أفرزتْ ما بات يُعرف بـأحداث وثورات “الربيع العربي” التي شهدتها بعض الدول العربية، تحولات كبيرة في نسيجها الاجتماعي والسياسي، إذ رُفعت الشعارات المدنيَّة المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، وعلت الأصوات المنادية بالقطع مع الأنظمة السياسية السابقة؛ ويعود السبب أن هذه الأنظمة قد كرَّست الاستبداد والتبعية والتهميش الاجتماعي طيلة عقود من الزمن.
ورغم اتفاق غالبية الأصوات من مختلف الأيديولوجيات والأحزاب السياسية على ضرورة التغيير، إلا أنها اختلفت حول الأنموذج الأمثل للدولة. هذا الخلاف لا يلغي القول بوجود شبة إجماع على أن تجسيد نموذج الدولة المدنية في واقع الحياة، وأنها النموذج الأفضل لاستيعاب مختلف شرائح المجتمع السياسية والاجتماعية.
مصطلح (الدولة المدنيَّة) لا يوجد في الكتب الأمهات في العلوم السياسية شرقاً وغرباً، إلا في حالات محدودة، وبمعانٍ مختلفة عن بعضها. ورغم عدم وجوده، وُجدت معانٍ قريبة نوعاً ما. فمكيافيللي يذكر “الإمارة المدنية”، ويقصد بها: حين يصبح فيها المواطن أميراً، بناء على رغبة أقرانه من المواطنين، وليس بالجريمة، أو العنف الذي لا يُحتمل. وتوماس هوبر تحدث عن “القوانين المدنية”، ويقصد بها: القوانين التي يكون الناس حيالها مُلزمين باحترامها. وتحدَّث عن “السلطة المدنية”، وقصد بها: السلطة خارج سلطة الكنيسة.
ويذكر جون لوك مصطلح “الحكم المدني”، ويقصد به: النقيض للحكم الديني، حيث يرى أهمية التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. ويذكر أيضاً “الحكومة المدنية” كنقيض للحكم المطلق. ومونتسكيو يتحدث عن “الحكومة المدنية”، كنقيض للحكومة المستبدة. كما أنه لا يختلف عن لوك في التمييز بين المدني والديني. أما جان جاك روسو فقد ذكر “الحالة المدنية“، وهي مرحلة تضبط سلوك الإنسان وفقاً للعدالة عِوض الغريزة، ويذكر ماكس فيبر “السلطة المدنية” كنقيض للسلطة الدينية.
وبناءً على ما سبق، ورغم ارتباط هذه المعاني – نوعاً ما – بمفهوم الدولة المدنية، إلا أن ذلك لا يعني حضور هذا المفهوم في الأدبيات السياسية كمصطلح، غير أن قيَمَه وأُسسَه صِيغت عبر مراحل تاريخية مختلفة. وأبرز هذه القيم: مدنيّة الحكم، الشرعية السياسية القائمة على العقد الاجتماعي، الديمقراطية وحرية الاختيار، السيادة للشعب، احترام حقوق الإنسان، والمواطنة المتساوية، سيادة القانون، والفصل بين السلطات.
الحكم المدني “يقصد به: النقيض للحكم الديني {جون لوك}
الدولة المدنية في التصور الإسلامي
هذه القيم لها حضور في التصور السياسي الإسلامي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسس دولته بناء على عقد اجتماعي من خلال عقد بيعة العقبة الأولى والثانية، فقد مثّل ذلك عقداً تأسيساً لتلك (الدولة المستقبلية) فكان عقداً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً، إضافة إلى العقد المعروف بـ (الصحيفة) فهو عقد اجتماعي وسياسي، بحسب الجابري، وقد مثل هذا العقد القانون والدستور الأعلى في تلك الدولة. كما أقر مبدأ المساواة واحترام حقوق الإنسان بغض النظر عن الانتماءات الدينية والقبلية لساكني دولة المدينة.
إضافة إلى ذلك، فقد كان الحكم فيها مدنياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قاد الدولة وكان رئيساً لها بصفته البشرية لا الدينية، فلم تشترط الصحيفة أو دستور دولة المدينة دخول اليهود في الإسلام حتى يكونوا أعضاء في الجماعة السياسية. كما أن تغيير اسم يثرب إلى المدينة فيه دلالة واضحة على أن الإسلام ليس ديناً فقط، وإنما يحمل معنى حضارياً ومدنياً. والمدنية من طبائع الإنسان، وفقاً لتقرير ابن خلدون.
وعند تتبع رواد الفكر السياسي الإسلامي، يمكن ملاحظة اهتمامهم بهذا المفهوم والقيم التي يحملها، على سبيل المثال: الفارابي، ابن أبي الربيع، ابن خلدون، رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، محمد عبده، السنهوري.
هذا الحضور المدني في الفكر والممارسة السياسية الإسلامية ينسف مرافعة قاسم أمين في (المرأة الجديدة) أن التمدن مرتبط بالنموذج الغربي. فـ (المدنية) في الغرب اُعتبرت مصدراً لقيم التهذيب والنظام والسوق والإنتاج والعلاقات الاجتماعية والسياسية، أي أن هذه القيم لم تكن سائدة في العصور السابقة، ولم تظهر إلا مع التطور الأخير للمدنية، كما حدث في بداية الثورة الصناعية. بخلاف المدنية في الخبرة الإسلامية، فهي نتيجة لوجود هذه القيم والأنماط والسلوكيات وليست سبباً لها، فالقيم المدنية التي سادت في العصر الإسلامي لم تكن وليدة حياة سكان أهل المدن، بل هي ناتجة عن التصور الإسلامي للحياة ومن ثم كانت المدنية إحدى صور تشكل حياة المسلمين الذين استنبطوا وتمثلوا هذه القيم الراقية.
من خلال ما سبق، يمكن القول: إن الدولة المدنية هي: دولة العقد الاجتماعي، تستند في مرجعيتها إلى الشعب، تقوم على الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. فإذا كانت الدولة الحديثة التي انبثقت بعد (صلح وستفاليا) قد تميزت عن سابقاتها بمعيارين: الشخصية القانونية المعنوية، والسيادة. وعليه، فليس بالضرورة أن كل دولة حديثة هي دولة مدنية، فالدولة الحديثة تُطلق على كل الدول التي تخضع لأحكام القانون الدولي العام، سواء كانت مدنية أو دينية أو عسكرية أو طائفية… إلخ. وبالتالي فكل دولة مدنية هي بالضرورة دولة حديثة وليس العكس.
الدولة المدنية والدولة الإسلامية
كما ينبغي التفريق بين الدولة المدنية والدولة الإسلامية، حيث تعتمد الأخيرة على المرجعية الإسلامية، وبالتالي فإن الحديث عن مرجعية إسلامية مسبقة، يعني وضع شرعية أخرى إلى جانب الشرعية الديمقراطية المتمثلة في إرادة الناخبين، بخلاف الدولة المدنية التي لا تستمد شرعيتها من مرجعية ماورائية أو اجتماعية أو دينية محددة مسبقاً، بل من السلطة المتمثلة في سيادة الشعب، الذي يحق له تحديد هويته بنفسه، دون إملاءات مسبقة، أو فرض أيديولوجيات معينة عليه. فهوية الدولة الإسلامية (سابقة)، بينما هوية الدولة المدنية (لاحقة). وعليه، تعتمد الدولة المدنية على (المرجعية الوطنية) النابعة من الشعب، بخلاف الدولة الإسلامية التي تعتمد على (المرجعية الإسلامية) المفروضة على الشعب؛ لأن الحديث هنا عن الشعب السياسي أو الأمة السياسية، لا الأمة العقدية والدينية. والحال نفسه في الدولة العلمانية، فهي تتفق مع الدولة الإسلامية من حيث المبدأ، وذلك بفرض هوية مسبقة. ففي الوقت التي تفرض الدولة الإسلامية (الهوية الإسلامية)، تفرض الدولة العلمانية (اللا هوية، أو الهوية العلمانية)، بخلاف الدولة المدنية التي تُنتج هويتها من قبل مواطنيها.
ويمكن في حالة معينة، أن تكون الدولة (الإسلامية) دولة مدنية، في حال جاءت مرجعيتها وقوانينها وتشريعاتها من قبل أفراد الشعب، فأصبحوا خاضعين لقانون هم أنفسهم اختاروه وقبلوا به بمحض إرادتهم. وبالتالي فإن شرعية الدولة في هذا السياق من المجتمع أو الجماعة السياسية، وعليه، فالحكم هنا مدني وإن كان طابعه دينياً؛ لأنه جاء من المجتمع ولم يُفرض عليه.
فإذا كان الفكر الغربي قد انتج دولته بتلك القيم، وقدَّم تصوراً للدولة المدنية يعكس حاجاته وتطوراته، فجاءت دولته تحت مسمى (دولة القانون)، نظراً لحاجتهم لفرض القانون في ظل وضع كان الحكم يقوم على قداسة البابا والكنيسة. فللمسلمين الحق أن يعملوا على تأسيس نظرية سياسية لدولة مدنية تقوم على تلك القيم، تراعي ظروف نشأتها وبيئتها ومجال تطبيقها. خصوصاً أن مصطلح الدولة المدنية عربي وإسلامي النشأة والانتشار، خصوصاً بعد أحداث ثورات الربيع العربي.
وتكمن أهمية الدولة المدنية أن المجتمعات اليوم تعيش في ظل جماعات سياسية تجمعها الروابط الوطنية لا الدينية، فلا يمكن جعل الإسلام أساس لرابطة دينية اعتقادية تجمع بين المسلم والمسيحي والبوذي. كما أن الأغلبية الوحيدة المعترف بها رسمياً في الدولة الحديثة هي الأغلبية السياسية. فالحاجة ملحة إلى اعتماد (المرجعية الوطنية)، كأساس تقوم عليها الدولة المدنية.
مفهوم الشرعية السياسية
في مسألة الشرعية السياسية، ورغم صعوبة تحديد معيار موضوعي لمعنى (الشرعية) و(المشروعية)، إلا أن مفهوم الشرعية يدور في الغالب حول فكرة الطاعة السياسية، أي حول الأسس التي عليها يتقبل أفراد المجتمع النظام السياسي ويخضعون له طواعية. أما مفهوم المشروعية يأتي بمعنى خضوع نشاط السلطات الإدارية ونشاط المواطنين للقانون الوضعي. فقد تكون السلطة مشروعة (مطابقة لأحكام القانون) ولكنها غير شرعية لرفض الجماعة لها؛ بسبب عدم تلاؤمها مع قيمهم وتوقعاتهم. والثورة شرعية عندما يتقبلها أفراد الشعب، ويتكتَّلون خلف قيادتها لإنجاز المهام الثورية، وغير مشروعة لمخالفتها القوانين القائمة. فالشرعية فكرة أو معتقد تتعلق بأساس السلطة وكيفية ممارستها، فهي مفهوم سياسي، أما المشروعية فهي مفهوم قانوني. (حسنين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية)
وبناءً على ذلك، يمكن القول بوجود سلطة تتمتع بالشرعية والمشروعية في آن واحد، وسلطة شرعية لكنها لا تتمتع بالمشروعية (السلطة الثورية)، والعكس أيضاً، هناك سلطة غير شرعية ولكنها تتمتع بالمشروعية، كحال الأنظمة الديمقراطية الصورية المزيفة، وهناك سلطة غير شرعية ولا تتمتع بالمشروعية في الوقت نفسه، كحال (السلطات الانقلابية).
أزمة الشرعية السياسية في تاريخ المسلمين
الشرعية السياسية هي واحدة من أهم ما تعاني منه الكثير من الأنظمة العربية، فهشام جعيط ينفي ارتباط الدولة العربية بالعقلانية، فهي دولة مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية. وفقدان الشرعية السياسية ليست أزمة جديدة في الجسم السياسي للأمة العربية والإسلامية، بل أزمة تاريخية قديمة. فيؤكد الشهرستاني أن أعظم خلاف حصل في الأمة، كان خلافهم حول الإمامة. وبعد استقراء محمد عمارة لتاريخ المسلمين، يصل إلى نتيجة مفادها أن المسلمين لم يختلفوا في الدين، ولم تنشأ فرقة من الفرق الإسلامية الرئيسية بسبب الخلاف حول عقيدة من عقائد الدين، ولا أصل من أصوله، وإنما كانت السياسة وفلسفة نظام الحكم، ومنصب الخلافة، واختلاف المناهج في سياسة الأمة، هي أسباب الخلاف، الذي أقام الفرق وأنشأ الأحزاب وأشعل الحروب والصراعات على امتداد التاريخ الإسلامي.
فمفهوم (وحدة المسلمين) كان محور السياسة الشرعية في الثقافة العربية الإسلامية، لذلك لابد للأمة من إمام حتى ولو كان جائراً، فليس المطلوب عدالته أو ديمقراطيته، ولكن وجود الخليفة ضروري. ولم يكن الاستبداد من معايب ومساوئ الخليفة أو الحاكم أو السلطان طوال العهود الإسلامية، طالما كان قادراً وقوياً وحامياً لبيضة الدين. وبالتالي ساد في الثقافة الإسلامية منطق (السياسة الشرعية) لا منطق (الشرعية السياسية) حسب محمد المختار الشنقيطي.
أزمة الشرعية السياسية في الواقع العربي الراهن
تبدو أزمة الكثير من الأنظمة العربية المعاصرة معقدة، فهي تعاني من فقدان الشرعية السياسية، فنظامها السياسي لم يتجهّز بعد بمقتضيات الشرعية الدستورية والديمقراطية الحديثة، وما زال أكثر شرعياته هو شرعية الأمر الواقع، حسب عبد الإله بلقزيز. ففي ظل غياب شرعية تُستمد من إرادة الأغلبية، لجأت معظم الأنظمة العربية إلى الاستناد إلى شرعيات تقليدية (دينية/ قبلية)، أو ثورية (قومية/تحريرية) أو أبوية تدعي الوصاية على المجتمع.
أمام غياب شرعية أكثر النظم العربية، لجأت الكثير منها إلى مختلف أساليب الكذب والمراوغة والخداع والازدواجية والاحتيال. ونتيجة لذلك نشأت آراء ومواقف بل واتجاهات وتيارات تبحث عن الشرعية انطلاقاً من أيديولوجياتها المختلفة. ويمكن استعراض هذه الاتجاهات والتيارات باختصار فيما يلي:
التيار القومي: المطالب بالدولة العربية (دولة الأمة في مقابل دولة التجزئة): ينطلق التيار القومي من مادته الخام المتمثلة بالقومية العربية، فالدولة الشرعية لديهم هي: دولة الأمة. الدولة التي تتطابق جغرافيتها السياسية والسيادية مع جغرافيتها البشرية، وليست تلك حال الدول التي قامت في الوطن العربي الحديث نتيجة هندسة سياسية استعمارية، رَسَمَتْ لها الحدود على مقاس مصالح الاستعمار، وعلى حدود عصبيات محلية صغيرة. وبالتالي، ينطلق الخطاب القومي العربي من إدانة الدولة القطرية، باعتبارها حالة تجزئة ومرحلة انتقالية وإفرازاً استعمارياً، وغير ذلك وفقاً لعزمي بشارة. فدولة التجزئة لا تعني أكثر من دولة ضد الأمة بتعبير برهان غليون.
التيار الإسلامي: المطالب بالدولة الإسلامية (دولة الشريعة في مقابل الدولة العلمانية): فتطبيق الشريعة هو أساس الشرعية السياسية لدى الكثير من الإسلاميين، وبالتالي تم إحلال الشريعة محلَّ الأمة أساساً للمشروعية في المجتمع والدولة حسب رضوان السيد.
التيار الليبرالي: المطالب بالدولة الليبرالية (دولة الحرية في مقابل دولة الاستبداد): ينطلق دعاة الليبرالية العربية من فرضية مفادها أن الدولة الوطنية القائمة تعاني نقصاً في الشرعية؛ بسبب مضمونها السياسي الاستبدادي، فهي دولة الحاكم الفرد المطلق السلطة، المتحلل من قيود القانون والرقابة الشعبية، المتصرف في شؤون الدولة تصرفه في شؤون أملاكه الخاصة. فدولة الحرية لدى الليبراليين العرب هي النهضة والغاية عينها، وهي أيضاً المشروع الفكري والسياسي ذاته. وبالتالي تفقد الدولة شرعيتها عند ممارستها الاستبداد واحتكار السلطة وعدم اشراك الأمة في الحكم.
التيار الماركسي: المطالب بالدولة الاشتراكية (دولة المساواة في مقابل الدولة الرأسمالية): فالهدف الأساسي للنظام الاشتراكي إلغاء الملكية الفردية، بمعنى أنه لا يجوز للفرد أن يمتلك أرضاً أو معملاً أو منجماً أو أي ثروة تحتاج في استغلالها إلى عامل أو عمال، وفقا لسلامة موسى. إذن تفتقر الدولة إلى الشرعية في الخطاب الماركسي العربي؛ لأنها دولة طبقة اجتماعية دون سائر الشعب، ولأنها دولة غير عادلة وغير منصفة لحقوق طبقات الشعب الكادحة.
فهذه التيارات والأيديولوجيات المختلفة والمتباينة في مسألة الشرعية السياسية، فبدلاً من الذهاب نحو تحديث الدولة وتأسيس شرعية سياسية وفقاً لمطالب الجماهير، ذهبت بالمطالبة بنوع خاص من الدولة وفقاً لأيديولوجياتها ورغباتها السياسية، ومن ذلك:
إيديولوجيا القومية العربية، والتي لم تحقق حق تقرير المصير بالتحول إلى أمة عربية واحدة. ويبقى السؤال حول واقعية طرح هذا الموضوع في المرحلة الراهنة، حيث يبدو أن الوحدة العربية أبعد منالاً منه في أي وقت مضى، كما يقول عزمي بشارة. خصوصاً مع حدة الانقسامات بين الدول العربية ذاتها، وانقسامات داخل الدولة الوحدة. أمام هذا التشظي، يرى عزمي بشارة أن السؤال الأهم هو: حول الهوية. وتحقيق العروبة هيمنة ثقافية من دون وحدة سياسية. ثم يؤكد أن الديمقراطية في البلدان العربية هي شرط تحقيق أي شكل من الوحدة العربية الطوعية بين الدولة القائمة.
أما ما يخص الأيديولوجيا الإسلامية المنادية بالدولة الإسلامية، فيمكن القول إن الدولة الإسلامية كمفهوم يمثل استمراراً لإشكالية الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. فالدولة الحديثة قامت على إطار جغرافي ثابت، وسلطة وشعب في ظل تفاهم دستوري. وبالتالي وُلِد مفهوم الدولة الإسلامية كمفهوم هجيني بين مفهوم الخلافة ومفهوم الدولة الحديثة. وعليه يقع هذا المفهوم في مأزق مفاهيمي وإشكال تطبيقي، طالما والدولة الحديثة المعاصرة قامت على الجماعة السياسية وليست الجماعة الدينية. فمفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، حسب وائل حلاق.
ما يخص الأيديولوجيا الليبرالية، فيمكن القول إن الإشكال لديهم أنهم تعرفوا إلى الليبرالية بوصفها نموذجاً عصرياً، يرى في الغرب صانع التاريخ ومثال التقدم. فمنهج الحضارة بحسب طه حسين هو أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب. ثم يؤكد: نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها، لفظاً ومعنى، حقيقة وشكلاً.
ومن الإشكالات التي تؤخذ على الفكر الليبرالي، ما عبر عنها عصمت سيف الدولة من أن الحل الليبرالي لمشكلة التغير الاجتماعي كان متضمناً معرفة أكثر بفاعلية الإنسان، وغير متضمن شيئاً يذكر عن فاعلية المجتمع. وستظل كل نظريات التغيير الليبرالية نظريات فردية. ورغم المركزية العليا في مسألة الحرية عند الليبراليين إلا أن علاقتهم بأيديولوجيتهم الليبرالية القائمة على الحرية كانت شكلية، فقد استعملوها كشعار ولم يتجاوزوا الشعار إلى التمثيل الفلسفي وفقاً لعبد الله العروي.
ما يخص الأيديولوجيا الاشتراكية، فيمكن القول ابتداءً إنها لم تكن حصيلة الصراعات الاجتماعية الطبقية ولا وليدة الحوار الداخلي للفكر، بل دخلت إلى الوطن العربي من الخارج. الأمر الذي أحدث فجوة بين التنظير الماركسي والواقع العربي. ومما يلاحظ أيضاً عجز الأيديولوجيا الاشتراكية عن مواكبة التطور التاريخي، كما لاحظ ذلك مصطفى محمود، أدَّى هذا العجز إلى انفصال الفكر الماركسي عن واقع القرن الذي نعيشه.
ومن الإشكاليات التي تواجه الأيديولوجيا الاشتراكية أنها قامت على مفهوم مغلوط للمساواة، فبدلاً من المساواة في الحقوق والوجبات، ذهبت إلى مداها الاقصى في مساواة الناس في المأكل والمشرب والملبس وفي الثروة والملكية، وهذا يقتضي مساواة الناس في الأذواق والمواهب والملكيات والقدرات والكفاءات. ورغم الفهم المغلوط للمساواة، إلا أن الاشتراكية لم تحققها بل ربما العكس تماماً، فالاشتراكية حين قامت في روسيا لتحقيق المساواة، ولم تعمل سوى إحلال نوع من عدم المساواة محل نوع أخر. فقد جاءت البروليتاريا باعتبارها قائمة على مجموع الشعب، إلا أنها انتقلت من البروليتاريا إلى الحزب، ومن الحزب إلى القادة الذين يأتون في رأس التسلسل الهرمي، ومن هؤلاء إلى السكرتير الأول للحزب.
الدولة التسلطية القائمة على شرعية القوة القهرية
أمام تلك التيارات والأيديولوجيات والشعارات التي رُفعت وشغلت الفكر العربي، وأثبتت عدم جدواها في الواقع الراهن وبالتالي فشلها، كان المنتصر من وراء هذا الفشل هو الاستبداد والطغيان والاستغلال الذي يُمارس على الشعوب المستضعفة من قبل أنظمة تسلطية قهرية.
هذا الفشل أدَّى – تزامناً مع دور القوى الاستعمارية – إلى قيام دولة تسلطية تعتمد في شرعيتها على القوة القهرية. فحين تلجأ دولةٌ إلى ممارسة هذا النحو من السلطة القهرية، مثلما هو حاصل في أكثر البلاد العربية، فهي بذلك تفصح عن أزمة الشرعية فيها، وتكشف عن مقدار ما تعانيه من غياب المشروعية السياسية للسلطة.
ورغم اعتماد الدولة العربية على الشرعية التسلطية القهرية، حاولت جاهدةً أن تضفي على وجهها بعض المساحيق التجميلية، وترميم واجهة شريعتها المشروخة، من أجل إضفاء شرعية ما، حتى تنال أكبر قدر ممكن من المؤيدين لها. ذلك – مثلاً – ما يفسّر تداعيها لإقامة إطار (توحيدي) جامع هو (جامعة الدول العربية) للإيحاء بأنها لا تقدس التجزئة وليست سادناً لها، كما صوَّرها القوميون، ولا تعادي فكرة الوحدة العربية. وهو عينُّه ما يفسّر لماذا نَصَّت دساتيرُها على أن الإسلام دين الدولة، وأنه المصدر الأساس (أو مصدرٌ أساس) للتشريع، ولماذا حوفِظ على التعليم الديني والوقف والأحوال الشخصية الشرعية. ثم إن هذا نفسُه ما يفسر بعض ظواهر الشعبوية عندها في مخاطبة الجمهور، وفي الإيحاء بالتعاطف مع المطالب الاجتماعية للفئات الكادحة والمعدمة. كانت في كل هذه الحالات، تجرب أن تدفع عنها التهم الثقيلة التي حاصرتها منذ الميلاد: التجزئة، التكفير، العمالة للأجنبي.
رغم تلك المحاولات الترقيعية – كما يقول عبد الإله بلقزيز – إلا أنها لم تنجح. زادت انكفاءً في حدودها الكيانية الضيقة، وانهارت الفكرة العربية عندها، وتعطلت مؤسستها الوظيفية (الجامعة العربية)، وانفجر في وجهها المد الإسلامي فحاصر قدرتها على المناورة والاستيعاب. ثم زادت معدلات ارتهانها للأجنبي، ليزيد معه معدل إفقارها للمجتمع والناس، وعدوانها على القوت اليومي للمواطنين. وبكلمة، زادت أسباب محنة الشرعية لديها. ولكن من دون أن ينجح مناهضوها في كسب أي معركة ضدها: لا الوحدة، ولا الشريعة، ولا الاشتراكية.
الدولة المدنية: الشرعية التأسيسية
الدولة المدنية لأنها دولة الحكم المدني، فهي بهذا الأساس الدولة القائمة على الشرعية التعاقدية. أي الشرعية المنبثقة من أوساط الجماهير، دون فرض وصاية عليها من أعلى، سواء كانت هذه الوصاية تحت لافتة دينية أو قومية أو علمانية أو اشتراكية. فهي دولة تجسد إرادة مجتمعها.
وخلاصة لما سبق، فإن السعي نحو تحقيق الدولة المدنية القائمة على شرعية العقد الاجتماعي، أمر لا يمكن تأجيله، خصوصاً مع ما تمثله الكثير من الدول في المجتمعات العربية من أزمة حقيقة في شرعيتها. وعليه، لا يكفي نقد الدولة، بل الواجب الاجتهاد في كيفية الانتقال إلى السلطة والإدارة السياسية التي نريد، من خلال بناء إجماع وطني وعقد اجتماعي يمثل جميع أطياف الشعب.
ومن هنا، يُحتم الانتقال إلى دولة الشرعية المجتمعية، تضافر الجهود والوقوف على أرضية مشتركة بين كل التيارات والأيديولوجيات، والعمل على مراجعات حقيقية تحقق الشرعية التأسيسية للعقد الاجتماعي. فلن يقوم بمشروع الأمة فصيل واحد من فصائلها، بل مجموع أفراد الأمة، بإسلامييها وغير إسلامييها، من كافة تياراتها واتجاهاتها الفكرية والمذهبية، كما يقول سلمان العودة. ووضع كهذا، يحلم المواطن العربي والمسلم الوصول إليه، يحتم على:
– التيار القومي: الانتقال من (من الفرد القومي إلى الفرد المواطن)، الدولة الوطنية أولاً.
– التيار الإسلامي: الانتقال من (الشريعة إلى القانون)، دولة القانون أولاً.
– التيار الليبرالي: الانتقال من (الحرية الفوضوية إلى الحرية الأخلاقية) دولة القيم المجتمعية أولاً.
– التيار الاشتراكي: الانتقال من (مثالية المساواة إلى عدالة الواقع) دولة العدالة أولاً.
وأخيراً، فإن الدولة المدنية وحتى تُجسَّد على أرض الواقع العربي، فإنها تحتاج إلى قيم حضارية، واستعداد عقلي، ومناخ ثقافي يسوده الإيمان بالآخر واحترام حقوقه، واشتراك الأمة في رسم مسار حياتها وشؤونها المختلفة. فالشرعية – كما يقول سعد الدين إبراهيم – عملية صيرورة متدرجة، بمعنى أنها يمكن أن توجد بدرجات متفاوتة قابلة للنمو أو التضاؤل.
ففي ظل الجماعة السياسية، يُفترض التعدد واختلاف الأديان والمذاهب والأيديولوجيات، مما يعني ويوجب بناء النظام السياسي على مبدأ المواطنة السياسية، وهي علاقة انتماء سياسية إلى دولة سياسية مدنية؛ لأن الدولة في الأساس مؤسسة لمصالح عامة وطنية، في مقابل المصالح الخاصة، فهي تُلخص المشترك بين أفراد المجتمع الذي تهيمن عليه.