شهدت العقود الأخيرة تحوّلًا جذريًا في طبيعة العلاقة بين الذات الفردية والمجال العام، حيث تآكلت الحدود التقليدية بين ما يُفترض أنه “خاص” وما يُتداول في العلن. لم يعد الإفصاح عن التجارب الحميمة والأسرار الشخصية سلوكًا مقتصرًا على المشاهير أو الصحافة والإعلام، بل أصبح ممارسة يومية لدى الملايين عبر منصات التواصل الاجتماعي، مدفوعة بشروط “اقتصاد الانتباه” ورغبة عميقة في الظهور والمشاركة.
يتصدى كتاب “موت الأسرار” للكاتب عبد الله الوهيبي لتحليل هذا التحول الثقافي والسلوكي، مستعرضًا جذوره التاريخية وتطوره التدريجي منذ بدايات القرن العشرين. ينطلق الكتاب من مرحلة ظهور الاعترافات الجنسية في الصحافة الشعبية، مرورًا ببرامج الحوارات التلفزيونية ذات الطابع الاعترافي، وانتهاءً بالانفجار الرقمي الذي أعاد تشكيل معنى السرّ، والفضيحة، والخصوصية في زمن المنصات المفتوحة. ولا يكتفي الكتاب بالسرد التاريخي، بل يسعى إلى تقديم قراءة تحليلية معمّقة في ضوء علم النفس السلوكي والاجتماعي، كما يستحضر مرجعيات فقهية وأخلاقية لمساءلة مفاهيم مثل الستر، الفضح، المجاهرة، والتوبة، في سياق ثقافي يزداد تعقيدًا وتداخلاً بين الدين والإعلام والتكنولوجيا. بهذه المقاربة المتعددة، يقدم “موت الأسرار” مساهمة فريدة لفهم دوافع الهتك الطوعي للذات في زمن الشبكات، ويمنحنا أدوات تأمل نقدي في الثقافة الرقمية وأثرها على بنية القيم والسلوكيات المعاصرة.
كما أنه يسلط الضوء على ظاهرة “التعري الطوعي” التي أصبحت سمة بارزة في مجتمعاتنا المعاصرة. هذه الظاهرة التي تتجلى في استعداد الأفراد للكشف عن تفاصيل حياتهم الشخصية وأسرارهم الخاصة طواعية عبر منصات التواصل الاجتماعي ومن ضمنهم صاحب هذه السطور، فتثير تساؤلات عميقة حول دوافعنا النفسية والاجتماعية، وتأثيرات هذا السلوك على مفهوم الذات والعلاقات الإنسانية.
فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتغلغلها في نسيج حياتنا اليومية، أصبح “التعري الطوعي” ممارسة شائعة يقوم بها الملايين دون تفكير عميق في عواقبها. نشارك صور وجباتنا، رحلاتنا، لحظاتنا العائلية الحميمة، وحتى أفكارنا ومشاعرنا الشخصية مع جمهور غير محدد من المتابعين، متخلين طواعية عن حدود الخصوصية التي كانت تعتبر مقدسة في الماضي القريب. هذا التحول الجذري في سلوكنا الاجتماعي يستحق وقفة تأملية. وهذا المقال ليس مراجعة للكتاب وإنما وقفة تأملية على موضوع تناوله الكتاب ولعل هناك وقفات أخرى نضمنها في مقالات أخرى، فالكتاب من كثافة المواضيع التي تناولها يُصعب أن تحويه مراجعة قيمة، وإن كان ولا بد من ذلك. وهو اجتهاد يشكر عليه المؤلف؛ فلا تكاد تخلو صفحة من الكتاب من دراسة علمية قيمة يستشهد بها أو ينتقدها أو يعلل بها.
المقايضة النفسية: العوامل النفسية وراء التعري الطوعي
يُعاني العديد منّا -وأنا منهم- من التردد الدائم بين نشر الحياة اليومية على حساباتنا في مواقع التواصل الاجتماعي والإحجام عنه؛ لكي نبقى مرئيين وليتعرف من حولنا عن طبيعة التجارب الرائعة التي نريد أن نُريها للآخرين، وقد يمتد الأمر أن نشارك تفاصيل غرف النوم والمنزل وحتى صورنا ونحن على شاطئ البحر أو المسبح وربما لو عدنا لعشرين عاماً للوراء كنا لنخجل من صورنا ونحن على الشاطئ إذا رآها صاحب “الاستديو” الذي نُحمِّض (نطبع) عنده الصور من الكاميرات القديمة.
هذا النوع الذي نذكره أعلاه هو التعري الطوعي والذي يُعرف بأنه “المقايضة النفسية المستمرة بين حاجة الفرد لأن يكون مرئيًا والوعي بأهمية الخصوصية”(1). هذه المقايضة تكشف عن صراع داخلي يعيشه الإنسان المعاصر بين رغبتين متناقضتين: الرغبة في الاحتفاظ بخصوصيته من جهة، والرغبة في الظهور والاعتراف من جهة أخرى. وقد أصبح هذا الصراع أكثر حدة وتعقيدًا. فالفضاء الرقمي يقدم لنا إغراءات لا تقاوم للكشف عن الذات، مقابل وعود بالاعتراف والقبول الاجتماعي. وهنا تكمن المفارقة: كلما زاد استعداد الفرد للتخلي عن خصوصيته، زادت فرصه في الحصول على الاعتراف من قبل الآخرين في العالم الافتراضي. وهو ما يشير إليه المعالج النفسي والمنظّر الثقافي أرنت بايلك الذي “يقرّ أن الدافع الأساسي للتواصل عمومًا هو الرغبة في الاعتراف والقبول الاجتماعي… ومن ثم فإن تداول الاعتراف كسلعة عبر الشبكات الاجتماعية هو العامل الجاذب الذي يغري ملايين المستخدمين للمشاركة فيها(2).
يستند الكتاب إلى دراسات علمية حديثة تكشف عن العوامل النفسية وراء ظاهرة التعري الطوعي. فقد “وجدت دراسة حديثة أن الأفراد الذين كانوا أكثر وحدة، والذين سجلوا معدلات متدنية في احترام الذات؛ هم أكثر عرضة من غيرهم لنشر تجاربهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.”(3)
وهنا يضع الكتاب تحليلاً هاماً؛ حيث يكشف عن تحول جوهري في طبيعة التواصل الإنساني. فبدلاً من أن يكون الاعتراف نتيجة طبيعية للتواصل، أصبح هدفًا في حد ذاته، كسلعة تُباع وتُشترى في سوق التواصل الاجتماعي. وفي هذا السوق، تصبح التفاصيل الشخصية والأسرار الخاصة هي العملة الرائجة التي يدفعها الأفراد مقابل الحصول على الاعتراف والقبول. وحتى الحميميات الخاصة لا تسلم من مطاردة الاعتراف؛ لأن الباعث على الكشف عن الرومانسيات الزوجية هو الرغبة بتأكيد الحميمية ومصادقة الجمهور عليها، وهذا الكشف لا يرتبط دومًا بالاستعراض أو الاستعراء أو التباهي، بل كثيرًا ما يعكس رغبة ملحة في الاعتراف بالمشاعر وتثبيت قيمتها الرمزية أمام الآخرين، حتى لو كان ذلك على حساب الخصوصية أو مواجهة الرفض.
هذا التحول من الغاية إلى الوسيلة يمثل انقلابًا في منظومة القيم التي تحكم التواصل الإنساني. فالمشاركة والتواصل، التي كانت في الأصل غايات إنسانية نبيلة، أصبحت مجرد وسائل لتحقيق غايات أخرى، مثل الشهرة والاعتراف والقبول الاجتماعي. وفي سبيل تحقيق هذه الغايات، أصبح الأفراد على استعداد للتضحية بخصوصيتهم وكرامتهم، بل وأحيانًا بسلامتهم النفسية والجسدية. فلا تعود المشاركة والتواصل والإفصاح هدفًا بذاتها، ولذا لا نستغرب استعداد الكثير لدفع المال وتعريض النفس للإحراج والإهانات مقابل الظفر بالحضور والاعتراف.
كما أن هذه التحولات لا يمكن فصلها عن الانفعالات الجماهيرية التي تُحيط بالفعل البوحي، فكما يرى الفيلسوف آرون بن زئيف، فإن التعبير الرقمي عن العاطفة قد يُنتج أثرًا نفسيًّا لا يقل عن نظيره الواقعي، بل قد يتجاوزه أحيانًا في شدته.(4) وفي المقابل، فإن غياب التفاعل أو انخفاض مؤشرات الإعجاب بالمحتوى يترك أثرًا سلبيًّا على صاحبه، ويقود إلى مشاعر الإحباط وفقدان الثقة بالنفس، كما أظهرت دراسة حديثة (Hu & Li, 2023) تشير إلى أن أكثر من 80% من المشاركين أصيبوا بخيبة أمل عند غياب التفاعل المرجو.(5)
لقد غدا الإفصاح عن التفاصيل الشخصية والعواطف الحميمية فعلًا يوميًّا يتوسل من خلاله الأفراد الاعتراف المجتمعي والقبول الرمزي. وكأن لسان حال المستخدمين يقول: “لا تزال الفرصة متاحة لتصبح أكثر شهرة، ولا يزال هناك مجال لتلقي المديح والإشادات”. ووفقًا لتحليل شوشانا زوبوف ، فإننا نعيش ضمن منطق “رأسمالية المراقبة”(6)، حيث يُعاد تشكيل السلوك البشري بما يخدم اقتصاد الانتباه، ويُصبح البوح الذاتي جزءًا من سلعة تُعرض على منصات المشاركة.(7)
التعري الطوعي كظاهرة ثقافية: من الفردي إلى الجماعي
لا يقتصر التعري الطوعي على كونه سلوكًا فرديًا، بل هو ظاهرة ثقافية تعكس تحولات عميقة في المجتمعات المعاصرة. فالثقافة الاستهلاكية التي تشجع على العرض والاستعراض، والثقافة الإعلامية التي تمجد الشهرة والظهور، والثقافة التكنولوجية التي تسهل الكشف عن الذات وتكافئه، كلها عوامل تساهم في تعزيز ظاهرة التعري الطوعي.
في هذا السياق، يمكن فهم التعري الطوعي كاستجابة فردية لضغوط ثقافية واجتماعية. فالأفراد لا يكشفون عن ذواتهم في فراغ، بل في سياق ثقافي يشجع على هذا الكشف ويكافئه، ويعاقب في المقابل من يختار الانسحاب والاحتفاظ بخصوصيته. لكن المثير في هذا السياق هو انزياح منطق المصادقة من الأطر التقليدية -الأسرة، الجيران، مؤسسات الانتماء الأولي- إلى فضاء رقمي تتوزع فيه السلطة الرمزية على جمهور غامض. فقد بيّنت ويندي كامينر (8)في دراستها حول برامج الاعترافات الأميركية أن كثيرًا من المشاركين في تلك البرامج كانوا مدفوعين برغبة في إثبات الذات أمام العموم، لا بهدف الاستعراض فحسب، بل لأن المراقبة المجتمعية باتت شرطًا للوجود.(9)
وهنا، تتبدى المفارقة في السياق العربي: فبينما كانت ثقافة “الستر” والميل إلى كتمان الخصوصيات السائدة في المجتمعات العربية تُعَدّ من القيم المؤسِّسة، بدأت هذه المنظومة تتعرض لتآكل تدريجي. لقد ساهمت المنصات الرقمية في خلق بيئة تحفيزية للبَوح العام، وتراجعت فاعلية المؤسسات التقليدية في تنظيم ما ينبغي كتمانه أو إظهاره. إلا أن الفرق الجوهري يكمن في أن التحوّل في المجتمعات الغربية كان نتيجة لمسار تحرري تاريخي طويل، في حين أن التحول العربي أتى مفاجئًا، غير متفاوض عليه، متأثرًا بمنطق السوق العالمي لا بمنظومات ثقافية داخلية ناضجة.
وعلى هذا، فإن البوح الرقمي في السياق العربي لا يعكس دائمًا نضجًا في التعبير عن الذات، بل كثيرًا ما يكون استجابة لحوافز استهلاكية ورغبة في المحاكاة الثقافية، دون أرضية معرفية أو قيمية تؤطر هذا التحوّل. وتُظهر مقاربات سيرج تيسيرون(10) كيف أن البوح الرقمي لا يمكن فصله عن منطق العرض الاستهلاكي، حيث يغدو الإنسان ذاته سلعة معروضة، تنتظر التفاعل، التصفيق، أو حتى الرفض.
إن هذا السياق يضعنا أمام أسئلة نقدية جوهرية: هل نحن أمام تعبير حقيقي عن الذات أم أمام أداء استعراضي مشروط بلعبة المنصة؟ وهل يمثل البوح الرقمي تحريرًا من الكبت، أم خضوعًا جديدًا لنظام أكثر قسوة من الرقابة الرمزية؟ الأرجح أننا إزاء وضع معقد يتداخل فيه ما هو نفسي بما هو تقني، وما هو اجتماعي بما هو اقتصادي، وما هو فردي بما هو جماعي. وتلك هي التحديات التي سعى الكتاب إلى تفكيكها.
الهوامش:
- Marc Ziegele and Oliver Quiring, “Privacy in Social Network Sites and the Willingness to Self-Disclose: A Comparison between Germany and the USA,” New Media & Society 13, no. 3 (2011): 331–348.
- Aaron Balick, The Psychodynamics of Social Networking: Connected-up Instantaneous Culture and the Self (London: Routledge, 2014), 22.
- عبدالله الوهيبي، موت الأسرار (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2025) صـ275.
- Ben-Ze’ev, Aaron. Love Online: Emotions on the Internet. Cambridge University Press, 2004
- الوهيبي، ص286.
- Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power. New York: PublicAffairs, 2019.
- المرجع نفسه، صـ277.
- Wendy Kaminer, I’m Dysfunctional, You’re Dysfunctional: The Recovery Movement and Other Self-Help Fashions. Reading, MA: Addison-Wesley, 1992.
- المكان نفسه.
- Serge Tisseron, Qui a peur des jeux vidéo ? (Paris: Albin Michel, 2009).