يدل على أن الساحر لا يحصل له مقصوده بالسحر -خيرًا كان أو شرًا-. وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية”.

(فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)(38). تتعرض الآية الكريمة لقصة بناء النبي نوح للسفينة، ويأتي فيها جذر الصناعة بفعل الأمر، ولعلَّ ذلك لائق بوقوع هذا الأمر بين صورتين من كلمة “وحي”: “أوحينا – وحينا” لما بين الوحي المباشر والأمر بالفعل الصالح من لياقة. ويركز المفسرون هنا على هذا الأمر، مع تفسير الصفة الإلهية “بأعيننا”.

يقول الزمخشري: “{بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظًا يكلؤونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة {وَوَحْيِنَا} أيْ نأمرك كيف تصنع ونعلمك”.

ويقول الرازي في تفسير الصفة الإلهية: “كأن معه من الله حافظًا يكلؤه بعينه لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله، ومنه قولهم: عليه من الله عين كالئة. وهذه الآية دالة على فساد قول المشبهة في تمسكهم بقوله -عليه السلام-: إن الله خلق آدم على صورته. لأن ثبوت الأعين يمنع من ذلك”. ثم يقول في تفسير الصناعة: “واختلفوا في أنه -عليه السلام- كيف صنع الفلك فقيل إنه كان نجارًا وكان عالمًا بكيفية اتخاذها، وقيل إن جبريل -عليه السلام- علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها، وهذا هو الأقرب لقوله {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}”.

وتمتاز هذه الآية عن الآيتين السابقتين المتعلقتين بالحادثة نفسها؛ أنها حددت مواصفات الصنعة التي أمر الله بها، وراكبيها. يقول ابن كثير: “فعند ذلك أمره الله -تعالى- بصنعة السفينة، وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، أي ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله، {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته، والله أعلم”.

(وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)(39). والآية الكريمة تأتي في وصف الأمم الظالمة، خاصةً قوم عاد، وما قاموا به من تكذيب المرسلين. وتأتي مادة الصناعة فيها بالاسم الجمع “مصانع” مُلبسةً إياه معنى الكِبر والتعاظم في الأرض بغير الحق، والاغترار بما آتاهم الله والظن بأنه نتاج ألمعيتهم وفطنتهم! ويتضامُّ معنى الكبر في وصف أفعالهم مع ذكر العبث في الآية السابقة لها {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} .. فهي من أسوأ مظان مادة الصناعة في القرآن كله، إن لم تكن أسوأها.

يقول الزمخشري: “والمصانع مآخذ الماء. وقيل القصور المشيدة والحصون {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد”. ويُعدد الإمام القرطبي معاني كلمة مصانع قائلًا: “قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أي منازل قاله الكلبي. وقيل: حُصُونًا مشيدة قاله ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشاعر:

تَرَكْنَا ديارَهُم مِنهم قِفَارًا

وهَدَّمْنا المصانعَ وَالْبُرُوجَا

وقيل: قصورًا مشيدة وقاله مجاهد أيضًا. وعنه بروج الحمام وقاله السُّدي. قلت: وفيه بعدٌ عن مجاهد لأنه تقدّم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارًا في الكلام. وقال قتادة: مآجِل للماء تحت الأرض. وكذا قال الزجاج: إنها مصانع الماء، واحدتها مُصْنَعَةٌ ومَصْنَعٌ. ومنه قول لَبِيد:

بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطوالعُ

وتبقَى الجبالُ بَعْدَنا والمصَانِعُ

الجوهري: المصنَعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر، وكذلك المصنُعة بضم النون. والمصانع الحصون. وقال أبو عبيدة: يقال لكل بناء مصنعة. حكاه المهدوي. وقال عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية”.

مادة الصناعة في القرآن الكريم 4 معاني مادة "الصناعة" في القرآن الكريم

الصناعة بمعنى الحرفة

أما المعنى الثالث من معاني مادة الصناعة؛ فهو معنى الحرفة والمهنة. ويكون الوصف فيها بالصناعة ملاصقًا لمَن وُصِفَ به، فيُنسب إليه، ويُعرف به، ويمارسه ممارسة التكسُّب والإفادة. وقد أتى هذا المعنى في آية واحدة من آيات القرآن الكريم.

(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ)(40). الآية الكريمة تتناول قصة إنعام الله على نبيه داود -عليه السلام- بهذه الصنعة والحرفة؛ وهي إجادة صناعة الدروع. يقول الزمخشري: “والمراد الدرع قال قتادة كانت صفائح فأوَّلُ من سردها وحلقها داود، فجمعت الخفة والتحصين {لِتُحْصِنَكُمْ} قرئ بالنون والياء والتاء، وتخفيف الصاد وتشديدها فالنون لله -عز وجل-، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لداود أو للبوس”.

بينما عدَّها الإمام الرازي من دلائل نعمة الله على نبيه، فقال: “الإنعام الثالث: قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَـٰكِرُونَ} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اللبوس اللباس، قال ألبس لكل حالة لبوسها. المسألة الثانية: لتحصنكم قرئ بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله -عز وجل- والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لله -تعالى- أو لداود أو للبوس. المسألة الثالثة: قال قتادة: أول من صنع الدرع داود -عليه السلام-، وإنما كانت صفائح قبله فهو أول من سردها واتخذها حلقًا”.

مادة الصناعة في القرآن الكريم معاني مادة "الصناعة" في القرآن الكريم

الصناعة بمعنى الاصطفاء والانتقاء

أما المعنى الرابع لمادة الصناعة؛ فهو الاصطفاء والانتقاء. وهو معنى يتعلق بفعل الله في خلقه، بل في نوع من مخلوقاته، وهو البشر. أيْ أن هذا المعنى وارد في نوع خاص من الخلق؛ حيث المُصطفِي فيه هو الله -سبحانه-، والمُصطفى فيه هو العبد. ولم يرد هذا المعنى في القرآن إلا خاصًّا بالأنبياء، وخاصةً في حق نبي الله موسى -عليه السلام- مرتين في القرآن كله.

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)(41). الآية الكريمة تعرض قصة سيدنا موسى وهو رضيع؛ حيث تتعرض لجميل تدبير الله لنبيه، ومدى محبته له. وقد وردت فيها مادة الصناعة بالمُضارعة، مسبوقةً بلام التعليل الناصبة، المبينة للسبب. يقول الزمخشري: “فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب. وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أي محبة حاصلة أو واقعة مني، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك. روي أنه كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه”. ثم يتعرض لتفسير الصفة الواردة {عَيْنِىۤ} قائلًا: “{وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىۤ} لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وتقول للصانع اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي. ولتصنع معطوف على علة مضمرة، مثل ليتعطف عليك وترأم ونحوه. أو حذف معلله، أي ولتصنع فعلت ذلك. وقرئ «ولتصنع» و لتصنع، بكسر اللام وسكونها. والجزم على أنه أمر وقرئ «ولتصنع» بفتح التاء والنصب، أي وليكون عملك وتصرفك على عين مني”.

ويفسر الإمام الرازي مسألة الصناعة على العين بقوله: “المنة الثالثة: قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىۤ} قال القفال: لترى على عيني أي على وفق إرادتي، ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئًا وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا ههنا. وفي كيفية المجاز قولان: الأول: المراد من العين العلم أن ترى على علم مني ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات؛ أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه. الثاني: المراد من العين الحراسة وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه فالعين كأنها سبب الحراسة فأطلق اسم السبب على المسبب مجازًا”.

ويؤكد ابن كثير تأويل الآية الكريمة بقوله: “{وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىۤ} قال أبو عمران الجوني تربى بعين الله. وقال قتادة تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى {وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىۤ} بحيث أرى”.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)(42). وتكمل الآيات قصة نبي الله موسى، وتأتي المادة بمعنى الاصطفاء في صيغة الماضي، ملحقًا بها ضميرا الفاعل والمفعول. وتأتي في مرحلة متقدمة من قصة النبي، بعدما تعرض لكثير من المحن، التي عبر عنها القرآن بقوله في الآية السابقة {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ}.

يقول الزمخشري في الآية الكريمة: “{وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}. هذا تمثيل لما خوَّله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم. مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص، أهلًا لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، ولا ألطف محلًا، فيصطنعه بالكرامة والأثرة، ويستخلصه لنفسه، ولا يبصر ولا يسمع إلا بعينه وأذنه، ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره”.

واعتبرها الإمام الرازي منة من الله بقوله: “المنة الثامنة: قوله تعالى: {وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} والاصطناع اتخاذ الصنعة، وهي افتعال من الصنع. يقال: اصطنع فلان فلانًا أي اتخذه صنيعه، فإن قيل: إنه تعالى غني عن الكل فما معنى قوله {لِنَفْسِي}. والجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا تمثيل لأنه -تعالى- لما أعطاه من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه أهلًا لأن يكون أقرب الناس منزلة إليه وأشدهم قربًا منه … وقوله لنفسي: أي لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل بغير ما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك”.

مادة الصناعة في القرآن الكريم 7 معاني مادة "الصناعة" في القرآن الكريم

الصناعة بمعنى إبداع الله وفعله

أما المعنى الخامس والأخير؛ فهو تدبير الله وإبداعه في الكون وتصميمه وإنشاؤه. وهو معنى خالص لله، منسوب إليه. وقد ورد هذا المعنى في آية واحدة من القرآن.

(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(43). تستعرض الآية الكريمة آيات الله الباهرة في الكون الفسيح، وتخصُّ آية الجبال بالذكر. ولعلنا هنا في حاجة إلى استدعاء تفسير حديث زمنًا، يكون مهيمنًا على ما سبقه من تفاسير. يقول الإمام الطاهر بن عاشور حكايةً عن المفسرين السابقين: “الذي قاله جمهور المفسرين إن الآية حكت حادثًا يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} عطفًا على {يُنفَخُ فِي الصُّورِ} أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة إلخ.. وجعلوا الرؤية بصرية، ومرّ السحاب تشبيهًا لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودًا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها”.

ثم يتناول النظرة الحديثة للأمر بقوله: “فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض، فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة. واهتدى بعض علماء اليونان إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضي تقريبًا وضياء النصف الآخر وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار. ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية؛ لأن الحركة مختلفة المدارات فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب. وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي غاليلي الإيطالي. والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلًا رمز إليه رمزًا، فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزًا. وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال”.

الهوامش:

  1.  معجم ألفاظ القرآن الكريم، مادة صنع، ج1، صـ701. 
  2. السابق، صـ702. .
  3. هود، 16. 
  4. الرعد، 31. 
  5. طه،69. 
  6. طه،69.
  7. العنكبوت، 45.
  8. الأعراف، 137. 
  9. هود، 38. 
  10. المائدة، 14. 
  11. المائدة،63. 
  12. النحل،112. 
  13. النور، 30. 
  14. فاطر، 8. 
  15. هود، 37. 
  16. المؤمنون، 27. 
  17. طه، 39. 
  18. طه، 41. 
  19. النمل، 88. 
  20. الكهف، 104. 
  21. الأنبياء، 80. 
  22. الشعراء، 129. 
  23. العنكبوت، 45. 
  24. النور، 30. 
  25. المائدة،63. 
  26. المائدة، 14. 
  27.  هود، 16.
  28. الرعد، 31. 
  29. النحل،112. 
  30. الكهف، 104. 
  31. فاطر، 8. 
  32. الكهف، 6.
  33. هود، 37. 
  34. هود، 38. 
  35. الأعراف، 137. 
  36. طه،69.
  37. طه،69. 
  38. المؤمنون، 27.
  39. الشعراء، 129.
  40. الأنبياء، 80. 
  41. طه، 39. 
  42. طه، 41. 
  43. النمل، 88.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى