مقالةً كتبها محمد عبده قبل قُرابة 150 عاماً، لتُجسّد الهُوّة الثقافية والانكسار النفسي الذي كان يشعر به المسلمون منذ ذلك الوقت، وتعاملهم مع الحضارة الأوربية كسلطة ثقافة غالبة، وقد حاول محمد عبده التصدي للعالمانية التي بدأت تُلقي بظلالها على العالم الإسلامي، لكنه كما كتب عنه ألبرت حوراني في كتابه القيّم الفكر العربي في عصر النهضة: (لقد نوىَ، أي محمد عبده، إقامة جِدارٍ ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة يبني جسرًا تعبُر العلمانية عليه، لتحتل المواقع واحدًا بعد الآخر).
ربما لم يستطع الشيخ محمد عبده، وهو من دعاة النهضة العربية الإسلامية في القرن التاسع عشر، فهم الحضارة الغربية على حقيقتها ولا تأثير الحضارة في سلوك الناس، إذ إن أخلاق الشعوب، وحسن معاملتها وسلوكها الحضاري، لا يعني أن لها أفضلية على شعوبٍ أخرى، بل الحال أن المفرزات الحضارية هي التي تقوم بالتأثير على سلوك الناس، فكلما زادت الرفاهية وارتفعت مفرزات الحضارة، فإنها تساهم في زيادة القيم والأخلاق الحضارية عند الشعوب، والقصد أن الناس يميلون إلى اللطف واللين في المعاملة، والانضباط في السلوك كلما ارتفع الرصيد الحضاري والرفاهية المادية للدولة، كذلك لا يمكن لأي حضارة أن ترتقي إذا لم يحكمها قوانين تضبط حياة الناس، وكلما كانت هذه القوانين منسجمة مع فطرتهم الأصلية، يكون لها أثرٌ أكبر في سلوكهم، وانضباطهم والتزامهم بتلك القوانين، وهذا الأمر ينطبق على كل الشعوب مهما كان جنسها أو لونها أو دينها.
وبالتالي لا يصلح أن نقول هذا شعبٌ يتّبع قيم الإسلام وليسوا مسلمين كتمييز لهذا الشعب عن غيره من شعوب الأرض، بل هذا من مفرزات الحضارة التي لم تكن لتصل لما هي عليه من تأثيرها في سلوك الناس لولا ولاة الأمر، أي الذين يحكمون البلاد، ويضعون الدساتير والقوانين ويعملون على تطبيقها على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم، ويلتزمون ويُلزمون الناس بالأنظمة الدستورية في البلاد دون محاباةٍ لأحد ولا سعياً لمصالح ولا لاستثناءات شخصية، بل قوانين يتم تطبيقها على الجميع.
وإنّ توافقَ تصرفات وسلوك الناس في الحضارة الغربية مع قيم الإسلام يدلّ دلالةً واضحةً على أن القيم الإسلامية لا تتعارض مع الحضارة الإنسانية المستقيمة، وهذا دليلٌ على انسجام الإسلام مع الفطرة الإنسانية، وانسجامه مع القوانين الفعّالة السليمة، ولا يعني ذلك أن الحضارة الغربية هي حضارة مثالية بجميع المقاييس، بل فيها ثغرات حضارية كبيرة لأنها حضارة مادية بالمقام الأول، تهتم فقط بمصلحة الإنسان المادية دون الروحية، لذا فهي ترتقي بالناس في جانب وتحطّ من قيمهم في جوانب أخرى، وبالتالي فإنها حضارة منقوصة ليست مكتملة الجوانب كالحضارة الإسلامية، والحضارة المنقوصة لا يُكتب لها الدوام، فلا تدوم الحضارة إلا بتوفر قيم العدل والأخلاق اللذين يشكلان معاً ركناً أساسياً لبقائها ورسوخها، وقد أثبتت التجارب للمراقب للحالة الغربية أنه لا ثبات للمنظومة الأخلاقية إن لم تكن مستمدة من الدين، وكما هو واضحٌ وبيّن فإن القيم الأخلاقية الغربية المستمدة من أصول وضعية لازالت في تبدلٍ مستمر منذ زمن محمد عبده، وإن الغرب لا يفتأ يبحث عن مقاييس جديدة للأخلاق كلما اقتضت الحاجة لذلك ووفق منظوره المادي البحت البعيد عن المنظور الروحي الذي يحمل ثباتاً في المنظومة الأخلاقية.
فبعد أن استحلّ الغرب الزنا، ثم برّر واستمرأ الشذوذ، وصل لمرحلة فرض الأجندة المثلية والجندرية على الشعوب كنتيجةٍ للتطرف في المادية التي وصلت إليها الحضارة الغربية، وإن انهيار المنظومة الأخلاقية بهذا الشكل يؤدي بالنتيجة إلى تفكك المجتمعات، هذا التفكك الملاحظ جليّاً الآن في الحضارة الغربية.
ومن سنن الحضارة أنها لا تدوم على مجتمعات مُفكّكة، بل يقود تفكيكها للانهيار التدريجي، الذي لا يخفى على المتابعين للحالة الغربية في العصر الحالي.
وبالتالي فإن سلوك الغربيين هو فقط نتيجة الأثر الحضاري الذي أقرّه صنّاع القرار فيها بتطبيقهم قوانين منسجمة مع فطرة الناس، والزامهم العمل بها، وفي زمن محمد عبده كان لا يزال هناك أثرٌ للمنظور الروحي للأخلاق، فلم يكن العالم الغربي قد وصل بعد إلى السقوط في المنظومة الأخلاقية ذاك السقوط الذي نشهده في الآونة الأخيرة.
وبالنتيجة فالحضارة المؤثّرة في سلوك الناس، تتعلّق بشكلٍ كبير بمَن يحكمهم، فسلوك الشعوب وأخلاقهم تتبع أخلاق ملوكهم وحكامهم، وهذه سنّةٌ في البشر يلمسها المرء حتى على مستوى الجماعة الصغيرة أو الشركة أو المؤسسة، فيُلاحَظ أن سلوك الموظفين يتماشى مع سلوك إدارتهم، وإن الموظف الجديد لابد وأن يتطبع بطابع النظام العام للشركة.
وقد روى أصحاب التواريخ في كتبهم فقالوا: كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجاج وتلاقوا يتساءلون: مَن قُتِل البارحة، ومَن صُلِب، ومَن جُلد ومَن قُطع؟ وأمثال ذلك. وكان الوليد صاحب ضِياع واتخاذ مصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضِّياع وشق الأنهار وغرس الأشجار. ولما ولي سليمان بن عبد الملك، وكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتحدثون عن الأطعمة الرفيعة ويتوسعون في الأنكحة والسراري، ويغمرون مجالسهم بذكر ذلك. ولما ولي عمر بن عبد العزيز كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القرآن وكم وردك في كل ليلة، وكم يحفظ فلان ومتى يختم وكم يصوم من الشهر؟
لذا صدق من قال الناس على دين ملوكهم، فإن استعان الحكام في البلاد الإسلامية بنظام العدل والأخلاق المستمدّ من تعاليم الإسلام، وطبقوا هذه النظم في دولهم ومجتمعاتهم، وبحيث يتساوون جميعاً أمام هذه النظم والقوانين، فإنهم سيبنون حضارةً ستدوم مادامت هاتين المنظومتين ثابتتين وراسختين في حياة الناس، ثم سيكون لهذه الحضارة أثرٌ في سلوكهم ومعاملاتهم وانضباطهم وسير حياتهم، بل إن للحضارة الإسلامية قيمٌ ومعاني من الغير الممكن أن يجدها المرء في أيّ من الحضارات الأخرى، تلك القيم التي ينتج عنها العدل الحقيقي دون ازدواجية، ودون بحثٍ عن مصالح ذاتية، فالنظام الإسلامي يسعى إلى رفع الظلم عن الناس حتى وإن كانوا من شعوب وثقافات وأديان أخرى، فليس في النظم الإسلامية استغلال لثروات الشعوب، وليس فيها ظلمٌ للناس ولا علوٌّ في الأرض، فالإسلام منظومة عدلية وأخلاقية متكاملة المعايير.
لذا لا يمكن أن تُبنى حضارة إنسانية سليمة ثابتة وراسخة إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام وقيمه الأصيلة.
عندها سيأتي من يقول ذهبت إلى الشرق فوجدت مسلمين ووجدت إسلاماً، ووجدت حضارةً وعدلاً و رُقيّاً وأخلاقاً.