توطئة:
القرآن الكريم كتاب ربَّاني، أنزله الخالق سبحانه على عباده ليُظهر لهم صفاته وكماله وجلاله وجماله، ويوضِّح لهم بشريَّتهم وما فيها مِن جوانب خير وشر، وصلاح وفساد، وعدل وظلم، وإنصاف وبغي، وثبات وتغيُّر، وطبع وغريزة، وفطرة وشهوة، ومداخل للشيطان ومنابع للإيمان، وأنَّ الأنبياء جميعًا هم مِن جنس طبيعة البشر إلَّا فيما اختصَّهم الله تعالى به، وعصمهم مِنه، ونزَّههم عنه، نصًّا وبداهة؛ حتَّى أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين قال لأصحابه: (ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا وقد وُكِّلَ به قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ)، قالوا له يستوضحون شأنه: وإيَّاكَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: (وإيَّايَ، إلَّا أنَّ اللَّهَ أعانَنِي عليه فأسلَم، فلا يَأْمُرُنِي إلَّا بخَيرٍ)(1) .
ولإذهاب القداسة عن البشر جميعًا، بمَن فيهم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام، تحدَّث القرآن الكريم عن ذنوبهم وأخطائهم، على سبيل التفصيل والإجمال، كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبتَغِي مَرضَاتَ أَزوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))، التحريم: 1؛ وفي قوله تعالى: ((لِّيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقدَّمَ مِن ذَنبِكَ ومَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعمَتَهُ عَلَيكَ ويَهدِيَكَ صِرَاطًا مُّستَقِيمًا))، الفتح: 2. فقد فصَّل في الأولى وخصَّص، وأجمل في الثانية وعمَّم. ولم ينف عنه الخطأ والنسيان والذنب.
وفيما عدا ذلك، فإنَّ الله تعالى أثبت للأنبياء والرسل ما أثبته للبشر مِن ضرورات واحتياجات، ومِن رغبات وتطلُّعات، ومِن شهوات وغرائز، صانوها عن الحرام وإن أوشكت أن توقعهم في الحرام، كما جاء عن يوسف -عليه السلام: ((وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَولَا أَن رَّأَىٰ بُرهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا الـمُخلَصِينَ))، يوسف: 24.
وإثبات قياس الأولى في حقِّ مَن دونهم، مِمَّن اختارهم الله تعالى لصحبة أنبيائه ورسله مِن الحواريين والأتباع، قياس صحيح؛ فهم وإن كانوا في كلِّ أمَّة خير أجيالها وأفضل أهلها، وأزكاهم على الإطلاق، إلَّا أنَّ الجانب البشري فيهم ليس منزوعًا عن حركتهم وحياتهم وآرائهم ومواقفهم، فلا يمكن تفسير حركتهم وآرائهم ومواقفهم وانفعالاتهم دون عودة لهذا الجانب وتقييم مدى تأثيره فيهم. وقد كان القرآن الكريم حريصًا على أن يوضِّح علم الله تعالى لهذا الجانب مِنهم، يقول تعالى: ((عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُم كُنتُم تَختَانُونَ أَنفُسَكُم فَتَابَ عَلَيكُم وَعَفَا عَنكُم))، البقرة: 187؛ ويقول: ((.. أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ))، البقرة: 235؛ ويقول سبحانه: ((تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيَا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ))، الأنفال: 67؛ ويقول: ((قَد يَعلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُم لِوَاذًا))، النور: 63.
والكلام عن التطلُّعات السياسية عند الصحابة لا يقصد الطعن أو التشكيك فيهم، أو الإساءة لهم، بل لاتّخاذهم قدوة ومثلًا يمكننا أن نَدنُوَ مِنه، وإلَّا فلو كانوا معصومين لم يكن لمعنى الاقتداء بهم حكمة، إذ مَن عُصم أنَّى يمكن إدراكه مِن غير المعصوم؟! لكن لـمَّا علمنا أنَّهم -رغم خيريَّتهم- قاوموا نزواتهم ومطامعهم وشهواتهم وأحكموا طبائعهم وغرائزهم وأخلاقهم، عرفنا أنَّ الأمر بالمجاهدة والمقاومة والمداومة على التوبة والعودة إلى الله مع كلِّ خطأ وذنب وغفلة وهوى.
ومِن ثمَّ فحديثنا هنا عن “التطلُّعات السياسية عند الصحابة” هو حديث عن أعزِّ مَن نحب، وأغلى مَن نود، وأعلى مَن نقتدي بهم. ولهذا فينبغي أن يكون حديثنا عنهم حديثا واقعيًّا محفوفًا بالتوقير، وحديثا صريحًا مصبوغًا بالتقدير، وحديثا معتبرًا مردوفًا بالاستغفار والدعاء لهم ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلِإِخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ))، الحشر: 10. والمخاض في هذا الميدان مظنَّة زلل (غير مقصود)، وتأويل (غير متيقَّن)، وإنَّما هي محاولة للفهم والاستنباط، مع وجلٍ تامٍّ أن نسيء لرموزنا العظام وساداتنا الكرام. ولكن قد قيل: الحديث ذو شجون.
تطلُّعات النفوس:
ما الذي أخرج آدم -عليه السلام- وهو الذي رأى ربَّه، وحظي بتكريمه، ونال إحسانه وإنعامه، ممَّا كان قد بلغه مِن منزلة ومكانة في الجنة؟ إنَّه ليس إلَّا التطلُّع للخلود وإلى الملك. يقول تعالى: ((فَوَسوَسَ لَهُمَا الشَّيطَانُ لِيُبدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِیَ عَنهُمَا مِن سَوءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَن هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَينِ أَو تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ))، الأعراف: ٢٠- ٢١. لقد تسبَّب هذا المنزع لديه إلى نسيان الأمر الإلهي، نسيان غفلة أو نسيان ترك، والأكل مِن الشجرة التي نهي عن الأكل مِنها، هو وزوجه، لتحقيق هذا التطلُّع الذي رغب في تحقُّقه.
لقد وقع الأب في فخِّ الضعف البشري، وهو ضعف متوارث لا يمكن الفكاك مِنه إلَّا بمزيد عون إلهي. فقد جاء أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (جَحَد آدمُ فجَحَدَت ذُرِّيَّتُه، ونَسِيَ آدمُ فنَسِيَت ذُرِّيَّتُه، وخَطِئَ آدمُ فخَطِئَت ذُرِّيَّتُه) (2). وقياسًا عليه: وتطلَّع آدم فتطلَّعت ذرِّيته.
هذا الجانب البشري في الإنسان، هو محلُّ الابتلاء والاختبار، وهو الذي بمدافعته يتمايز الخلق ثباتًا وصبرًا، كما يتفاوتون في القيام بالواجبات والمسئوليَّات الملقاة على كاهلهم. ونفي هذا الجانب سعيًّا في ادِّعاء العصمة أو إضفاء الكمال على البشر ليس منهجًا شرعيًّا، بل هو ما عابه القرآن الكريم على غلاة الاعتقاد في عيسى وأمثاله، عندما أرادوا نزع صفة البشرية عنهم.
وإذا كان آدم -عليه السلام- قد تطلَّع لأن يكون خالدًا وملكًا [إذ على إحدى القراءات (مَلِكَين)، كما ورد عن ابن عبَّاس -رضي الله عنه، وكان يقول: “ما طمعا في أن يكونا مَلَكَين، لكنَّهما استشرفَا إلى أن يكونا مَلِكَين، وإنَّما أتاهما الملعون مِن جهة الـمُلك”. ويدلُّ على هذا قوله تعالى: ((هَل أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلدِ ومُلكٍ لَا يَبلَى))، طه: 120، كما ذهب بعض المفسِّرين] فإنَّ هذا التطلُّع للملكية تطلُّع متوارث في ذرِّيته، مؤمنهم وكافرهم، برِّهم وفاجرهم.
ومِن عجيب القدر أنَّ داود -عليه السلام- عندما نال السلطة بعد طالوت دعا الله تعالى أن يهبه ملكًا لا ينبغي لأحد مِن بعده؛ فهو لم يكتف بملك طالوت الذي ورثه بل سأل الله أمرًا أكبر وأعظم؛ وهو النبيُّ ذاته الذي لفت انتباه آدم -عليه السلام- عندما عرضت عليه ذرِّيته (3)، مِن سائر ذرِّيته.
فإذا ادَّعينا أنَّ بعض الصحابة -رضي الله عنه- تطلَّع للحكم والإمارة، فإنَّ هذا لا يعدُّ ادِّعاء يخالف العقل أو الطبيعة أو الواقع أو ما أخبر به الشرع عن مَن هو خير مِنهم. فهو كلام في سياق الحديث عن بشريَّتهم وإنسانيَّتهم. وهذا الأمر يفسِّر لنا بعضًا ممَّا وقع بينهم، أو وقع بهم. وقد جاء في السيرة النبوية أنَّ رجلًا مِن أصحاب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- سأله الإمارة، وقال له: يا رَسولَ اللَّهِ.. استَعمَلتَ فُلانًا ولَم تَستَعمِلنِي؟ قال: (إنَّكُم سَتَرَونَ بَعدِي أثَرَة، فاصبِرُوا حتَّى تَلقَونِي) (4). وفي الصحيحين أنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (يا عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ سَمُرَةَ.. لا تَسأَلِ الإمارَةَ، فإنَّكَ إن أُوتِيتَها عن مَسأَلَةٍ وُكِلتَ إلَيها، وإن أُوتِيتَها مِن غيرِ مَسأَلَةٍ أُعِنتَ عليها) (5) .
الصحابة الذين تطلُّعوا للإمارة:
جاء عن أبي ذرٍّ الغفاري، رضي الله عنه، وهو مَن هو في زهده، أنَّه قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ.. أَلَا تَستَعمِلُنِي؟ قال: (فَضَرَبَ بيَدِهِ علَى مَنكِبِي، ثُمَّ قالَ: يا أَبَا ذَرٍّ.. إنَّكَ ضَعِيف، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا) (6). فإذا كان أبو ذرٍّ قد تطلَّع للإمارة على ما فيه مِن ضعف على تحمُّلها فكيف بمَن توفَّرت فيهم قدرات السيادة ومواهب القيادة وإمكانات الإمارة؟!
إنَّ التطلُّع للأمور لها أسباب عديدة، تختلف باختلاف طاقات الناس، ونظرتهم للأمور، وتقديرهم لها، وإيمانهم بأهميَّتها وقيمتها، ورغبتهم في التنافس في بلوغها وحيازة ما يمكن حيازته مِنها. وقد يلتزم هذا التطلُّع حدود الشرع والأدب والعقل، وقد لا يلتزم ذلك، فيوقع صاحبه في مهاوي الزيغ والفجور؛ لهذا قال -صلَّى الله عليه وسلَّم: (ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنمٍ بأفسدَ لها مِن حرصِ المرءِ على المالِ والشرفِ لدِينه) (7).
وقد كانت دوافع الصحابة -رضي الله عنهم- للتطلُّع للسلطة والحكم تدور بين المعاني النبيلة المرغوبة شرعًا والمطامع المباحة شرعًا، ولا تتجاوز ذلك للأمور المحرَّمة والدنيئة. فلم يكونوا ممَّن يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا، معاذ الله؛ بل كانوا يرون أنَّ القيام بمسئوليَّات الدين والأمَّة العظمى التي تتضاعف فيها الحسنات وتدوم، لعموم نفعها ودوامه، ممَّا ينبغي التسابق إليه كالتسابق على صفوف الصلاة وحلق العلم والذكر. وقد ذكر رسول الله في مقدِّمة السبعة الذين يظلُّهم الله في ظلِّه (إمام عادل) (8)، وقد أثنى رسول الله على مَن يخلفه في أمَّته بسيرته وعدله ورأفته بأنَّهم (خلفاء راشدون مهديُّون)، فكانوا حريصين على نيل هذا الشرف العظيم إذ هو محصور بزمانهم، كونه لا يخرج عن (30) عامًا، مِن وفاة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومِن هؤلاء الصحابة الذين تطلُّعوا للسلطة والخلافة (9) :
1- عثمان بن عفان:
وهو عُثمان بن عفَّان بن أبي العاص بن أُميَّة بن عبد شَمس بن عبد منَاف بن قُصي بن كلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر. وأمُّه ابنة عمَّة النبي -صلَّى الله عليه وسلم، فأمُّها هي البيضاء بنت عبد المطَّلب. فهو مِن أوسط بيوتات قريش نسبًا ومكانة.
كان عثمان قبل إسلامه مِن أشراف مكَّة، وأثراها مالًا وغنىً، ومِن أرشدها عقلًا وأفضلها رأيًا، وكان جوادًا وسخيًّا ومحبوبًا مِن الناس. وكان له معرفة بعلوم العرب في الجاهلية، الأنساب والأمثال وأخبارهم وأحداثهم، وتاجر ورحل إلى الشام والحبشة.
يعدُّ عثمان مِن السابقين الأوَّلين للإسلام؛ ونظرًا لقربه مِن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، ومودَّته له، فقد زوَّجه ابنتيه على التوالي، رُقيَّة، ثمَّ بعد وفاتها أمَّ كلثوم، ولهذا لقِّب بـ”ذو النورين”. وهو مِن العشرة المبشَّرين بالجنَّة.
وقد تعدَّدت خصال عثمان وفضائله حتَّى عُدَّ مِن كبار الصحابة ومقدَّميهم. فلمَّا مات عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جعله مِن الستَّة الذين رشَّحهم للخلافة، وهم: علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيدالله، وعثمان بن عفَّان ذاته.
ولمـَّا اجتمع الستَّة لتقديم مرشَّح أوحد مِنهم، قال لهم عبدالرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة مِنكم. فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي. وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: جعلت أمري إلى عبدالرحمن. فقال عبدالرحمن بن عوف لعثمان وعلي: أيُّكما تبرَّأ مِن هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه. فسكت الشيخان، أي أنَّهما تطلَّعا للأمر ونيل الخلافة. فقال عبدالرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ والله على ألَّا آلو عن أفضلكما. قالا: نعم. فلمَّا ذهب عبدالرحمن بن عوف يستشير عموم المسلمين أيَّ الرجلين يختارون، رجَّح عموم أهل المدينة ومَن حولها ومَن كان ورد إليها جانب عُثمان، فأعلنه عبدالرحمن بن عوف خليفة على المسلمين، وتمَّت بيعته مِن عموم المسلمين.
إذن، كان عثمان بن عفَّان حريصًا أن يبقى ضمن خيارات الترشيح والاختيار للخلافة، ولم يتنازل بالأمر لأحد غيره. وهو في ذلك إنَّما يستجيب لغريزة طبيعية لرجل مثله، جمع مِن المزايا والخصائص والفضائل والمكانة ما لم تجتمع في غيره؛ مع تطلُّعه لنفع المسلمين واكتساب الأجر والثواب على قيامه بهذه الأمانة والمسئولية. وقد نال تطلُّعه ذلك بالشورى واختيار صحابة رسول الله له جميعًا، ولم يحيله إلى مطامع فاجرة آثمة ترفع السيف وتتغلَّب على المنافسين، وهو القادر على ذلك لو شاء.
غير أنَّ ما يلفت الانتباه في حقِّ عثمان -رضي الله عنه- أنَّه لم يُعهد عنه تطلُّع مِن قبل للسلطة، ولم يؤثر له تصدُّر لهذا الأمر وحرص عليه. ولعلَّ منشأ الحرص هو أنَّه أصبح في موقف الندِّ مِن علي بن أبي طالب وهما في القرب والمصاهرة مِن الرسول بمكان مختلف، وأنَّ عثمان يكبر عليًّا بأكثر مِن عقدين مِن الزمن، وينتمي لأكبر بيوتات مكَّة عددًا وأرفعهم رئاسة. فالسياق الذي قاده القدر إليه كان دافعًا لأن يبقى في ميدان المنافسة والحرص، وإن لم يكن في نفسه شخصًا طامعًا للحكم والسلطة؛ خاصَّة وأنَّ عليًّا تمسَّك ببقائه في حلبة المنافسة.
2- معاوية بن أبي سفيان:
والده (أبو سفيان) هو صخر بن حرب بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف سيِّد مِن سادات قريش، وزعيم مِن زعمائها، كان تاجرًا واسع الثراء، ومقاتلًا شجاعًا، وقد قاد معسكر قريش في معركة أحد، وفي معركة الأحزاب. ووالدته هي هند بنت عتبة؛ أبوها عتبة بن ربيعة سيِّد مِن سادات قريش وبني كنانة، وكانت امرأة أريبة لبيبة. فنشأ معاوية -رضي الله عنه- في بيت شرف وفخر. وقد تزوَّج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أخته لأبيه، رملة بنت أبي سفيان “أم حبيبة”، فكان بذلك صهر رسول الله.
أسلم معاوية قبل فتح مكَّة، فقرَّبه رسول الله إليه وأتمنه على كتابة الوحي، لمعرفته بالكتابة. تولَّى قيادة جيش بعثه أبو بكر -رضي الله عنه، زمن خلافته، إمدادًا لأخيه الصحابي يزيد بن أبي سفيان. قاتل المرتدِّين في معركة اليمامة، وشارك في فتوحات الشام. ثمَّ ولَّاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على الأردن عام 21هـ؛ ثمَّ بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان مِن طاعون عمواس ولَّاه عمر ولاية دمشق وما يتبعها مِن بلاد. وفي زمن عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- تولَّى ولاية الشام كلِّها، وظلَّ على هذا الحال حتَّى مقتل عثمان.
وقد بدأت نزعة التطلُّع للسلطة مع مقتل عثمان -رضي الله عنه، حيث امتنع معاوية عن مبايعة علي بن أبي طالب، واستقلَّ بولاية الشام عن الدخول في سلطته، بدعوى المطالبة بدم عثمان والقصاص مِن قتلته الذين دخلوا فيما دخل فيه الناس مِن مبايعة علي بن أبي طالب، فكانوا تحت إمرته وضمن معسكره. وفي حين أنَّ المطالبة بدم عثمان والقصاص مِن قتلته شأن يتعلَّق بمعاوية وأولياء الدم مِن أهل عثمان، إلَّا أنَّ معاوية استغلَّ موقعه على ولاية الشام فاتَّكأ عليها لهذا المطلب الخاص، وهو ما عرَّض الدولة للانقسام، في حين كان ينبغي على معاوية أن يميِّز بين ما هو شخصي وبين ما هو أمر عام. ولهذا أبى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هذا المنطق، واندفع لإخضاع مِن خرج على ولايته بدعوى القصاص لدم عثمان بالقوَّة، كون أنَّ القضايا الجنائية مردُّها القضاء، وأنَّ إقحام الدولة في هذه المطالب الشخصية والفئوية وتعريض سلطانها للانقسام مخالف للسياسة والحكم. ومِن هنا نشب الخلاف وتطوَّر حتَّى أفضى للاقتتال بين علي -رضي الله عنه- ومَن خرجوا عليه.
لقد أمسك معاوية -رضي الله عنه- بولاية الشام، رغم محاولة علي بن أبي طالب لعزله، وعزَّز نفوذه فيها، وظلَّ متصدِّرًا لمعارضة علي -رضي الله عنه، حتَّى قتل علي عام 40ه. ولم يدخل في مبايعة الحسن بن علي، حتَّى تنزل له الحسن بن علي بالسلطة. فكانت خلافة معاوية لا عن بيعة ابتداء، وإنَّما عن تمكُّنه مِن أمر الشام وتنازل الحسن له بعد مبايعة الناس له؛ ولذلك لا تعدُّ ولاية معاوية خلافة راشدة رغم كونه صحابيًّا جليلًا، ورغم عدله ورحمته وحكمته وقيامه بمصالح المسلمين على وجه بالغ. ففترته باتِّفاق أهل العلم تدخل في الملك العضوض.
وتطلُّع معاوية هذا أثبته عبدالله بن عُمَرَ -رضي الله عنهما، كما ورد في صحيح البخاري، أنَّه قال: دَخَلت على حَفصة ونَسوَاتُها تَنطُفُ، قلت: قد كان مِن أَمرِ النَّاس ما تَرَين، فلم يُجعل لي مِن الأمر شيء. فقالت: الحَق فإِنَّهم ينتظرونك، وأَخشى أن يكون في احتباسك عنهم فُرقَة. فلَم تَدَعه حتَّى ذَهَبَ. فلمَّا تفرَّق النَّاس خطب معاوية فقال: “مَن كَانَ يُرِيدُ أن يتكلَّم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قَرنَه، فلنحن أحقُّ به مِنه ومِن أَبِيهِ. قال حبيب بن مسلمة: فهلَّا أَجَبتَه؟ قال عبدالله: فحللت حُبوتي وهَمَمت أن أقول: “أحَقُّ بهذا الأمرِ مِنك مَن قاتَلَك وأَبَاك على الإسلام، فخَشِيت أن أقول كلمة تُفَرِّقُ بين الجمع، وتَسفِك الدَّم، ويُحملُ عنِّي غير ذلك، فذكرتُ ما أَعَدَّ الله في الجنان (10). وقد أبانت رواية الطبراني، عن حَبِيبِ بن أبي ثابت، عن ابن عمر أنَّ هذا الحدث وذلك الكلام جرى في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدومة الجندل (11).
وهذا الخبر يفيد تطلُّع معاوية للسلطة وعدم رغبته في وجود منازع له، وهو توجُّه رسَّخه بتوريث الحكم مِن بعده لابنه يزيد؛ فكان بذلك أوَّل مَلِكٍ في الإسلام، إذ استحالت الخلافة مِن شورى إلى ملكيَّة وحكم وراثي. وهو وإن خالف بذلك سنَّة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، والخلفاء الراشدين مِن بعده، إلَّا أنَّ هذا لا يطعن في دينه وعدالته، لأنَّ ما قام به مزيج مِن الاجتهاد والتأوُّل والخطأ الذي أنكره عليه بعض الصحابة قبل غيرهم. وقد قال ابن خلدون في هذا الأمر: “والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد، دون مَن سواه، إنَّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتِّفاق أهوائهم باتِّفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ مِن بني أُميَّة، إذ بنو أُميَّة يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملَّة أجمع، وأهل الغلب مِنهم، فآثره بذلك دون غيره ممَّن يُظنُّ أنَّه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتِّفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع؛ وإن كان لا يُظنُّ بمعاوية غير هذا، فعدالته وصحبته مانعة مِن سوى ذلك. وحضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممَّن يأخذهم في الحقِّ هوادة. وليس معاوية ممَّن تأخذه العزَّة في قبول الحقِّ، فإنَّهم كلُّهم أجلُّ مِن ذلك، وعدالتهم مانعة مِنه” (12).
وهذا الملمح الذي أشار إليه ابن خلدون هو ذاته الذي لأجله أثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- على الحسن بن علي؛ حيث قال: (إِنَّ ابنِي هَذَا سَيِّد ولعلَّ اللَّه أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين مِن الـمُسلِمِينَ) (13)، ومعلوم أنَّ ذلك الصلح لم يتم إلَّا بتنازل الحسن بن علي لمعاوية بالأمر لتجتمع كلمة المسلمين، إذ كانت بلاد الإسلام وجماعتهم منقسمة إلى معسكرين: معسكر الشام ومعسكر العراق.
3- علي بن أبي طالب:
يعدُّ علي بن أبي طالب ابن عمِّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، وربيبه، إذ عاش في كنفه؛ وقد زوَّجه فيما بعدُ أحبَّ بناته إليه فاطمة -رضي الله عنها. وكان عليٌّ مقرَّب لرسول الله يفوِّض إليه بعض الأمور، ويصدِّره في بعض القضايا. فقد منحه الراية يوم خيبر، إذ قال: (لَأُعطِيَنَّ الرَّاية غدًا رَجُلًا يَفتَحُ اللَّه على يدَيه). فبَاتَ النَّاس يدُوكُون ليلتهم أيُّهم يُعطاها، فلمَّا أصبح النَّاس غَدَوا على رسول اللَّه، كلُّهم يرجو أن يُعطاها، فقال: (أين عليُّ بن أبي طالب)، ثمَّ أعطاهُ الرَّاية (14). وأوكله على شئون المدينة مرَّة وهو متَّجه للغزو، فكبر على عليٌّ تخلُّفه في المدينة عن رسول الله، فقال له: (أنت مِنِّي بمَنزِلَة هارون من موسى، إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي) (15).
هذه القربى، وتلك المكانة، وهذا الحضور لعلي بن أبي طالب في حياة الرسول وبين الصحابة، يزيده -دون شكٍّ- ثقة بنفسه، واعتزازًا بذاته، ما يجعله يتطلَّع للقيام بالمهام والمسئوليَّات الكبرى. وقد ورد أنَّ العباس بن عبدالمـُطَّلب أشار على علي، في المرض الذي توفِّي فيه رسول الله، أن يدخلوا على رسول الله فيسألونه: في مَن الأمر مِن بعده؟ فقال علي -رضي الله عنه- لعمِّه العبَّاس -رضي الله عنه: “إنَّا واللَّهِ لئِن سأَلناها رسول اللَّه فمَنَعَنَاها لا يُعطِينَاها النَّاس بعده، وإنِّي واللَّه لا أسألها رسول اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم”(16) . فأبان الأثر أنَّ عليًّا كان راغبًا ألَّا يتسبَّب السؤال في عكس المقصود، وأن يفوت عليه وعلى عمِّه الأمر بنصٍّ شرعي؛ وهذا يعني أنَّه كان متطلِّعًا للخلافة بعد رسول الله عن مشورة مِن الناس، حيث لا نصَّ في المسألة.
وقد وجد علي بن أبي طالب في نفسه تجاه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما، عندما جرى أمر في سقيفة بني ساعدة دون حضوره ومشورة مِنه؛ في إشارة مِنه إلى حضوره في الأمر وتشوُّفه إليه.
وقد ثبت أنَّ فاطمة -رضي الله عنها- وجدت في نفسها على أبي بكر -رضي الله عنه- عندما منعها سؤالها عن ميراثها مِن رسول الله، وهجرته فلم تُكلِّمه ستَّة أشهر حتَّى تُوُفِّيت، فلما ماتت استنكر علي -رضي الله عنه-وجُوه النَّاس، إذ لم يبايع أبا بكر تلك المدَّة كاملة، فالتمس مُصالحة أبي بكر ومُبايعته، فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتِنا، ولا يأتنا أحد معك. وذلك كراهية أن يحضر معه عمر بن الخطَّاب، فقال عمر: لا واللَّه لا تدخل عليهم وحدك! فقال أبو بكر: وما عسَيتَهم أن يَفعَلُوا بي؟! واللَّه لآتِيَنَّهم. فذهب فدخل عليهم، ويبدو أنَّ ذلك كان في محضر مِن قرابة علي نفسه. فتشَهَّد علي وقال: “إنَّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك اللَّهُ، ولم ننفَس عليك خيرًا ساقه اللَّهُ إليك، ولكنَّك استَبدَدت علينا بالأمر، وكُنَّا نرى لقرابتنا مِن رسول اللَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- نَصِيبًا”. وفي هذا غاية الوضوح على أنَّ عقد البيعة لأبي بكر أحدثت شرخًا في نفوس علي ومَن معه، وهو ما أظهروا معاتبتهم إيَّاه لأجله. ثمَّ إنَّ عليًّا قال لأبي بكر: “موعدك العشيَّة للبيعة”. علمًا بأنَّ البيعة أساسًا قد تمَّت، وقد باتت خلافته شرعيَّة بمبايعة جمهور الصحابة له، فكان عليٌّ ومَن معه يريدون تأكيد حضورهم في هذا الأمر، أكثر مِنه إكساب شرعية قد تمَّت. لذلك قال أمام الناس في المسجد النبوي وهو يبايع أبا بكر أنَّه لم يحمله على الذي صَنَعَ نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارًا للذي فضَّله اللَّه به، “ولكِنَّا نرى لنا في هذا الأمر نَصِيبًا، فاستَبَدَّ علينا، فوجدنا في أنفسنا” (17).
ولما مضى أبو بكر -رضي الله عنه- في خلافته، واستعان بعمر في كثير مِن أمور الخلافة، فكان محلَّ مشورته ورفقته، وشعر علي -رضي الله عنه- تفضيل الصحابة لهما على مَن سواهما، تقبَّل مكانته التي أفرزها المجتمع له، فالمكانة الاجتماعية لا تتوقَّف عند النصوص فحسب، بل هي انعكاس لقناعة أفراد المجتمع بأهميَّة الشخص ونفعه لهم. لهذا مضت بيعة عمر بن الخطاب بعد وفاة أبي بكر بشكل سلس، ودون اعتراض مِن علي، إذ أخذ عبرة مِن عتب الناس عليه في تخلُّفه عن مبايعة أبي بكر فيما مضى.
ولمـَّا جعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ضمن الستَّة الذين رشَّحهم للخلافة تطلَّع علي أن يكون هو الخليفة التالي بعد عمر، وأنَّ الناس لن تعدل عن اختياره، لذلك لما كلَّمه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفَّان كي يتنازل أحدهما للآخر بالأمر لم يفعل، لا هو ولا عثمان. فلمَّا ذهب عبدالرحمن بن عوف يستشير عموم الصحابة، وأهل المدينة، والوافدين إليها مِن المسلمين، وجد أنَّ الناس لم تعدل بعثمان. ومع ذلك تخوَّف عبدالرحمن بن عوف مِن عاقبة هذه النتيجة، فقد حكى المسور بن مخرمة أنَّ عبدالرحمن بن عوف طلب مِنه، في الليلة الثالثة مِن وفاة عمر، والتي يفترض أن يُعلن الخليفة المختار في صبيحتها، أن يدعو له الزبير بن العوَّام وسعد بن أبي وقَّاص، فدعاهما له، فشاورهما، ثُمَّ أمره أن يدعو له علي بن أبي طالب، فدعاه له، فناجاه حتَّى ابهارَّ اللَّيل، “ثمَّ قام عليٌّ مِن عنده وهو على طمع، وقد كان عبدالرَّحمن يخشى مِن عليٍّ شيئًا. ثمَّ قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه حتَّى فرَّق بينهما المـُؤذِّنُ بالصُّبح. فلمَّا صلَّى للنَّاسِ الصُّبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى مَن كان حاضرًا مِن المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافَوا تلك الحجَّة مع عمر، فلمَّا اجتمعوا تشهَّد عبدالرَّحمن، ثمَّ قال: أمَّا بعد.. يا عليُّ.. إنِّي قد نظرت في أمر النَّاسِ فلم أرَهم يَعدِلُون بعثمان، فلا تجعلنَّ على نفسك سبيلًا”(18) .
وهكذا يظهر أنَّ تطلُّع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كانت له دوافع وأسباب عدَّة، وأنَّه كان تطلُّعًا قويًّا ومبكِّرًا، غير أنَّ عليًّا تمكَّن مِن كبح جماحه وضبط سلوكه بما لا يخرج عن الشرع، ولا يتجاوز الخُلُق والآداب. غير أنَّ هذا التطلُّع أثَّر على موقفه مِن بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- بادئ الأمر، لكنَّه عاد عن ذلك الموقف لمـَّا رأى أنَّ الصحابة لا يقدِّمون على أبي بكر أحدًا، وكذلك الشأن في عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
ولمـَّا بلغ الخلافة وأصبح أميرًا للمؤمنين، وقعت في عهده أحداث دامية عدَّة، ونازعه معاوية -رضي الله عنه، وغيره مِن الصحابة، الطاعة حتَّى يقتصَّ مِن قتلة عثمان، ما جرَّه لقتالهم، والدخول في معارك داخليَّة أثَّرت على حالة الدولة الإسلامية والمجتمع المسلم الذي بدأ الانقسام يدبُّ فيه؛ ولم تدم خلافته لأكثر مِن خمس سنوات، حيث جرى اغتياله في شهر رمضان 40ه.
4- العبَّاس بن عبدالمطَّلب:
كان العبَّاس بن عبدالمطَّلب عمَّ رسول الله -رضي الله عنه- ممَّن أسلم عام الفتح، وقيل أسلم قبل ذلك. وقد فرح رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه بإسلامه. وقد حضر مع رسول الله بيعة العقبة الثانية رغم عدم إسلامه لوثوق الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- به. كما كان ممَّن ثبت حول رسول الله، هو وأبو سفيان بن حرب، في معركة حُنين، حين فرَّ كثير مِن الصحابة عن ميدان القتال. وقد عرف أصحاب الرسول منزلته، لما له مِن فضل ورأي ومكانة عند رسول الله. وكان قبل إسلامه، في الجاهلية، رأسًا وسيِّدًا مِن سادات قريش، وله دور في عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجيج.
ولشرف العبَّاس ومنزلته في قريش خاف أن يدخل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مكَّة عنوة، فسعى لتأمين أهل مكَّة، وأتى بأبي سفيان إلى رسول الله ليُسلِم بين يديه، فلمَّا أسلم قال العبَّاس لرسول الله: يا رسول اللَّه.. إنَّ أبا سفيان رجل يحبُّ هذا الفخر، فاجعل له شيئًا. قال: _نعم، مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومَن أغلق عليه داره فهو آمنٌ، ومَن دخل المسجد فهو آمنٌ) (19).
وقد سبق أوردنا كلام العبَّاس لعلي بأن يسألا رسول الله: لـمَن الأمر مِن بعده؛ وهو ما يعبِّر عن تطلُّع العبَّاس -رضي الله عنه- في الخلافة في بني هاشم، وحرصه أن تبقى لهم حظوة إذا لم يكن الأمر فيهم. وهذا تطلُّع دافعه المكانة والمنزلة والتاريخ الحافل بالإنجاز والزعامة، إذ أنَّ مِن شأن الإقصاء أن يدفع لتهميش الناس عن مكانتهم، لذلك أراد العبَّاس أن يسأل رسول الله أن يُوصي مَن يخلُفَه بقرابته. وقد جرت السنن أنَّ الناس أقرب ما تكون ممَّن غلب، وممَّن كانت له سعة في المال وغنى في الموارد، فمَن فقد الأمرين مالت الناس عنه، وأعرضت عن قصده. وقد جرى العُرف في العرب -وغيرهم- تنافس الناس على الصدارة والزعامة، خصوصًا عند تعاظم الأمر. وقد قال أبو سفيان للعبَّاس -رضي الله عنهما- عندما رأى التفاف المهاجرين والأنصار برسول الله، وعظم جيشه، عند دخوله مكَّة فاتحًا: “يا أبا الفضل.. لقد أصبح مُلكُ ابن أخيك عظيمًا”(20).
وقد انعكس هذا التطلُّع لاحقًا في ذريَّة العباس، والذين لم يطل بهم المقام حتَّى ثاروا على بني أميَّة ونزعوا الملك مِنهم، ليؤسِّسوا دولة بني العبَّاس؛ فقد بدأت الدعوة إلى أحقِّية بني العبَّاس بالخلافة مع أبي عبدالله محمَّد بن علي بن عبدالله بن عبَّاس بن عبدالمـُطَّلب. وما كان هذا ليتمَّ لولا شعورٌ غُرِس في تلك الذرِّية مُبكِّرًا، فلم يمض على وفاة العبَّاس 100 عام حتَّى قامت دولة بني العبَّاس، انطلاقًا مِن أرض خُرسان، تحت الدعوة للإمام مِن “آل البيت”.
وهذا التطلُّع لدى العبَّاسيين عزَّزه التَّنافس بين الأمويين والعلويين، وبروز أطراف أخرى مناوئة كعبدالله بن الزبير، حتَّى صُبغ القرن الأوَّل بصراع دموي عنيف بدا للناظر إليه وكأنَّه صراع على السلطة، وإن اختلفت مقاصد المتنافسين. وقد دوَّنت كتب التاريخ خلافًا للصراع المسلَّح سجالًا خطابيًّا واسعًا وشديدًا بين هذه الأطراف، يبدي نوازعهم ومنطلقهم وأوجه انتقادهم للطرف الآخر، إذ ماجت الآراء وهاجت النفوس.
5- سعد بن عبادة:
كان سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قبل إسلامه سيِّدًا مطاعًا في قومه، يتحلَّى بصفات القيادة والسؤدد. وكان مِن أكرم أهل يثرب وأجودهم نفسًا؛ وقد مضى على هذا الجود والكرم الذي عُرِف به حتَّى وفاته. وقد شهد بيعة العقبة الثَّانية، وأُحدًا، والخندق، وغيرها مِن الغزوات والمعارك. وحفظت لنا السيرة جهاده وتضحياته، وحبَّه للرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، ونصرته له، وفضائله العظيمة في الإسلام.
ظلَّ سعد بن عبادة متمسِّكًا بالزَّعامة ومسئوليَّاتها ومقتضياتها. وقد سجَّلت دواوين السُّنَّة والسَّيرة أنَّه لـمَّا قام رسول الله يخطب في النَّاس، بعد أن استطال المنافقون في عرض عائشة -أمِّ المؤمنين، رضي الله عنها، وقال: (مَن يَعذِرُنِي مِن رَجُلٍ بَلَغَنِي أذَاهُ في أهلِي؟! فوَاللَّهِ ما عَلِمتُ علَى أهلِي إلَّا خَيرًا، وقد ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمتُ عليه إلَّا خيرًا، وما كان يَدخُلُ على أهلِي إلَّا معي). فقام رجل مِن الأوس، فقال: يا رسول اللَّه.. أنا واللَّهِ أعذرك مِنه، إن كان مِن الأوسِ ضربنا عُنُقه، وإن كان مِن إخواننا مِن الخزرج أمَرتَنا ففَعَلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة -وهو سيِّدُ الخزرج، فقال: كَذَبت، لعَمرُ اللَّه لا تَقتُلُه، ولا تَقدِرُ على ذلك. فقام أُسَيدُ بن حُضير فقال: كَذَبتَ لَعَمرُ اللَّه، واللَّهِ لنَقتُلَنَّه، فإنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عن المـُنَافقين. وثَارَ الحَيَّانِ -الأوس والخزرج، حتَّى هَمُّوا بقتال بعضهم بعضًا، ورسول اللَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- على المنبر، فنزَل فخفَّضهم حتَّى سكتُوا، وسَكَتَ هو عن الأمر. وقد قالت عائشة عن هذا الموقف لسعد بن عبادة: “وكان قَبلَ ذلك رَجُلًا صالحًا، ولكن احتَمَلَته الحَمِيَّة”(21) . والحميَّة التي أخذته هنا باعتباره قائدًا معنيًّا بالدفاع عن قبيلته وقومه، إذ لا يرغب في أن يتولَّى مَن هو خارج قبيلته دور المسئولية على رعيَّته، لا أنَّه سيعصي أمر رسول الله فيما لو أمر، خصوصًا في ظلِّ التنافس الأوسي الخزرجي وتاريخ الصراع الذي كان بينهما قبل الإسلام.
وحدث في فتح مكَّة أن أعطى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سعد بن عبادة الرَّاية، فمرَّ بها على أبي سفيان وكان قد أسلم، فقال سعد: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلُّ الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا”، فشكاه أبو سفيان إلى رسول الله، وقال عثمان بن عفَّان وعبدالرَّحمن بن عوف -رضي الله عنهما: يا رسول الله ما نأمن سعدًا أن تكون مِنه صولة في قريش. فأخذ رسول الله الرَّاية مِن سعد، وأعطاه لابنه قيس (22).
كما سجَّلت له تلك الدَّواوين حادثة أخرى، وهي أنَّه لـمَّا أصاب المسلمون الغنائم يوم حُنينٍ، قسَّمها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- للمُتألَّفين مِن قريشٍ وسائرِ العرب، ولم يضع في الأنصار مِنها شيء، فوجَدَ الحيُّ مِن الخزرج في أنفسهم، حتَّى قال قائلهم: لَقيَ -واللهِ- رسولُ الله قومه. وعوضًا أن يعالج سعد بن عبادة -رضي الله عنه- هذا الأمر، مشى إلى رسولِ اللهِ، وقال له: يا رسول اللهِ.. إنَّ هذا الحيَّ مِن الأنصارِ وجدُوا عليك في أنفسِهم؟ فقال رسول الله: (فيمَ؟). قال: فيما كان مِن قَسمِكَ هذه الغنائم في قومِك وفي سائر العرب، ولَم يكُن فيهم مِن ذلك شيء. فقال رسول اللهِ: (فأين أنت مِن ذلك يا سعد؟). قال: ما أنا إلَّا امرؤ مِن قَومي (23). فاختار سعد الاصطفاف مع قومه تعبيرًا عن الزَّعامة، رغم أنَّ في سؤال الرَّسول عتاب ضمني له؛ إذ أنَّ مثل سعد لا يخفى عليه أدوار السِّياسة، فكان ينبغي عليه أن يُفسِّر ويعذر رسول الله أمام قومه، لا أن يقرَّهم على ما قالوه.
وعندما توفِّي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، اجتمع الحيُّ مِن الأنصار، في سقيفة بني ساعدة، وكان كبار الصَّحابة منشغلين بتغسيله والتَّهيئة لدفنه. وكان سعد بن عبادة في مقدِّمة مَن حضروا ذلك الاجتماع، رغم مرضه. وتطلَّع الأنصار لأن يكون الأمر فيهم، ويذكر بعض المؤرِّخين أنَّ سعد بن عبادة قال لهم، بعد أن حمِدَ الله وأثنى عليه: “يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدِّين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة مِن العرب؛ إنَّ محمَّدًا لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرَّحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به مِن قومه إلَّا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على منعه، ولا على إعزاز دينه، ولا على دفع ضيم، حتَّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدَّ النَّاس على عدوِّه، حتَّى استقامت العرب لأمر الله، وتوفَّاه الله وهو عنكم راضٍ، وبكم قرير عين، استبدُّوا بالأمر دون النَّاس، فإنَّه لكم دون النَّاس” (24).
وعندما بايع عمر أبا بكر بالخلافة وتتابع المهاجرون والأنصار على مبايعته في السقيفة نَزَوا على سعد بن عبادة، فقال قائل مِنهم: قَتَلتُم سعد بن عبادة. فقال عمر: “قَتَلَ اللَّهُ سَعدَ بنَ عُبَادَةَ”(25) ، وهذا الكلام على المجاز، وليس على الحقيقة. فإنَّ القائل ربَّما قصد تجاوز سعد في تطلُّعه للرِّئاسة، وهو ما فهمه عُمر وأشار إلى عدم تسويغه. وفي رواية عن عمر: “فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعدًا، فإنَّه صاحب شرٍّ وفتنة”، أي بجمعه للأنصار دون مشورة مِن المهاجرين. قال ابن الجوزي -رحمه الله: “وقوله: قتل الله سَعدًا، إِنَّما قال هذا لأَن سَعدًا أراد الولَايَة، ومَا كان يصلُح أَن يتَقَدَّم أَبَا بكر”(26) . وقال الخطَّابي: “معنى قوله: قتل الله سَعدًا، أي احسبوه في عداد مَن مات وهلَك، أي لا تَعتَدُّوا بحضوره، لأنَّه أراد أن يكون أميرًا، فخالف”(27) .
ولـمَّا بويع لأبي بكر (رضي الله عنه) بالخلافة، رفض سعد مبايعته، وقال: “لا والله، لا أبايع حتَّى أرميك بما في كنانتي، وأقاتلك بمن تبعني مِن قومي وعشيرتي”. وظلَّ كذلك حتَّى مات أبو بكر. ثمَّ بويع بالخلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فرفض سعد مبايعته أيضًا، وقال لعمر: “قد أفضى إليك هذا الأمر، وكان -والله- صاحبك أحبُّ إلينا مِنك، وقد أصبحتُ كارهًا لجوارك”. فقال له عمر: “إنَّه مَن كره جوار جاره تحوَّل عنه”. فلم يلبث إلَّا قليلًا حتَّى انتقل سعد (رضي الله عنه) إلى الشَّام، فمات بِحوران -رضي الله عنه.
يقول ابن تيمية: “ثمَّ الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلَّا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية”(28) ؛ وكرَّر ابن تيمية هذا المعنى في عدَّة مواطن، إذ يقول: “وتخلَّف سعد قد عُرِف سببه؛ فإنَّه كان يطلب أن يصير أميرًا”(29) ؛ وقال: “فقد يتخلَّف الرَّجل لهوى لا يُعلم، كتخلُّف سعدٍ، فإنَّه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرًا مِن جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقيَّة هوى”(30) . وقال أيضًا: “وأمَّا أبو بكر فتخلَّف عن بيعته سعد، لأنَّهم كانوا قد عيَّنوه للإمارة، فبقِي في نفسه ما يبقَى في نفوس البشر”(31) . هذا مع ثنائه عليه، ومدحه إيَّاه، واعتذاره لهذا الموقف مِنه، وتغليب حسناته، والدِّفاع عن فضائله ومقامه الكريم عند الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، وعند أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين.
لقد كان دافع سعد بن عبادة في تطلُّعه للسلطة هو زعامته في قومه، ومكانته لدى الرسول -عليه الصلاة والسلام، وأصحابه -رضي الله عنهم؛ وطلبًا لشرف الخلافة وما فيها مِن أجر وثواب. كما أنَّ عادة العرب، وعموم الشعوب، تنافس قبائلها وعشائرها على التصدُّر، إذ يسجَّل هذا في مفاخرها ومآثرها. وحيث أنَّ الأوس والخزرج امتداد للقبائل القحطانية اليمانية فإنَّ وصولها للخلافة فتح لتلك القبائل التي لطالما كان لها الملك في جنوب الجزيرة العربية، وامتدادًا إلى شمالها.
6- عبدالله بن الزبير:
وهو ابن الصحابي الزبير بن العوَّام بن خويلد بن أسد بن عبدالعُزَّى بن قُصي. والزبير ابن عمَّة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم، صفية بنت عبدالمطَّلب. أمَّا أمُّه فهي أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق، الخليفة الأوَّل في الإسلام. فهو في محلٍّ مِن الصلة والقربى بالنبيِّ وبأبي بكر، وهذا منحه مكانة في نفوس المسلمين. وفضلًا عن ذلك فإنَّه تمتَّع بصفات قيادية جعلته حاضرًا في الفتوحات والأحداث.
فقد شهد مَقتَل الخليفة عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه، ورأى الفتنة التي وقعت بين المسلمين زمن علي ومعاوية -رضي الله عنهما؛ وشارك مع والده الزبير بن العوَّام، في موقفه مع طلحة وعائشة، رضي الله عنهم أجمعين، فحضر موقعة الجمل. ولمـَّا استتَبَّ الأمر لمعاوية بن أبي سفيان عام 41ه اتَّجه عبدالله بن الزبير إلى ميادين الجهاد، فشارك في فتوحات أفريقيا، كما شارك في حصار القسطنطينية في جيش يزيد بن معاوية.
لقد عاصر عبدالله بن الزبير زمن الخلافة الراشدة، وزمن الفتنة، وزمن الملك في عهد معاوية، ورأى التحوُّلات وخاض عدَّة تجارب مختلفة، وبرزت قدراته ومواهبه؛ فلـمَّا أدرك ابن الزبير بيعة يزيد بن معاوية ثارت ثائرته، هو وعدد مِن الصحابة (وخاصَّة صغار الصحابة عمرًا، كالحسين بن علي وعبدالرحمن بن أبي بكر)، فرأى أن يكون ممَّن يتصدَّى للأمر ورفض بيعة يزيد.
وبعد مقتل الحسين بن علي، واستشهاده على النحو الذي جرى، ووقوع حادة الحرَّة بالمدينة سنة 63ه، ازدادت قناعة عبدالله بن الزبير بضرورة التصدِّي للأمر، فبدأ يضمر الإعداد للخروج على بني أميَّة. فلمَّا توفِّي يزيد سنة 64ه، وتنازل معاوية (الثاني) ابنه عن الحكم بعد أشهر من تقلُّده، ووقع الخلاف بين بني أميَّة على الحكم، أعلن الزبير نفسه خليفة على المسلمين بمكَّة، خاصَّة أنَّ كثيرًا مِن أهل مكَّة والمدينة قد مالوا له.
عقب أخذه للبيعة، واجه عبدالله بن الزبير العديد مِن التحدِّيات، ولم تتمتَّع سلطته بالاستقرار، فقد ناوأته قوى مختلفة، بما في ذلك الأمويُّون الذين اختاروا مروان بن الحكم لزعامتهم، وتمكَّن مروان مِن بسط سلطانه على الشام ومصر، وسعى في ضمِّ العراق والحجاز، لكنَّه مات قبل أن يتمكَّن مِن ذلك؛ واستمرَّ حكم عبدالله بن الزبير حتَّى سنة 73ه.
كانت دوافع عبدالله بن الزبير للسلطة رغبته في إعادة الشورى للمسلمين، ورؤيته لأبيه ضمن الستَّة الذين رشَّحهم عمر بن الخطاب للخلافة بعده، وخروج بعض الصحابة على بني أميَّة، وقناعته بذاته وإيمانه بقدراته وهو الحاضر والمشارك والمقرَّب لأصحاب رسول الله، فضلًا عن أعمال يزيد التي أساءت لبني أميَّة. ولمـَّا دعا لنفسه مال إليه الناس، ولهذا أعلنت معظم الولايات بيعته عندما خرج معاوية (الثاني) عن الخلافة. غير أنَّ أخطاءه وإخفاقاته جعلته يخسر الخلافة بعد أن انعقدت له لقرابة تسع سنوات، حيث حوصر في مكَّة وقتل بها، بعد أن ترجَّحت القوَّة والغلبة للأمويين.
لحق عبدالله بن الزبير بالحسين بن علي، ومات شهيدًا مظلومًا، غير أنَّه لم يلق مِن أنصاره بعد موته ما لقيه الحسين بن علي مِن شيعة والده، إذ استحالت قصَّة خروجه ومقتله مصدر إلهام لهم، نسجوه حولها الأخيلة والدعاوى حتَّى استحالت عقيدة فيما بعد؛ أمَّا ابن الزبير فقد طوي ذكره تمامًا، وأصبح جزءًا مِن الماضي.
أسباب ودوافع التطلُّع:
ذكرنا فيما سبق نماذج للتطلُّعات السياسية لنفر مِن الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين، مِن مختلف البيوت والأعمار، وما نجح مِنها وما أخفق. وهي نماذج معدودة تعكس الطبيعة البشرية في رعيل الجيل الأوَّل، والذي أشرنا إلى ثبوت الأحاديث والروايات في تطلُّعات للإمارة زمن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، والذي عمل على تهذيبها وترشيدها والتحذير مِن مغبَّة الحرص عليها والسعي لها دون وعي.
ونتيجة هذه التطلُّعات، والتي صبغت الفترة المتأخِّرة مِن عهد الخلافة الراشدة بالدماء، كان التنافس عاملًا حاضرًا بين عدد مِن الصحابة -رضي الله عنهم، حتَّى بلغ حدَّ التنازع والصراع كما أشرنا. وهذه التطلُّعات لم تأت مِن فراغ، وهي عدى عن كونها أمر غرائزي موجود لدى البشر ويتفاوت حضوره وظهوره وقوَّته بتفاوت الأشخاص، إلَّا أنَّ هناك عوامل ذاتية وموضوعية وظرفية قادت إلى بروزها. ومِن ذلك وجود النسب الرفيع، والمفاخر المتوارثة، والزعامة المتوفِّرة، والقرب مِن رسول الله، والرغبة في خلافته لنيل شرف المكانة والقيام بواجبات الأمانة، وامتلاك القدرات المؤهِّلة والكفاءة المناسبة، وتطلُّع الناس في بعض الظروف لقائد ملهم، أو حاكم حكيم، أو زعيم جامع.
وهذا التطلُّع الذي وُجِد لدى الصحابة كانت تحكمه قيم الدين والأخلاق والورع والعقل الراشد، وإن دخلت متغيِّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية في مسار الأحداث، ففرضت نوعًا مِن التأوُّلات والاجتهادات وربَّما الأخطاء البشرية التي وقعوا فيها، وذلك لا يوجب إسقاط مكانتهم أو إهدار عدالتهم، لأنَّ الله تعالى أثنى عليهم، وأخبار عن رضاه عنهم، وعن مغفرته لهم، وعن بلوغهم الجنَّة، على ما كان مِنهم.
ومعرفة الأسباب والدوافع في هذا المسار مِن القضايا ينبغي أن ينظر لها في ضوء مختلف العوامل، الذاتية والموضوعية والظرفية، دون إغفال لأيٍّ مِنها، أو تضخيم لبعضها على حساب البعض الآخر. حيث ينبغي أن يكون التعامل معتدلًا ومتَّزنًا ومستندًا إلى براهين وأدلة، ورؤية كلِّية للأحداث وسياقاتها. وهنا ينبغي البعد تمامًا عن التشكيك والطعن في نوايا الصحابة وإراداتهم، بل ينبغي تزكية تلك النوايا وحملها على أحسن المحامل، أو وضعها في أدنى حالات البشر الأسوياء؛ كما ينبغي تزكية عقولهم وأخلاقهم وسلوكهم. فهناك قراءة متعسِّفة لتلك المرحلة، تحاول إسقاط مكانة الصحابة والطعن في أشخاصهم، وإزاحتهم عن محلِّ الاقتداء والتَّأسي بهم، بل وأخذ الدين عنهم.
كما ينبغي أن يتنبَّه إلى أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد أشار إلى بعضهم بتقلُّده الإمارة، في سياق مِن الإخبار والبشرى والتثبيت؛ فقد ثبت أنَّ رسول الله قال لعثمان بن عفَّان: (يا عُثمان.. إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- عسى أن يُلبِسَك قميصًا، فإن أرادَك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتَّى تلقاني) (32)؛ وذكر علي بن أبي طالب أنَّ رسول الله عهد إليه أنَّه لن يموت حتَّى يؤَمَّر، “ثم تخضَّب هذه [يعني لحيته] مِن دم هذه [يعني هامته]”(33) . ومِن ثمَّ فإنَّ تطلُّعهم للخلافة تدعمه نصوص مِن الوحي، بلغتهم مِن صاحب الرسالة مباشرة.
لقد مثَّلت خلافة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- شرفًا وفخرًا لمـَـن ناله، إذ يشير بلوغ المرء لها إلى مدى تمثُّل أخلاق وقيم ومبادئ الرسول فيه، وإلى مدى تزكية مجتمع الصحابة له حدًّا يجعلهم ينصبونه عليهم في مكانة الرسول -عليه الصلاة والسلام- القيادية. كما أنَّ مهمَّة الخلافة مهمة نبيلة الغايات، إذ يقوم فيها الإنسان بنفع الخلق وإيصال الخير لهم، ونصرة الحق، وإقامة العدل، ورعاية المصالح، ومِن ثمَّ ففيها مِن الأجر ما تحرص عليه النفوس الكبيرة التي تشرئبُّ إلى كبار الأمور ومعاليها، وقد قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
لهذا فإنَّ تنافس الصحابة للوصول إلى الخلافة هو مِن التنافس المحمود بهذه النيَّة وهذا المقصد، بل هو دليل على رجاحة عقولهم وسمو مقصدهم. وهم لا بدَّ لهم مِن رأس، ولا بدَّ أن يكون مِنهم، فقيامهم بالأمر متعيَّن عليهم.
وهذا لا يلغي وجود المخاوف مِن التعامل عند التطبيق، فقد خشي الأنصار مِن أن يُنقص في حقوقهم، ودعاهم الرسول للصبر “على أثرة عليهم”، ولذلك عبَّروا عن خوفهم هذا للمهاجرين، في يوم السقيفة، بقولهم: “منَّا أمير ومِنكم أمير”، سعيًا في تقاسم السلطة والثروة دون إجحاف. وقد حرصوا ألَّا يتخلَّى رسول الله عنهم بعد فتح مكَّة، ويعود إلى قومه، فطمأنهم وقال لهم قولته المؤثِّرة: (أتَرضَون أن يذهب النَّاس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنَّبيِّ إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لَكنت امرأ مِن الأنصار، ولو سلك النَّاس وادِيًا وشِعبًا لسَلَكت وادي الأنصار وشِعبها، الأنصار شعار والنَّاس دثار، إنَّكم ستلقون بَعدِي أثرة فاصبِرُوا حتَّى تلقوني على الحوض) (34).
ويمكن القول إنَّ سلوك الصحابة في ضوء تطلُّعاتهم كان مختلفًا، ففي حين صرَّح به البعض للرسول حتَّى سأل الإمارة، أضمره البعض، وفي حين سعى البعض لتحقيقه أعرض البعض عن طلبه، وفي حين نافس فيه البعض قبل البعض بالرجوع عن المنافسة، وفي حين حمل فيه البعض سيفه بلغ البعض مراده وأخفق البعض؛ وحتَّى أولئك الذين بلغوا مرادهم بلو بما عكَّر عليهم طموحهم ومرادهم.
الخاتمة:
إنَّ جيل الصحابة الأوَّل هو جيل المثال الأعلى بكلِّ ما حمله مِن خبرة وتجربة وتاريخ وسيرة، ورغم كلِّ ما وقع، ذلك أنَّ الله تعالى أراد أن يقدِّم لنا النموذج في صورته البشرية لا الملائكية، وصورته الفطرية الإنسانية المؤمنة التي تجتهد الحقَّ والعدل والصلاح فتصيب وتخطئ، وتتنازعها الإرادات فتتأوَّل دون غيٍّ ولا بغي، وتقع في الذنب فتعود إلى التوبة والجادَّة منيبة مستغفرة، فهذا كان دأبهم في حياتهم الخاصَّة والعامَّة، التعبُّدية والسلوكية، والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وهم في جميع أحوالهم مصدر إلهام وعبرة.
وما يميِّز الصحابة عن غيرهم هو هذا النموذج العالي في بشريَّته، والسامي في إنسانيَّته، والمثالي في واقعيَّته، في حين أنَّ غيرهم تدفعه التطلُّعات السياسية للقتل وسفك الدماء وانتهاك الأعراض واستحلال الأموال، وللإجرام في حقِّ مَن يعارضه أو يخاصمه أو يخالفه، دون اعتبار لدين أو خلق أو عقل أو عرف. ناصبًا مِن ذاته أو سلالته أو منطقته أو مظلوميَّته مقصلة للعدل والرحمة والإنسانية ومبرِّرًا لعدوانه وبغيه وظلمه، في حين أنَّ لا كفاءة له للحكم، ولا منفعة له في الولاية، ولا خير فيه للناس لا في دنيا ولا في آخرة، وغاية ما هنالك التسلُّط والتجبُّر والاستكبار.
الهوامش:
- صحيح مسلم، رقم: 2814.
- سنن الترمذي، رقم: 3076؛ وقد صحَّح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الترمذي، والوادعي في الصحيح المسند، رقم: 1408.
- وفيه: (لما خلق الله آدمَ مسح ظهرَه، فسقط مِن ظهرِه كلُّ نَسَمة هو خالقُها مِن ذُرِّيَّتِه إلى يوم القيامة، وجعل بين عَينَي كلِّ إنسان مِنهم وبِيصًا مِن نور، ثمَّ عرضهم على آدم، فقال: أَي رَبِّ.. مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاءِ ذُرِّيَّتُك، فرأى رجلًا مِنهم فأعجبه وَبِيصُ ما بين عينَيه، فقال: أي رَبِّ.. مَن هذا؟ فقال: هذا رجل مِن آخِرِ الأمم مِن ذُرِّيَّتِك، يُقالُ له داوُدُ. فقال: رَبِّ.. كم جَعَلت عُمرَه؟ قال: سِتِّين سنة. قال: أي رَبِّ.. زِدهُ مِن عُمرِي أربعين سنة..)، الحديث. الترمذي، رقم: 3076.
- صحيح البخاري، رقم: 7057.
- البخاري، رقم: 6622؛ ومسلم، رقم: 1652.
- صحيح مسلم، رقم: 1825.
- سنن الترمذي، رقم: 2376.
- انظر صحيح البخاري، رقم: 6806.
- ترتيب الأسماء راعى منحًا موضوعيًّا أكثر مِنه عامل الفضل أو السنِّ أو الترتيب الزمني لولاياتهم.
- صحيح البخاري، رقم: 3910.
- المعجم الكبير، للطبراني، رقم: 13834.
- مقدِّمة ابن خلدون: ص109.
- صحيح البخاري، رقم: 2704.
- صحيح البخاري، رقم: 3701.
- صحيح مسلم، رقم: 2404.
- صحيح البخاري، رقم: 4447.
- انظر أصل القصة في الصحيحين: البخاري، رقم: 4240؛ ومسلم، رقم: 1759.
- كما جاء في نصِّ الحديث عند البخاري، رقم: 7207.
- سنن أبي داود، رقم: 3022.
- مجمع الزوائد، للهيثمي: ج6/166.
- انظر أصل القصة في الصحيحين: البخاري، رقم: 4750؛ ومسلم، رقم: 2770.
- البداية والنهاية، لابن كثير: ج6/545.
- زاد المعاد، لابن القيم: ج3/416؛ والقصة في الصحيحين، دون خبر سعد.
- الكامل في التاريخ، لابن الأثير: ج2/328.
- البخاري، رقم: 6830.
- كشف المشكل: ج8/150.
- غريب الحديث: ج2/128.
- منهاج السنة النبوية: ج1/518.
- منهاج السنة النبوية: ج8/ 331.
- منهاج السنة النبوية: 8/335.
- منهاج السنة النبوية: ج1/536- 537.
- مسند أحمد، رقم: 23427.
- مسند أحمد، رقم: 1040.
- صحيح البخاري، رقم: 4330؛ وصحيح مسلم، رقم: 1061.