مبتدأ:
“عمرو” رجل أعمال مصري، يُنتج طنًّا من مسحوق الصابون بتكلفةٍ تقارب 600 دولار في القاهرة، في حين يصنع نظيرُه الأمريكي “جون” الطنَّ نفسه بنحو 300 دولار فقط في أمريكا.
السرّ؟ أن مصنع “جون” يعمل بطاقةٍ تعادل عشرةَ أضعاف مصنع عمرو، فتتوزّع التكاليف على عددٍ أكبر من الوحدات، فينخفض سعر الوحدة.
ولكي تحمي القاهرةُ مئاتِ الوظائف في مصنع “عمرو” وتوفّر عملةً صعبة، تفرض جمارك قدرُها 150٪ على الصابون الأمريكي؛ فيصبح سعرُه داخل مصر أعلى من صابون عمرو، فيحتفظ عمرو بمصنعه وعماله، وتحافظ مصر على العملة الصعبة.
هكذا وُلدت فكرةُ الرسوم الجمركيّة منذ قرون: موردٌ ماليٌّ للدولة، ودرعٌ لصناعاتها في آنٍ واحد.
من «مارشال» إلى منظمة التجارة العالمية:
بعد الحرب العالمية الثانية خرجت أوروبا مُدمَّرة، بينما تحوّلت الولايات المتحدة إلى “مصنع العالم”. بلغ نصيبُها من الناتج العالمي سنة 1960 نحو 40٪(1)، وأرادت واشنطن فتحَ أسواق الكوكب أمام سلعها. لكن الرسوم الجمركية، مثل تلك التي تحمي بها مصرُ “مصنعَ عمرو”، كانت تقف عقبةً أمام الطموح الأمريكي.
فهل تقف أمريكا مكتوفة الأيدي وهي التي خرجت منتصرة من الحرب؟
لقد صمّمت خططًا معقدة لإقناع دول العالم بفتح حدودها أمام المصنع الأمريكي طوعًا أو كرهًا، فماذا فعلت؟
1. أعلنت أمريكا إعادة إعمار دول أوروبا الغربية تحت مسمى مشروع “مارشال” (1948 1951)، حيث ضخّت ما يقارب 13.3 مليار دولار(2) (نحو 160 مليارًا اليوم) في أوروبا على شكل قروض إعمار، بشرط شراء مواد الإعمار من الولايات المتحدة، ووافقت دول أوروبا المنهكة لأنه لم يكن هناك بديل.
2. أقنعت أمريكا حلفاءها باتفاقية “الجات” (1947)، ثم منظمة التجارة العالمية (1995)، وهاتان الاتفاقيتان قلّصتا التعرفة الجمركية عالميًّا، فكان المستفيد الأكبر هو صاحب المصنع الأكبر: أمريكا.
3. البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهما مؤسستان تهيمن عليهما أمريكا، ربطا كثيرًا من قروضهما للدول النامية بخطط “تحرير التجارة”، أي افتح حدودك أمام المصنع الغربي، ونحن نمنحك القروض اللازمة لرفع مستوى استهلاكك منها!(3)
4. مظلّة الحماية الأمنية: من اليابان إلى الخليج، كان “الأمان” وحماية أمريكا للدول الضعيفة مقابل فتح الأسواق أمام المصنع الأمريكي.
بحلول 1986م ظلّت أمريكا أكبر مُصدّر في العالم، وإن تراجعت حصّتها إلى نحو 13.3٪ من تجارة السلع العالمية(4)، مقابل أقلّ من 1٪ للصين آنذاك.
تنّينٌ يستيقظ:
لم تنضمّ الصين إلى منظمة التجارة العالمية إلا في 2001م. منذ ذلك الحين قفزت استثمارات الأجانب في الصين، وسجّلت تدفّقات الاستثمار المباشر سنة 2018 حوالي 139 مليار دولار(5)، كان نصيب الشركات الأمريكية منها 14٪.(6)
وهنا يقفز سؤال: لماذا يفضّل عمالقة وادي السيليكون (آبل، جوجل) التصنيع في الصين؟
الإجابة:
• الأجور: أجر الساعة في الصناعة الأمريكية يدور حول 28 دولارًا، بينما يتراوح في الصين بين 6 و7 دولارات، مع عمالة صينية ماهرة ومدرّبة.(7)
• ضرائب أخفّ وحوافز واسعة، حيث تبلغ ضرائب شركة آبل في أمريكا 22٪، مقابل 15٪ في الصين.(8)
• معادن نادرة تملك الصين نحو 90٪ من إنتاجها العالمي، وهي تدخل في صناعة الأجهزة الإلكترونية الحديثة.(9)
النتيجة:
تعلّم العمّال الصينيون التقنيات، وتضخّمت قدرة بكين التصديرية حتى صارت، بحلول 2018، تصدّر إلى الولايات المتحدة بما قيمته 539.5 مليار دولار، بينما لا تتجاوز الصادرات الأمريكية إليها 120.3 مليار دولار؛ أي عجز يقارب 419 مليار دولار لصالح الصين.(10)
صدمةُ الرسوم: من حرب 2018 إلى مواجهة 2025
استشعرت أمريكا خطورة هذه الفجوة التجارية بينها وبين الصين، وفي 2018 فرضت إدارة ترامب رسومًا بحدّ أقصى 25٪ على ما يربو على 370 مليار دولار من الواردات الصينية.
فلماذا عادت أمريكا إلى نظام الجمارك وهي التي أزعجت العالم بحرية التجارة العالمية؟ ولماذا تراجعت سريعًا عن مبادئ التنافس والعولمة وحرية التجارة العالمية والتكامل المشترك بين البلدان؟
الجواب ببساطة:
كما شرح لنا أحد الصحابة حين قال: “كنا نصنع صنمًا من تمر لنعبده في الجاهلية، فإذا ما جعنا أكلناه”.
لقد صنعت أمريكا أصنامًا عديدة، من بينها الديمقراطية وحرية التجارة العالمية، فإذا ما انتخبت الشعوب فئة ليست على هوى أمريكا، سارعت أمريكا لتدبير انقلاب عليها وأكلت صنم الديمقراطية.
وكذلك فعلت بصنم حرية التجارة العالمية، فقد جعلته أحد أركان الديانة الرأسمالية، فلما نافسها الآخرون وبدأت مصانعهم تتفوق على المصانع الأمريكية، كفرت أمريكا بحرية التجارة، وتعرّبت بعد الهجرة، وعادت إلى عصر الجمارك وإغلاق الحدود.
مثال عملي: سارة وآبل
عقب قرار ترامب برفع الرسوم على دول العالم، وفي مقدّمتها الصين، ووفقًا لتقديرات صحف مالية كبرى مثل وول ستريت جورنال وإل باييس، بلغ إجمالي الخسائر في السوق الأمريكية ما بين 6.6(11) إلى 10 تريليونات دولار خلال أيام قليلة.(12)
كيف حدث ذلك؟
سأبسط لك ذلك قدر المستطاع:
سارة، موظفة أمريكية، تحمّست في شهر يناير 2025 لشراء أسهم شركة آبل، لأنها شركة ناجحة، باعت “سارة” ذهبها، واشترت سهمًا بسعره آنذاك: 237 دولارًا.
لكن بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض تعريفات جمركية جديدة على الواردات الصينية بنسبة 104٪، انهارت أسهم آبل، وانخفضت قيمة السهم إلى 198 دولارًا بحلول أبريل، أي أن “سارة” خسرت حوالي 16.5٪ من قيمة استثمارها.
سألت “سارة”:
“كيف انهارت الأسهم؟”
فقال لها خبير في أسهم آبل:
“شركة آبل كانت تصنّع هواتفها في الصين، وتكلفة إنتاج آيفون برو ماكس تُقدَّر بحوالي 485 دولارًا(13)، بينما كانت تبيعه في أمريكا بسعر 1,100 دولار، أي أن هامش الربح كان يقارب 56٪ تقريبًا قبل احتساب تكاليف التسويق والخدمات الأخرى. وهذا الربح الكبير هو الذي يجذب المستثمرين، ويشجعهم على شراء أسهمها.
لكن بعد فرض التعرفة الجمركية في أبريل 2025م، ارتفعت تكلفة استيراد الجهاز من الصين إلى الولايات المتحدة، فقبل الجمارك كان الجهاز الواحد يكلف آبل (485دولار، وبعد الجمارك ستبلغ تكلفة الجهاز “989 دولار، أي أن تكلفة الجهاز سترتفع بنسبة 104% . وإذا ظل سعر بيعه 1100 دولار، فإن الربح 111 دولار لا يغطي طموح آبل ولا توقعات المستثمرين، وهذا خلق مخاوف لدى المستثمرين ما دفعهم إلى مما دفعهم إلى بيع الأسهم، فانخفض سعر سهم آبل.
وهكذا، تراجعت البورصة الأمريكية، وقس ما وقع لسهم آبل مع أسهم بقية الشركات.
سألت سارة:
ولماذا لم تخسر الصين؟
فأجابها الخبير:
لأن الصين لا تعتمد كثيرًا على الاستيراد من أمريكا، بل لديها اكتفاء ذاتي بنسبة كبيرة، ولأن الدولة تتدخل للحفاظ على توازن السوق المالي، ولهذا كانت خسارتها محدودة مقارنة بالخسائر الفادحة في السوق الأمريكية.
ماذا بعد؟
وهنا يسأل الكثيرون: ماذا بعد؟ وكيف تحمي أمريكا نفسها أمام تغوّل الصين وتفوّقها في التبادل التجاري؟
ثمة اتجاهان:
1. اتجاه المصارع ترامب: يعتمد المواجهة المباشرة، وعلى مذهب “عليّ وعلى أعدائي”، وهذه السياسة عواقبها قاسية على أمريكا أولًا، ثم على الصين.
2. اتجاه الاستدراك الذكي: وقد بدأه بايدن، حين أعاد للصناعة المحلية دورها، وقام بإعادة توطين الصناعات الحساسة مثل صناعة الرقائق الإلكترونية، حيث أقنع شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (TSMC)، أكبر مُصنّع للرقائق الإلكترونية في العالم، بأن تفتح مصنعًا في أمريكا، وقدم لها منحة مالية بحدود 6.6 مليار دولار مع حوافز ضريبية كبيرة، وقد بدأت الشركة بافتتاح مصنعها الجديد في ولاية أريزونا الأمريكية.
وهذا الاتجاه الناعم هو الأكثر لياقة بالمكر الأمريكي، وأبعد عن هيجان ترامب، وقد سبق لهذه السياسة الناعمة أن نجحت في كبح التفوّق الياباني في العام 1985م، حين تجاوزت اليابان أمريكا بخمسين مليار دولار في التبادل التجاري(14)، وحينها اتخذت أمريكا حزمة من السياسات، من أخطرها اتفاقية (بلازا ) بين أمريكا واليابان وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وبموجبها تم تخفيض قيمة الدولار الأمريكي ورفع الين الياباني أمامه بنسبة 50%(15) ، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع اليابانية آنذاك، فعزف الناس عن شرائها، وعادوا للشراء من السوق الأمريكي من جديد، كما فرضت أمريكا قيودًا على السيارات اليابانية.
فهل يمكن أن تسلك الصين سلوك اليابان، فتستجيب طوعًا للإملاءات الأمريكية، وتعود لتقف في الطابور خلف أمريكا بمراحل؟
أم أنها ستكون ندًّا للأمريكيين؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست اقتصاديةً بحتة، بل ذات بُعدٍ اقتصاديٍّ عسكريّ؛ لأنّ أمريكا إذا لم تجد استجابةً لإملاءاتها قد تلجأ، بذكاء، إلى المواجهة العسكرية، وهذه قصة أخرى لا يتسع المقام لبسطها.
وفقه العبرة يجعلنا نتأمل الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لو تابَها صاحبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له». وصاحب المَكْس هو كلُّ من يأخذ مالاً من الناس بغير حقٍّ شرعيٍّ مقابل عبورهم أو بيعهم أو شرائهم، والحديث يجعل المكوس من كبائر الذنوب. وقرارات (صاحبِ المَكْس ترامب) تمثّل صورةً فاقعةً للتطفيف الاقتصادي الذي حذر منه القرآن الكريم:( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) المطففين:1-3؛ فحين كانت المصانع الأمريكية متفوّقةً على العالم أزالوا المكوس ونادَوا بحرية التجارة، وحين تفوّق عليهم الآخرون ضربوا عرض الحائط بكل شعارات الحرية، وعادوا إلى إغلاق الحدود. وصارت الاتفاقيات والقيم والمبادئ والاتفاقيات والعقود لعبةً يُحِلّونها عاماً ويحرّمونها عاماً وفق أهوائهم ومصالحهم. لكنّ اليقين الذي ترسّخ لدى البشرية بعد امتحان السابع من أكتوبر في غزة، ومع مكوس ترامب، أنّ هذه الحضارة لا أخلاق لها ولا عهود، وأنّ النظام الدولي بلا مبادئ ثابتة، وأن العقود والاتفاقيات تتبخر حين لا تكون في صالح المنتصر، وأننا في غابةٍ يحكمها الأقوى والأقدر على البطش والتوحش.
الهوامش:
- Bolt, J., Inklaar, R., de Jong, H., & van Zanden, J. L. (2020). Maddison Project Database (version 2020). Groningen Growth and Development Centre.
- International Monetary Fund. (1987). Theoretical Aspects of the Design of Fund‑Supported Adjustment Programs (Occasional Paper 55). Washington, DC.
- World Bank. (1993). Adjustment in Africa: Reforms, Results, and the Road Ahead (Policy Research Report). Washington, DC.
- World Trade Organization. (2006). International Trade Statistics 2006. Geneva: WTO.
- United Nations Conference on Trade and Development. (2019). World Investment Report 2019: Special Economic Zones (Annex Table 1). Geneva: UNCTAD.
- Ministry of Commerce of the People’s Republic of China. (2019). Statistical Bulletin of FDI in China 2019. Beijing: MOFCOM.
- Bureau of Labor Statistics. (2020). International comparisons of hourly compensation costs in manufacturing (Table 1). Washington, DC: U.S. Department of Labor.
- PricewaterhouseCoopers. (2025, January 3). Worldwide Tax Summaries – China: Corporate income tax rates. London: PwC.
- U.S. Geological Survey. (2024). Mineral Commodity Summary: Rare Earths. Reston, VA: USGS.
- U.S. Census Bureau. (2019). Trade in Goods with China (2018). Washington, DC: U.S. Department of Commerce.
- Wall Street Journal. (2025, April 8). Trump’s tariffs wipe out over $6 trillion on Wall Street in epic two‑day rout.
- El País. (2025, April 8). The tariff bomb wipes out $10 trillion in stock‑market value.
- Counterpoint Research. (2023, Feb 13). BoM Analysis – iPhone 14 Pro Max.
- Los Angeles Times. (1985, June 11). Japan’s trade surplus with U.S. still high; officials predict $50 billion for 1985
- . Investopedia. (2023, October 6). The Plaza Accord’s effects on currency markets