- ولادة النور
نقطة البداية بعد رحلةٍ من التَّأمل الرُّوحي والعقلي كانت بعد التوجيه الإلهي “اقرأ”، والقراءة لا تكون في مكانٍ مظلم، والانبعاث يحتاج إلى فضاءٍ واسع، اقتضت البعثة النَّبوية الخروج من مكانٍ محصور وكهف صغير إلى رحابٍ واسع وعالم مختلف، الدور اختلف, والوظيفة تغيرت, والمهمة اتضحت, والرِّسالة بدأت تتنزَّلُ وعلى الرَّسول البلاغ، والبلاغ وهذا الانبعاث كان لابدَّ أن يشقَّ طريقه في النُّور فولد النور وكانت البعثة وحضرتِ الرِّسالة .
- دعائم بناء الإنسان والمجتمع
أولى المطالب النَّبوية للنَّاس: توحيد الخالق ونبذ الشِّرك والطريقة تبدأ من قول “لا” لأيّ معبود غير الله ولا سلطان لغيره على هذا الكون ولا سنن وقوانين حاكمة غير تلك التي سنَّها الله، وأهمها “الحرية “.
النَّاس سواسية والامتهان والاستعباد ينبغي أن يتوقف، لا امتيازات خاصة لفريق من النَّاس ولا دونية على فريق آخر، الرِّسالة الجديدة ضد الظلم, والقهر, والجبروت, والاستغلال، العدل يجب أن يسود، والقيود والأغلال التي كانت حان وقت تحطمها. النَّاس أحرار, هكذا ولدوا, ولابد أن يبقوا أحرارًا حتى الأبد.
أمة جديدة تتحضر لاستلام الدور الحضاري بعد دورة زمنية هيأت المشهد, وأفرغت السَّاحة لهذا القادم بما يحمل من قيمٍ جديدة؛ تؤهله للقيادة وأن يكون على رأس النِّظام الجديد .
- عهد النبوة
في العهد النَّبوي وظائف مختلفة عن تلكَ الوظائف المناطة بالدولة، الرَّسول الكريم محمَّد عليه الصلاة والسَّلام جاء بشيرًا ونذيرًا، معه رسالة هدى, وكتاب مبين, يبلغ تعاليمه ويبثُّ ما فيه من هداية، يضعُ حجر الأساس للمعمار الحضاري بداية من الإنسان وما يحتاجه من مقوماتٍ روحية وعقلية، مرورًا بالمجتمع وما يلزمه من قيم تجعله متفاعلًا حيًا وعلى رأسها قيم التَّعايش والتَّصالح والاحترام المتبادل وحفظ الحقوق المشتركة .
- القوة بين عهدين
احتاجت القِيَم الجديدة لبيئةٍ مهيَّأة ومجتمع يتعاطى معها ويتفاعل مع توجيهاتها، كان لابدَّ لهذا المجتمع من أرضٍ لا يُنازَع عليها ولا يضطهد فيها, ولا يفرض عليه ما يكبل طاقته ويحد من إمكاناته، بحث المجتمع الأول عن هذه البقعة من الأرضِ في الحبشة فكانت الهجرة الأولى إليه، ثمَّ تفقَّد القائد أرضًا جديدة في الطائف فلم تكن هي الأنسب، هذه المرحلة هي للتَّأسيس وبناء العناصر الصلبة, وترسيخ العقيدة وبناء الإيمان، لا مكان فيها للقوة بل “كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة”، الدَّعوات الجديدة هي بطبيعة الحال تقسم النَّاس وتشقُّ المجتمع، والأفكار المصاحبة لها لا تزيد هذا الانقسام اتساعًا بإراقة الدماء، بل بوسائل لينة تخاطبُ العقل والوجدان حتى تكسب أكثر وتبقى أطول .
- انبعاث أمة
وجدت الأرض واستعدَّ الأنصار، اكتملت العناصر وتوفرت المقومات، الضلع الثَّالث في مثلثِ البناء المدني الجديد كان بإشهار الوثيقة “وثيقة المدينة”, وحدة وتلاحم، حقوق مشتركة, ودفاع عنها مشترك، تعايش بين كل المكونات الإثنية والدينية، تلاه التَّوجيه السَّديد ببناء السوق، بدأت الملامح تظهر بوضوح .
المنهج يتنزل تباعًا والمجتمع يتعاطى مع التوجيهات ويتفاعل مع النصوص، ونبي الرحمة يوجه وينظم المجتمع بواقعية وحكمة. تتحول القيم إلى سلوك ويجتهد الرَّسول الأكرم في تذويب الحواجز والعصبيات الأسرية والقبلية، الإسلام أكبر من القبيلة وفوق الاعتبارات العنصرية والانتماءات الأسرية والمناطقية، يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- لغة القوة مجددًا
من العدل ألا يُترك الحق ولا يُسمح له أن يضيع، وآن للمظلومين أن يستردوا حقوقهم المسلوبة، خرج أصحاب الحق ليعيدوا جزءا منه، فقد أُذنَ لهم بذلك، لم تنجح المحاولة واستحال الأمر إلى مواجهة كانَ المسلمون في موضعِ الدِّفاع عن أنفسهم, وإبطال باطل الظلمة، وأن الحقَّ صار له رجال ولديه قوة، وقادر على الردع. قوة الرَّدع هذه كانت في موعدٍ جديد مع مواجهة جديدة تسعى من خلالها لحماية مدينتها ومشروعها الوليد. خرجت هذه القوة مرة ثالثة لتدافع عن أرضها بعد تحزب الأعداء عليها، تغيرت المعادلة بعد توازن الرعب وصار بالإمكان إسكات الطُّغيان ومهاجمته وكف عدوانه، الجبهة الدَّاخلية عانت تمردًا وغدرًا وإخلالًا بالمواثيق ونكثًا للعهود، فكانت القوة حاضرة وجاهزة للتأديب وتنظيف الدَّاخل وتنقيته وإزالة عناصر الخيانة وإبعادها .
- مركز الشر
لازال التَّهديد الخارجي قائمًا ومركزه هناك في مكة حيث الطُّغيان القرشي، ولا استقرار في المنطقة واستكمال المشروع ومعاودة الانبعاث الحضاري لأداء الدور الرِّسالي إلا باحتواء المركز والسيطرة عليه؛ فكان الفتح. ثمَّ تطويق ما تبقى من مكامن ينبعث منها الخطر ليقضى عليه ويتم التأمين الكامل.
هكذا تم توجيه القوة في تلك المسارات :
ـ رد العدوان ودفعه واسترداد الحقوق المسلوبة من يد الظالم المستبد
ـ الدفاع عن الأرض والإنسان
ـ تأديب الخونة وأهل الغدر بغض النظر عن دينهم
ـ إزاحة سلطة القهر والطغيان المهددة للسَّلام والمستعبدة للنَّاس.
- إلى الرَّفيق الأعلى
اكتمل الدِّين باكتمال قواعده وأركانه وأساسياته وقيمه العليا، أدى النَّبي الكريم صلى الله عليه وسلَّم مهمته, وبلغ عن ربه رسالته, وكان أول المجتهدين في ترجمة التَّعاليم السَّماوية وتنظيم حياة مجتمعه، ووضع بذلك المداميك الأساسية في الصَّرح الحضاري الإسلامي، ليتولى أصحابه من بعده استكمال عملية البناء والأداء الرسالي, وكانت أول مهمة لهم بعد انتقال نبيهم الكريم إلى الرفيق الأعلى اختيار رئيس لدولتهم النَّاشئة.
- استحقاقات الدولة
أن تُقام دولة وتؤسَّس على أسسٍ متينة ولها رسالة وتستشعر مسئولياتها تجاه المظلومين وتكون سندًا للمضطهدين، فهذا يعني أن يظهر لها خصوم وأن ينشأ لها أعداء وأن يتربص بها متربصون، وربما يستغل البعض (من الداخل) ضعفها وارتباكها في بداية تأسيسها ليتمرَّدَ عليها ويتنصل من الالتزامات تجاهها، وهو ما تمَّ حين امتنعت بعض القبائل عن الإيفاء بشعيرة الزكاة إحدى أهم الإيرادات المالية للدولة يومها وحق من حقوق مستحقيها من مواطني الدولة، وخرجت تلك المجاميع في تظاهرة مسلحة تستبطن العصيان وتتمرد على السلطة وتحاول تقويضها ، الأمر الذي لم يتساهل معه أبو بكر إطلاقا ولا يمكن أن يسمح لرعايا الدولة أن يكونوا ندا لها أو مهددًا لاستقرارها، وأخذت الردة طابعًا عسكريًا وتمردًا مسلحًا لم تملك الدولة حيال ذلك إلا المواجهة ولا خيار غير القضاء المبرم على كل تلك التهديدات من حولها .
- الدور الرسالي وجدلية الحرب والسلم
عادة ما تكون للدولة مركزًا يكون بطبيعة الحال مسقط رأسها أو الأرض التي تأسست عليها وانطلقت منها خارج حدودها، ويكون للدولة أطراف عادة ما تكون ساخنة بحكم جوارها لدولة معادية أو متربصة، كانت تسمى قديمًا بالثغور، ولحماية المركز وتقويته تعزز الدولة من تواجدها على الأطراف وتسمح لنفسها بالتدخل في أطراف الدولة المجاورة إذا ما شعرت بتهديد أو لحقها الضرر جراء استهداف أراضيها من الخصوم داخل حدود تلك الدولة .
انبعاث الأمة الإسلامية من المدينة المنورة وقيام دولة لها تزامن مع احتضار دولة فارس وأفول حضارتها، وكانت مسيطرة على أراض عربية ولها سلطة على قبائل مجاورة لحدودها، وقامت بأدوار سلبية واستكبرت أمام دعوة الرسالة الجديدة، فتحركت الدولة المسلمة وقضت على التهديد المتواجد على أطرافها وحررت النَّاس من ظلم وطغيان وعنصرية النظام الجائر في فارس فكانت الوارث لسلطانها وأرضها والبديل الحضاري عنها .
على ذات المنوال ولتلك المبررات تحركت الدولة المسلمة شمالًا باتجاه أطرافها على حدود الشام، لتنتزع من الروم كل الأراضي العربية التي كانت تاريخيا للعرب الكنعانيين وتقضي على التهديد الرومي المتربص والمراقب عن كثب لتحركات المسلمين وصعودهم المطرد وتنامي قوتهم وسرعة اندفاعهم وعزمهم على مجابهة كل سلطة تقهر الناس وتسلبهم إرادتهم وحريتهم وحقوقهم المختلفة . وقد كانت المواجهات قد بدأت على العهد النبوي لاعتبارات من هذا النوع .
شمل الدور الرسالي ومعارك حماية مركز الدولة وأطرافها والتخلص من التهديد القادم من خارج حدودها (مصر) وإزاحة نظام الطبقيات والإقطاعيات والقهر الذي شمل الأقباط الأرثوذكس على يد الرومان الكاثوليك.
- يم الرُّشد وسلوك الامبراطوريات
تجسَّدت في دولة العهد الراشدي قيم الإسلام السياسية من الشورى والاختيار الحر والنزاهة والشفافية والعدالة والمساواة وكان الفاتحون حملة رسالة وأدوات هداية ورسل سلام وعلى أيديهم تحقق الأمان، كما أنهم قاموا بما تتطلبه الدولة من مهام ووظائف تفرضها نظم الإدارة ومنطق السياسة .
تزامن تراجع القيم السِّياسية الإسلامية مع توسع الدولة الإسلامية وتأثرها بنظم الامبراطوريات المعاصرة في نظم السياسة والإدارة، وكان للثقافة الفارسية ونظمها السِّياسية النَّصيب الأكبر من التأثير على حكامِ المسلمين وملوكهم .
فقد صار نظام الحكم وراثيًا, وفقدت الأمة حقها في اختيار حكامها، وعادت القيم السِّياسية الإسلامية أجنة مكانها بطون الكتب ونصوصًا معزولة عن الحياة السياسية ولم يسمح لها بالنمو والتطور والتحديث المستمر .
كان للتوسع ضريبته واستحقاقاته واحتياجاته في ظل الإمبراطورية الإسلامية وسيادتها وتفوقها العالمي، وكل دولة أو إمبراطورية تفكر بطبيعة الحال بتحقيق الأمن الغذائي وتلبية احتياجات رعاياها وزيادة مواردها وتأمين طرق التجارة القادمة إليها أو المنطلقة عبرها نحو الأسواق العالمية، كما تحتاج للزيادة المطردة في أعداد جيوشها وتوفير الميزانية الخاصة بها والعمل على تنمية قدراتها العسكرية .
وقد ترتكب في سبيل ذلك المخالفات وتقع في التجاوزات وبعض الظلم وربما ازدادت المظالم، وأرهق النَّاس بدفع فاتورة التوسع الإمبراطوري وتبعاته .
- للدولة خصوصيات
للدولة سلطة على النَّاس قاهرة وقوانينها نافذة وقد تضطر لاستخدام القوة لفرض هيبتها ونظامها، تلك من خصائص الدولة بطبيعة الحال، بعكس النُّبوة والتَّذكير النَّبوي للناس القائم على حرية الاختيار ومنع الإكراه “أفأنت تكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين”, “لستَ عليهم بمسيطر”.
وربما ارتكبت الدولة جورًا في حق فرد لحماية قيم معينة وتعزيزها، وقد رأينا كيف أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يمضي إلى رأس ماله ويجعل باقيه في بيت مال المسلمين ، لأنه رأى إبلًا له سمان فقال لعل النَّاس يقولون “ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وأراد عمر بذلك سد منافذ استغلال الأقارب لمنصب الرئيس في تحقيق مآربهم الشخصية, بالرغم أن ابنه عبد الله لم يفعل.
هكذا تقيد الدولة مواطنيها فبعض قوانينها مكبلة حرصًا على النِّظام العام والمصلحة الجماعية والاستقرار التام .
- انبعاث جديد داخل الجسد
ما أن تتراجع قوة الدولة وتترهل وتخسر بعض أراضيها على الأطراف وتظهر الأطماع الشخصية وتتطور إلى انفصال دويلات عن المركز ، حتى تتوفر عوامل جديدة ومؤهلات لأمة ما ، تنبعث مجددًا تعيد بعض الأمجاد وتسترد ما سلب من أراض وتحرر ما احتله أعداء الأمة المعتدين من الحواضر والمقدسات الإسلامية، وتقضي بالقوة على الفرقة والتنازع والانفصال وتعيد ترتيب البيت الداخلي وتطهره من الخيانات .
وتعود ذات المبررات في استخدام القوة :
ـ دفع العدوان وطرد المحتل
ـ استعادة الحقوق المسلوبة
ـ تحرير الأرض والإنسان
ـ نصرة المظلوم وإزاحة الطغيان
وهي أهداف مشروعة وكلها في سبيل الله، ولذلك كان الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة .
- الختام
بالتفريق بين وسائل الدعوة ونشر الهداية وتبليغ الرسالة ودور الأنبياء، وبين متطلبات الدولة واحتياجاتها وقوانينها، نستطيع أن نحاكم كل فترة إلى خصائصها ووظائفها وطبيعة مهامها، فنميز بين ما هو سياسي محكوم بمنطق السِّياسة وألاعيبها، وبين ما هو مثالي محكوم بالقيم والمثل العليا، ونستطيع أن نفهم ونتفهم السلوك والمواقف التاريخية وننجح في توصيفها وندرك كيف نتعامل مع كل مرحلة بما تحتاجه من وظائف إذا استوعبنا الخصائص الموضوعية لكل من الدولة والجماعة .
وإذا أدركنا طبيعة الصِّراع وعلاقته بقيام الدول ونشوء الحضارات واستحقاقات ذلك الأمنية والاقتصادية والسياسية أرحنا أنفسنا من الجدل حول فكرة الدفع والطلب وقدمنا ما تمليه ظروف الواقع وما تتطلبه طبيعة المرحلة .